الحدث ـ محمد بدر
من يقرأ تاريخ لبنان السياسي والاجتماعي يستطيع بسهولة أن يستنتج لماذا لم يشهد لبنان ثورات شعبية في تاريخه المعاصر بينما غرق في الحروب الأهلية والصراعات المسلحة وغير المسلحة. في هذا البلد الصغير نسبيا، يتقاطع الإقليم مع العائلة مع الطائفة مع السياسة، وبمعجزة سياسية تجد أن النظام السياسي متوزان بطريقة لا تهدده وتحقق بعض الاستقرار في المجتمع ولكنها لا تمنح النظام والفرد القيمة والفعالية المطلوبة وكأن السياسة في لبنان تعيش بين الموت والحياة ولكن بدون وجع أو إدراك.
وهذه ليست المرة الأولى التي تخوض فيها الجماهير اللبنانية تجربة المطالبة بتحقيق العدالة، لكن ذلك ظل محكوما بتصور نخبة كل طائفة، حتى أصبح لكل طائفة مطالبها التي تتقاطع ولا تتقاطع مع الكل اللبناني. فكانت تجربة الشيعة الغنية من أهم التجارب التي أحدثت تغييرا جوهريا في طبيعة العلاقات السياسية والاجتماعية داخل لبنان، لكن شيعة لبنان لولا قدوم السيد موسى الصدر إليهم من النجف بمشروع حضاري طائفي نسبيا كبير لظلوا إلى الآن على هامش المجتمع اللبناني بانتظار المهدي بينما كان لكل طائفة مهدي وسلاح.
شهدت السنوات الأخيرة عدة موجات من الاحتجاج غير المحكومة بتصور سياسي، من بينها حراك "طلعت ريحتكن" الذي اختزل نفسه وأهدافه في مطالبات حياتية، واليوم ينطلق حراك جديد احتجاجا على ارتفاع ضريبة الواتس آب. قد يكون اللبناني الفرد رضي بالنخبة التي لا تموت إلا بقدر إلهي حتى لا يعود للحرب، لكنه لم يرضَ ولن يرضى بالمساس بشروط حياته واستنزافه وهو المستنزف بوجوه لا تتبدل ولا تختفي، لذلك لا عجب أن يهتف المتظاهرون ضد كل السياسيين لأن الفرد في لبنان يشعر أنه يعيش في ظلال نظرية أفلاطون السياسية في الحكم، والحاكمون الحكماء هم الطبقة التي يخوض معها صراعه الطبقي اجتماعيا واقتصاديا.
الوجه الآخر لموجة الاحتجاج في لبنان، يكشف عن قدرة العالم الرقمي على تحريك الجماهير بصفته مطلبا ووسيلة، وأن مجتمعاتنا العربية تتحول شيئا فشيئا إلى مجتمعات شبكية متخيلة تخضع الفرد إلى ثنائية العزل والاندماج، وهذا بفضل سيطرة التكنولوجيا الحديثة على المشروع اليومي للفرد. وأيضا تكشف لنا عن قدرة الأنظمة السياسية العربية على تشكيل أهداف الفرد من خلال ممارسة تاريخية مستمرة اغتالت فاعليته السياسية والمفاهيم الحديثة للحقوق الإنسانية المرتبطة بالسياسة.
وبالعودة عدة أيام للوراء، نجد أن المصريين خرجوا للشوارع بسبب قصور السيسي ولكنهم لم يتحركوا لمئات عمليات الاغتيال التي تمر من خلال طاولات محاكم النظام. ورغم أن المصري صاحب التجربة السياسية الأهم في العالم العربي على مدار التاريخ؛ إلا أنه أُفرغ من تصوره عن نفسه سياسيا، وأصبح ما يؤلمه هو ما يمسه بشكل مباشر، على قاعدة جحا (المهم راسي)، وكأن النظام السياسي العربي فكك المجتمع الضروري لقيام الدولة، فالمجتمع نقيض النظام وكذلك الدولة في العالم العربي.
لن يخرج الفرد في لبنان عن التقليد السياسي ولن يستطيع تغيير البنى التقليدية وهذا يتضح أكثر من خلال فشل التيارات السياسية اللبنانية صاحبة الأيديولوجيا فوق الطائفية في استقطاب الجماهير مثل الجماعة الإسلامية والتيارات اليسارية، ولكنه يوجه هذه التيارات إلى "الأيديولوجيا اليومية" والخصوصية السياسية العربية على طريق تفكيك الولاءات الكبيرة والانتماء للصباح والمساء بما يتجاوز التوقيت واللحظة. قد ينتصر هذا الحراك وحتما، لأن السياسي الطائفي يخشى من اختلال اللغة المفاهيمية التقليدية السياسية في لبنان وبالتالي هو مضطر للتعاطي معه بإيجابية، لكن لبنان الدولة بحاجة للخروج من التاريخ لكي تنتصر نهائيا.