لم نفهم لبنان، لم نفهم لبنان أبداً، ولن نفهم لبنان، لن نفهم لبنان إلى الأبد. لم نر من لبنان غير صورتنا على وجه الحجر المصقول، مخيِّلة عيد خلق العالم على شاكلتها، لا لأنها واهمة، بل لأنها في حاجة إلى أن ضع للخيال موطىء قدم. شيء من صناعة الفيديو: نكتب القصة، والسيناريو، والحوار، ونختار الممثلين والكاميرا والمنتج والمخرج، ونوزع الأدوار دون أن ننتبه الى أننا نحن الموزعون في أدوار. وحين نرى الى وجوهنا ودمنا على الشاشة، نصفق للصورة ناسين أنها من صناعتنا.
وما أن يتحول الإنتاج الى إعادة انتاج حتى نصدِّق أن «الآخر» هو الذي يشير إلينا. هل كان في مقدورنا أن نرى بشكل آخر غير ما يسهل علينا تأليب الواقع على ماديته؟ بنيتنا التحتية هي المعنويات. ماركس واقفا على رأسه، معيدا هيغل للوقوف على قدميه بأدوات ميكافيللي الذي أسلم على باب خيمة من خيام صلاح الدين. ألأن لبنان هو هكذا، يستعصي على الدراسة والادراك؟ أم لأننا لا نملك من أدوات معرفة لبنان غير هذه الطريقة في التوفيق؟
لا أتورط بمحاولة الإجابة، بقدر ما أزُّج نفسي في حيرة: لا أحد يفهم لبنان، لا أصحابه المجازيون، ولا صناعه، لا مدِّمروه ولا بُناته، لاحلفاؤه ولا أصدقاؤه، لا الداخلون ولا الخارجون. ألأن الواقع المفكك لا يدرك، أم لأن الوعي المفكك لا يدرك...؟ ولا أريد جوابا صحيحا، بقدر ما أريد سؤالا صحيحاً.
لم نر من لبنان غير اللغة التي شيع فينا غريزة الوجود، وعلاقة قربى رفعها الى مستوى الخطاب القومي ذلك المصري الكبير عبد الناصر الذي خاطب في سكان هذه القارة المتحولة الى فسيفساء حاسة الغياب المرهفة، وسمّى من النهر ضفافا تخفي ما في النهر من وحل، وطوائف، ونفايات صليبيين كانت جِّدد حياتها، في هدوء الظلام، خلف دوِّي الخطاب، الى أن انكسر الخطاب فتقدمت بخطابها شبه المشترك.
فيديو... أن نرى ما تريحنا رؤيته، في لحظة يتحول فيها شرط حياتنا الى هذه الرؤية، المتحدرة من الخطاب الكبير، في محاولة لتحويلها الى وعد راجع عن الوعي، فصار ممثلو الأغلبية أقلية محاصرة.
فيديو... لأن الزمن ليس زمن أنبياء تحول فيه العزلة الى بوصلة صواب، والأقلية - المترسبة من مشروع الأكثرية - الى هداية.
فيديو... لأن حزيران المصنوع ليكون نهاية الفكرة العربية لا حيله الأنظمة، المشاركة في صناعته، الى انتقام الشارع ليكون بداية البديل، بل لامتصاص ما ينبغي امتصاصه من غضب لا يرد، جرت أثناءه الأنظمة عملية تثبيت انعطافها نحو سيادة الفكرة الإقليمية، والفكرة الطائفية.
فيديو... لأن ماركيز صيدا الذي ينتظر إذن البابا بوضع أخته تحت مسلم، وإلا فبنت أخته، لا يصلح حليفًا حقيقيًا ضد الإنجليز الذين يحاصرون عكا.
وفيديو... لأن سقوط المركز بالتوقيع على معاهدة ضمن نهاية الحروب، يأذن بهجوم الأطراف على مركز الموضوع، ونقله من موضوع دعوة الى موضوع انشقاق وفتنة.
وفيديو... لأن اقتسام الساحل والجبل بين العرب والإفرنج، في هذه الشروط المعاصرة، لا يرمي الى ضمان احتفاظ العرب بما بقي لهم من قلاع ومدى، لمواصلة الصراع، بل يرمي الى منح العدو هدنة وفر له امكانية تأسيس نماذجه الكفيلة بانتقاله من استثناء الى قاعدة. وفيديو... لأن هذا الضلع من الجزيرة، الضلع المكسور، مطلوب للمحاكمة بتهمة الاعتداء على راحة العروش بترويج كلمات ممنوعة التداول في الأطراف العربية: امرأة، معارضة، كتاب، أحزاب، برلمان، حرية، خنزير، ديمقراطية، شيوعية، علمانية.
وفيديو... لأن فلسطين تطورت من وطن إلى شعار ليس للتطبيق، بل للتعليق على الأحداث، ولتزويق خطاب الانقلاب، وحل الأحزاب، ومنع زراعة القمح، واستبدال الكدح بالربح السريع، والى طوير صناعة الانقلاب، الثقيلة منها والخفيفة، الى أن يعقد القران على آخر حفيدات الخليفة... وعلى الحدود، علن الحرب على الحدود.
لذلك، كان علينا ألا نرى من لبنان غير ما رأيناه من صناعة الأمل، وجه البطولة الساطع المتفجر من المدافعين عن يأسهم العظيم أمام أمل الصدفة المنغلقة ومن هجوم بحر الصحراء على جزيرة الروح الصغيرة. أسماء الأمكنة ضيق وتضيق وتنكمش، من الوطن الممتد من المحيط الى الخليج الى ما هو أضيق: شرم الشيخ، جبل الشيخ، الضفة الغربية لنهر الأردن، مدرسة البنات في نابلس، حارة السجعية في غزة، غاليري سمعان، شارع أسعد الأسعد في بيروت، فندق طابا في سيناء، بئر العبد هنا، مخيم شاتيلا، مستديرة المطار، الى متراس أخير كون بعده الصحراء أو البحر...
لتتقدَّس أيديكم، أيها القابضون على الحجر الأخير وعلى الجمر الأخير.
لتتقدَّس أيديكم الرافعة، وحدها، جبالاً من أنقاض الفكرة اليتيمة.
وليتحول ظلكم المحروق الى رماد عنقاء يجدِّدكم لتبنوا منه ومنكم مغارة لطفل يولد.
ولتنبت أسماؤكم حبقًا وريحانًا على سهل يمتد من خطاكم، سهل لتهتدي حبَّة القمح إلى ترابها المسروق. أيها المشرقون فينا أقمارا يعجنها دم سخّي ينادي حرَّاس القلعة الهاربين الى صفوف الأعداء، فلا يجيب سوى الصدى الساخر: وحدكم! من آثار خطاكم، الخطى التي لاخطو إلا تحت أو فوق، سنلمّ الجزر المتطايرة المتنافرة كما يلمّ الشاعر البرق المتناثر من حوافر خيل على صوان. ومن خيمة هي ما يسيل علينا من ريش الصقور المعدنية سندل القبائل على حدود أسمائها.
... وحدكم!
فاحموا حّد النشيد، كما حمون، مما يثلم القلب في هذه البرّية الضيقة، الضيقة كمدى لا يطلُّ من النافذة...
...وحدكم!
البحر من ورائكم، والبحر من أمامكم، والبحر عن يمينكم، والبحر عن يساركم، ولا يابسة إلا هذه اليد الممسكة بحجر هو الأرض.
... وحدكم!
فارفعوا مائة مدينة أخرى على هذا الزناد، لتخرج المدن القديمة من اصطبلاتها ومن سلطة الجراد النابت في خيام الفراء الصحراوي. دلونا علينا لنفرغ ما فينا من حمولة جثث ليست لنا، ومن ثمر فاسد دلى من لغة ليست لنا، ولنتابع المشي على خطانا لا على خطى قيصر... ل ّص الهوية والطريق... لم يبق لنا من موت إلا موت الموت...
وحدكم...
تحمون سلالة هذا الساحل من اختلاط المعاني، فلا يكون التاريخ سلس المراس، ولا يكون المكان إرثًا يورث.
ولتقدَّس أيديكم أيها القابضون على الحجر الأخير وعلى الجمر الأخير.
ذاكرة للنسيان-1982
البوستر: كمال بُلاطة