كيانان عربيان لهما مكانة خاصة في حياة الفلسطينيين، كما لهما نفوذ عاطفي عميق لا يفتر بفعل الزمن حتى لو استطال كثيراً... لبنان وتونس.
هم مثلنا بلدان صغيران بالقياس مع الكيانات التي تحيط بهما وتلعب على أرضهما الضيقة، وكذلك مثلنا في ضعف الموارد الذاتية كالنفط والمعادن، ومثلنا فيما هو الأهم من خصائص الشعوب والمجتمعات واعتبار الإبداع مقوم وجود ومن دونه التلاشي والاندثار، ونسبة المتعلمين والخريجين والإسهام في بناء الاقتصادات تؤكد ذلك.
حين انطلقت شرارة الربيع العربي من تونس، كان الفلسطينيون يتابعون ما يجري كما لو أنهم هناك أو أنه هنا، خاصة أولئك الذين لجأوا إلى ذلك البلد وعاشوا بين أهله وتصاهروا وأنجبوا، حتى أن بعضهم لا يزال هناك، وحين جدد التونسيون ربيعهم بالانتخابات الرئاسية والتشريعية؛ أيقظوا وبصورة تلقائية ما كان نائما في حياة الفلسطينيين، أي فكرة الانتخابات التشريعية والرئاسية كمخرج من الأزمات والاستعصاءات، كربيع يستبدل الساحات والمظاهرات والصدامات بصندوق الاقتراع.
وبالتزامن مع ما جرى في تونس، يجري ما يجري في ضلع المثلث العاطفي الفلسطيني لبنان، وبحرارة المتابعة لما جرى ويجري في تونس؛ يتابع الفلسطينيون ما يجري في لبنان وكأنه في داخلهم وبعيدا عن الفضول الشعبي التلقائي يلتقط الفلسطينيون كل ساعة إيحاءً موجها لهم، والذكاء الفلسطيني كفيل بفهم السطور وما بينها.
بخصوص لبنان، لو قلت ذات يوم إن الطائفية محكوم عليها بالتراجع فلن يصدقك أحد، ولو قلت إن الزعامات اللبنانية التي تعد على أصابع اليدين والذين هم سدنة الحكم باسم الطوائف أو حتى المقاومة، سيتعرضون لأوسع ثورة شعبية ضدهم بالتحديد لما صدقك أحد، ولو قلت إن الذي كان صاحب أكبر شعبية في لبنان والعالم العربي السيد حسن نصر الله سيهتف ضده وبأقذع العبارات لما صدقك أحد، غير أن ما حدث ويحدث في لبنان في الأيام التاريخية التي أخفق فيها العلم اللبناني كأقوى وأعمق رمز لوحدة الشعب من كل الفئات والطوائف، جعلنا نصدق أن ما كان مستحيلا صار ممكنا، وما كان راسخا في الحياة السياسية السائدة رسوخ الجبال تتم الآن زعزعته ليس بالبنادق ولا بحروب الطوائف والأجندات التي أفرزت قتالا حتى بين أبناء العائلة الواحدة، بل بما هو أبسط وأعمق، أي النزول الكثيف إلى الشارع.
ما يتم التبشير به الآن، ليس بالضرورة سوف ينتج دولة لبنانية جديدة خلال أيام أو أسابيع أو حتى أشهر؛ بل إنه بداية النهاية لواقع بلد كان يسمى بمجهود مبدعيه سويسرا الشرق، وصار في القرن الحادي والعشرين وبالمفارقة مشروع دولة فاشلة.
البدايات في أمر كهذا قد تطول الفصول التي تليها، ومن السذاجة عدم توقع احتشاد ضدها، يجمع حرسا قديما يرى في التغيير الشعبي وبالطريقة التي تجري وبالأفق الذي يعلن إنهاءً جذريا لامتيازاته واحتكاره الأزلي للتحكم بالمصائر، كما ستحتشد ضدها قوى المعادلة العربية المتحجرة التي ما انفكت ترى في لبنان منطقة حرة بلا أبواب ولا أسوار لألعابها ومصالحها وأجنداتها التي هي دائما ووفق التجربة المعاشة أجندات وهمية ذات عناوين مجيدة ومضامين كاذبة.
أحد أضلاع المثلث الفلسطينيون، فهم ليسوا بعيدين عما يجري في البلدين الأقرب إلى قلوبهم وتجاربهم وحتى مزاجهم، ولأن قوانين الطبيعة تقول إن لكل بيئة ربيعها الحتمي، فإن ربيع الفلسطينيين المحتمل قادم لا محالة، وبالتأكيد لن يكون نسخة طبق الأصل عن توأمه اللبناني، إلا أنه سيسعى إلى نفس الهدف أي إنهاء صيغة الجمود المتوارثة لمصلحة توليد طبقة سياسية جديدة يفرزها صندوق الاقتراع الحر، وعلى الطبقة السياسية الفلسطينية أن تقلق بفعل قرب نهاية المعادلة البائسة التي اعتمدت عليها لتخلد دورها والتي مبتدأها وخبرها أن هذه الطبقة مسؤولة عن إنجاز انبثق من منتصف القرن الماضي وما زالت تلوفه حتى نهاية الخمس الأول من القرن الحالي، فكل إنجاز يحققه الشعب في زمنهم هو أداة لاستنساخ خلودهم وكل إخفاق، والسلسلة تمتد وتتعاظم فهو ليس من مسؤوليتهم ولا صلة لهم به.
لكي نتفادى احتمالات الفوضى في كياننا المحاصر والمكتظ بالأزمات والتمزقات، فلن يبقى لربيعنا كي يزدهر وينقذنا من حيث نحن الآن، إلا صندوق الاقتراع.
موضوعيا، أوافق على أن هذا الصندوق لن يقدم مخرجا فوريا من المأزق الذي نعيش، إلا أنه الخطوة المضمونة والأكثر جدوى بعد أن عانينا ما عانينا من استبعاده واستبداله بكلمة مستحيلة اسمها الوفاق بين المصالح والأجندات، ولكي يكون ربيعنا آمنا وإيجابيا وفعالا في ترميم حاضرنا وبناء مستقبلنا؛ سيتعين علينا كمواطنين أولا أن نعرف كيف نستثمر الصندوق وكيف نصوت هذه المرة، فلقد جربنا التصويت الفصائلي وفشلت تجربتنا وجربنا التصويت المناطقي فتضاعفت أزماتنا، وما بقي لنا بعد ذلك كله إلا أن نصوت لمن نراه الأقدر على حمل رسالتنا والتقدم بقضيتنا وحقوقنا والشرط البديهي لذلك أن نقرأ جيدا تجربة توأمنا اللبناني والتونسي.