بناء الذات عند نيتشه كما عند مونطيني، هو مشروع فردي بشكل أساسي، لا يترك الفرصة لأن نقلد، بالمعنى الأساسي للكلمة، المثال الذي قدمه شخص آخر؛ لأنه بدلا من أن نبدع ذواتنا، فإننا نقوم بتقليد ذلك الشخص الآخر. ومع ذلك، لا يتم تهديد الفردية فقط عندما نقلد شخصا آخر، ولكن أيضا، بطريقة أكثر قتامة وأكثر خطورة عندما تتم محاكاتنا من قبل الآخرين. يتميّز نيتشه عن الفلاسفة الآخرين الذين فكروا في فن العيش من خلال الوعي الحاد الذي حصل له بهذا الخطر والقلق الذي تسبب له فيهما هذا التهديد. النجاح في خلق الذات يمكن أن يؤدي إلى فشل هذه المهمة نفسها. لأنه إذا تم تقليدنا بالفعل من قبل الآخرين، إذا كان أسلوب الحياة الذي وقع عليه اختيارنا يكفي لباقي العالم ليصبح نموذجًا للطريقة التي يجب أن تعاش بها الحياة بشكل عام، عندئذ فإن ما يميز في الأصل الفرد عن العالم الذي يعيش فيه يبدأ يشكل جزءًا من هذا العالم. إنه ليس هو، هذا الشخص يصير، لاستخدام كلمات نيتشه، واقعة:
"المقلدون. - أ… : "كيف؟ لا تريد أن يكون لك مقلدون؟" - ب… : "لا أريد تقليدهم لشيء ما من عنديتي، أريد أن يكون كل واحد نموذجًا لنفسه.. هذا ما أفعله". - "إذن... ؟" "تفترض الفردانية مثل الأسلوب، التعددية والمعارضة؛ إذا كان الجميع يتبنى النمط نفسه، فإن الأسلوب يختفي ولا يعود سوى طريقة عادية للتصرّف أي درجة الصفر في الحياة. يتعرض تاريخنا الفردي لخطر تقليد النموذج الذي يقدمه شخص آخر وخطر أن يصبح هو ( التاريخ ) ذاته نموذجًا يحتذي به الآخرون بدورهم. إن الجمع بين هذين الخطرين هو أحد الأسباب التي تجعل موقف نيتشه تجاه سقراط معقدًا للغاية، في نهاية التحليل، كما سنرى.
يدرك نيتشه تمامًا أنه ليس من الضروري أو من الممكن أو من المرغوب فيه دونما شك، أن تكون الحياة التي قام ببنائها مثالاً يحتذى به.
هذا واحد من مظاهر نزعته "المنظورية"، ويعتقد، مثل مونطيني، أن حياة كل فرد تتكون من مجموعة فريدة من الأحداث. لا وجود لطريقة شاملة يصنع بها الإنسان تاريخه الخاص - إلى الحد الذي يكون في الواقع تاريخه وليس التاريخ التي تمليه المعايير المقبولة من لدن العالم بشكل عام. يجب أن يكون الأفراد على الأقل جزئيا، مستقلين عن المعايير التي تحكم العالم الذي يحيط بهم. لكن نيتشه يعتقد أن هذه المعايير تحدد، بشكل عام، ما هو حسن وما هو ليس بحسن. ويقول إن البشر "حيوانات اجتماعية"، لأنه يعتقد أن الإنسان يكون صالحا يعني أنه في تناغم مع العالم الذي يعيش فيه، ألا يثير اهتمام الناس، ألا يهدد أو يقلب الحياة التي يكون معظم الناس قادرين على عيشها. تفرض معايير الخير على الجميع القيام بما يفعله الآخرون. بل إنها استعملت لإقناع عدد كبير من أولئك الذين ربما تصرفوا بشكل مختلف بالتنكر لاختلافهم، بالانضمام إلى القطيع.
هذا هو الجانب الثاني من لا أخلاقية نيتشه؛ فالأخلاق كما يراها تحاول منع خلق إمكانيات جديدة ومنع تدمير المعبد:
"من الذي يكرهه [الصالحون] أكثر؟ إنه المبدع الذي يكرهونه أكثر من غيره.. الشخص الذي يكسر الطاولات والقيم القديمة، هو الكاسر - هو من يسمونه بالمجرم. - لأن الصالحين لا يمكن لهم أن يبدعوا، فهم دائما بداية النهاية: - / - إنهم يصلبون الشخص الذي يكتب قيما جديدة على ألواح جديدة [...]". للحديث عن الأمر بكلمات عامة، تأتي الأخلاق أولاً لتلتصق بالمبادئ التي تمليها احتياجات مجموعة معينة. هذه المبادئ مبنية على رغبة المجموعة في البقاء كما هي.. من لا يلتزم بهذه الرغبة لا يجب أن يتقيد بها ( المبادئ). لكن الأخلاق تخفي الأصول المرعية والجزئية لهذه المبادئ المشروطة، هي تفرض أن تحظى المبادئ بالقبول ليس لأنها نافعة لفئة معينة وعادية من الناس ولهذه الفئة وحدها؛ هي تدعي أنها مبادئ غير مشروطة، وأنه يجب قبولها لمجرد أنها صالحة بوجه عام، وبالتالي تنطبق على الجميع - أيا كانت آراؤهم وحاجاتهم ورغباتهم - وليس فقط على فئة معينة بحكم أقدارها الخاصة. مثلا، الأمر الأخلاقي الذي يريد منا ألا نسيء لأحد يعني باختصار أنه "إذا ما استمعنا إليه ببرود ودون تحيز: "نحن، الضعفاء، إنا ضعفاء بكل تأكيد؛ سوف نعمل جيدًا على ألا نفعل أي شيء لسنا عليه أقوياء بما فيه الكفاية." - لكن هذا الإقرار المرير، هذه الحكمة المتدنية جدا التي تمتلكها حتى الحشرة، ظهرت كواجهة مفخمة لفضيلة تعرف كيف تنتظر، تنبذ وتصمت، كما لو كان ضعف الضعفاء ذاته - أي ماهيته، نشاطه، واقعه الفريد كله، الحتمي واللايعوض - كان إنجازًا حرًا، شيئًا مرغوبًا فيه، مختارا، فعلا، استحقاقا".
سقراط، وفقا لنيتشه، هو الذي أعطى أولا منحى أخلاقيا لأحكام القيمة في سياقها الأصلي، أي في الثقافة اليونانية المبكرة تم إصدار أحكام القيمة تلقائيًا من الافتراض الضمني أنها اكتسبت بالثقافة وببقائها، ولذلك توقفت على رفاهية هذه الثقافة بالذات - بعبارات كانطية كانت "افتراضية" وحذرة. لكن سقراط أكد أن أحكام القيمة يجب أن تكون غير مشروطة. وأصر على أنه، لكي تنطبق عى شخص ما، كان عليها أن تستند إلى أسباب وجيهة لدى الجميع، حتى لو اختلفت حاجاتهم وأقدارهم. سقراط اذن هو أصل الفكرة القائلة بأن كون نمط حياة يخدم مصالح أو أقدار أشخاصا أو مجموعات معينة لا يشكل أبداً سبباً أخلاقياً لقبوله. يجب أن نتبنى مسارًا للعمل فقط إذا كان صحيحًا، إذا كان يجسد القيم الحقيقية والأفكار الصحيحة. أن تتبني نمط حياة لأسباب احترازية فذاك نابع من اختيار، من رغبة في أن تكون مثل أولئك الذين يعتقدون أن نمط الحياة هو ما يجعل هذه الحياة جيدة أم لا. اعتماد أسلوب حياة لأسباب أخلاقية نابع من التزام، من الاعتراف بصحته. الخير والحق مثل الفضيلة والمعرفة يسيران جنبا إلى جنب.
أجاب آرثر دانتو على ذلك بأن وجهات النظر وفق نيتشه، لا تكون صحيحة إلا إذا "أبرزت قيمة الحياة ويسرتها". نيتشه، إذا التزمنا بتفسير دانتو المقبول على نطاق واسع، "اقترح معيارا براغماتيا للحقيقة: ب صادق و ج كاذب إذا كان ب يعمل و ج لا يعمل" . قد تشير بعض المقاطع من أعمال نيتشه إلى أنه ربما كان يميل في بعض الأحيان إلى التمسك بمثل هذه النظرية، لكن بعض المقاطع الأخرى تظهر أنه يرفض البراغماتية بطريقة أكثر وضوحا:
"الحياة ليست حجة - لقد قمنا ببناء عالم يمكننا العيش فيه - مع الاعتراف بوجود أجسام، خطوط، أسطح، أسباب ونتائج، حركة وسكون، شكل ومحتواه: بدون عناصر الإيمان هاته لا يقوى أي أحد على الحياة! لكن ليس ذلك حجة في صالح هذه العناصر. الحياة ليست حجة لأنه ضمن ظروف الحياة يمكن أن يتواجد الخطأ".
قد تكون الأفكار الأساسية والأحكام التي تضمن البقاء على قيد الحياة، مع كل ما نعرفه عنها، خاطئة على الرغم من كل شيء. يرفض نيتشه مماثلة الحقيقة بالمنفعة التي يدعو إليها البراغماتيون.
وبدون اللجوء إلى النص، يجب التأكيد على أن إسناد مثل هذه المماثلة إلى نيتشه هو تعريض فكره لواحد من أهم الاعتراضات التي يوجهها هو نفسه إلى الدوغماتية. لماذا نعتقد أن قيمة الحقيقة غير مشروطة، أن "ليس هناك ما هو أكثر ضرورة من الحقيقة، وفيما يتعلق بها، فإن كل الباقي له قيمة من الدرجة الثانية فقط؟ لا يمكن لأي حساب بمنطق المنفعة أن يقنعنا بذلك:
"ماذا تعرفون في المقام الأول عن طبيعة الوجود حتى تكونوا قادرين على تقرير ما إذا كانت الميزة الأكبر هي إلى جانب الحيطة المطلقة أو إلى جانب الثقة المطلقة؟ لكن في حال كان كلا الأمرين ضروريين، [...] من أين يستمد العلم إذن إيمانه المطلق، هذا الاعتقاد الذي يتخذه أساسا له، ( الذي مفاده ) أن الحقيقة أكثر أهمية من أي شيء آخر، وأيضاً أكثر أهمية من أي اعتقاد آخر؟ هذه القناعة، على وجه التحديد، لم يكن من الممكن أن تكون قد تشكلت، إذا كانت الحقيقة واللاحقيقة تؤكدان في نفس الوقت، منفعتهما، تلك المنفعة التي هي واقعة".
تنفي الفلسفة البراغماتية هذا التناقض على وجه التحديد بين الحقيقة والقيمة. نيتشه ليس براغماتياً، وهو لا يقبل بتاتا أي نظرية أخرى عن طبيعة الحقيقة. على العكس من ذلك، هو يدافع عن الفكرة الهامة والمثيرة للجدل بأنه لا فائدة ترجى من محاولة تفسير الحقيقة. إنه لا يعتقد أن هناك تعريفا للحقيقة، طريقة مفيدة ووحيدة بها نفسر لماذا تكون جميع أفكارنا صادقة. يعتقد الكثير من الناس أنه في غياب مثل هذا التعريف، لا يمكن لأي فكرة من أفكارنا أن تكون صادقة على الإطلاق، أو أنه إذا كانت الفكرة صادقة، فقد كانت كذلك بدون سبب. لكن هذا خطأ. يمكننا أن نجد سبباً محدداً أحياناً معقدا جداً، لكل ما نعرفه، هذه الأسباب تكون مختلفة باختلاف الحالات؛ بعضها ليس أكثر تعقيدا من اثنين + اثنين = أربعة، والبعض الآخر معقد مثل براهين الفيزياء المعاصرة. تنفي النزعة المنظورية القدرة على أن نستخلص من كل هذا صيغة عامة مفيدة وعادلة في نفس الوقت.
حاول نيتشه في كثير من الأحيان شرح سبب اعتقاد الناس أن بعض الأفكار صحيحة. أحيانا قال إنهم يفعلون ذلك لأنهم يؤمنون بفائدة هذه الأفكار؛ أحيانا أخرى كتب أن هذه الأفكار تمنحهم شعوراً بالقوة المتزايدة. لكن هذه الدوافع تفسر ببساطة لماذا نريد أن نعتبر أن بعض معتقداتنا صحيحة، سواء كانت كذلك في الواقع أم لا. إنها لا تمت بصلة إلى حقيقة معتقداتنا نفسها.
قد يعتقد المرء أنه في غياب نظرية عامة عن الحقيقة، لا يمكن للمرء أن يحكم على صواب فكرة معينة أو على بطلانها. إذا لم نكن نعرف ما هي الحقيقة، كيف نتعرف عليها عندما نلتقي بها؟ في الواقع، قد يميل بعض الناس إلى الاعتقاد بأنه إذا لم يكن لدينا مثل هذه النظرية، فلا يُسمح لأحد بالتظاهر بأن شيئًا ما حقيقي.. قد تظهر نظرية الحقيقة، جزئيًا، كمعيار يسمح لنا بتحديد ما هو صحيح من معتقداتنا؛ بدون معيار كهذا، سيكون من المستحيل اتخاذ مثل هذا القرار. أنا لا أتفق مع هذه الفكرة، التي تشكل من قبيل المفارقة ما كان يسمى ب" السفسطائية السقراطية ". هذه الفكرة، التي هي سفسطة، ولكن بمفارقة أكثر، لا نصادفها عند سقراط، تفيد أنه إذا لم نكن نعرف ما هي العدالة أو الشجاعة مثلا، لا يمكن لنا أن ندرك أي واحد من تجلياتها. غير أن هذا غير صحيح والدليل على ذلك التفنيد السقراطي: سقراط، مثلا، لا يستطيع تفنيد استدلال لاخيس - الذي اعتبر أن الشجاعة ليست تراجعا أمام العدو - بالتأكيد على أن الحيثيين أبانوا عن شجاعة بينما يقاتلون وهم يتراجعون، لا لشيء سوى لأنه يستطيع الاعتراف لهم بسلوك شجاع. لكنه يقر صراحة بأنه لا يعرف ما هي الشجاعة. بدون نظرية عن الشجاعة، لا يمكننا دائمًا أن نقرر ما إذا كان فعل شجاعًا أم لا؛ بدون نظرية عن الحقيقة، لا يمكننا دائمًا أن نقرر ما إذا كان اعتقاد صحيحًا. لكن لا يترتب عن كوننا نفتقد لمثل هذه النظرية أننا لا نستطيع أبداً التعرف على الشجاعة أو الحقيقة.
تشير المنظورية إلى أن بعض الحالات لا يمكن الحسم في أمرها، لا ينطبق ذلك على كل واحدة منها. هناك على الأرجح منظورات ليس لها الكثير من القواسم المشتركة، حتى لو وجدت نفسها في تنافس - رغم أنه من المستحيل على أي شخص أن يحيا بمنظورين مختلفين في نفس الوقت - فليس من المستحيل بنسبة أقل على المدافعين عنها أن يحلوا خلافاتهم، حتى لو كانت ظروف التواصل مثالية. يمكن حل كل هذه الاختلافات، من حيث المبدأ على الأقل، ذلك هو حلم الدوغماتية. إذا كانت هناك معايير عامة لا تاريخية لقياس الدقة من شأنها أن تميز مرة وإلى الأبد ما يصدر عن الحقيقة وما لا يصدر عنها، وإذا وافقت هذه المعايير، من حيث المبدأ على الأقل، الجميع، عندئذ بفضل الوقت والإرادة الحسنة، لا ينبغي أن تبقى حالة واحدة بدون حل. لكن هذا ليس سوى حلم، لست متأكدا حتى مما إذا كان حلما جميلا.
تعني المنظورية أن هناك "تأويلات" فقط لأنه لا يمكن لأي رؤية للعالم أن تنطبق على الجميع بشكل موحد. لكن هذا المنطق قد يبدو أنه يقوض نفسه: "هل تشير المنظورية إلى أن المنظور بحد ذاته هو مجرد منظور، بحيث أن حقيقة هذا المذهب تعني أنه باطل؟ " لا. تقتضي المنظورية بكل بساطة أنها هي ذاتها منظور، دون أن يترتب عنها أي شيء متعلق بحقيقتها. من أجل تحديد ما إذا كانت المنظورية صحيحة أم لا، نحن بحاجة لمناقشة القضية بالتفصيل، وكما نفعل في جميع حالات الخلاف، نقدم حججًا محددة لدحضها. وجود منظور و"وجود مجرد منظور" هما شيئان مختلفان. ذلك أن فكرة ليست إلا مجرد منظور بالمقارنة مع فكرة أخرى، تم الاعتراف بتفوقها. من خلال مقارنتها فقط بمنظور متفوق ( يتعين إيجاده) يمكن للمنظورية أن تبدو كمجرد منظور، خاطئ لهذا السبب. ربما قد تكون المنظورية خاطئًة - ولا يبقى، في هذه الحالة، إلا إثبات ذلك -، لكنه لا يقوض أسسها الخاصة من وجهة نظر منطقية صرفة.
من الممكن أن تكون المنظورية صحيحة، ولا يجد ذوو وجهات النظر صعوبة في التأكيد على أن العديد من أفكارهم هي ذاتها صائبة. ولكن هل يكفي أن يكون منظور أو فكرة، صائبين حتى نميل إلى قبولهما؟ هذا ما نفكر به بشكل عام.. أي سبب آخر معقول، يمكن أن نعلل به تقبلنا لوجهة نظر؟ لكن نيتشه يجيب بكل وضوح على هذا السؤال بالنفي. هذا هو المكون الثاني للمنظور، وهو مكون أكثر إثارة للجدل من حيث التقييم: ليس على الناس أن يصدقوا شيئًا لمجرد أنه صحيح، ولا يجب عليهم أيضًا رفضه ببساطة لأنه غير صحيح. هذه الفكرة المفارقة بشكل واضح مهمة جدا في نظره. يجبره التفكير بطريقة مختلفة على التمسك بفكرة أن قيمة الحقيقة غير مشروطة، وأنه لا توجد قيمة أخرى يمكن أن تنافسها، وأن أي شيء صحيح له أي قيمة حقيقية - وجهة نظر أفلاطونية يرفضها، كما سنرى، بأكثر الطرق الممكنة حسما.
من الواجب توخي الحذر عند هذه النقطة؛ نحن بحاجة إلى التفريق بين من هو مندرج بالفعل في منظور ومن ينظر إليه من وجهة نظر خارجية. في الحالة الأولى، إذا كنت بالفعل ملتزمًا بفكرة معينة، فلا يمكنني أيضًا التفكير في أن لدي أو ليس لدي خيارًا للالتزام بها. الاعتقاد هو ببساطة الموقف الذي نتبناه تجاه ( ما نعتبره على أنه) الحقيقة. انطلاقا من داخل منظور، لا يمكن تجاهل قيمة الحقيقة، أنا أقبل فقط الأفكار التي أحكم عليها بأنها صحيحة وأرفض تلك التي أحكم عليها بأنها خاطئة. ليس من المنطقي بالنسبة لي أن أقول إنني أفكر في شيء لأنه من مصلحتي أن أفكر فيه، حتى وإن كنت أعلم أن ذلك ليس صحيحًا.
في الحالة الثانية، ومع ذلك تصبح المنظورية أكثر إزعاجا. في هذه الحالة، الحقيقة والقيمة تنفصلان. أستطيع أن أرفض مع نيتشه " التأويل المسيحي"، حيث اتهم "المعنى" الذي تمنحه على أنه "عملة مزورة". بينما يعتقد أنه لا يوجد سبب لإقناع المسيحيين بالتخلي عن إيمانهم "يبدو لي أن معظم الناس في أوروبا ما زالوا بحاجة إلى المسيحية، ولهذا السبب يواصل منحها المصداقية". ليس من الواضح على الإطلاق أنه من المرغوب فيه أن يفقد جميع المسيحيين الإيمان. ربما يمكنهم العيش في الحقيقة ولكن ليس من المؤكد أنهم يستطيعون البقاء على قيد الحياة بمثل هذه الخسارة.
الحقيقة والخطأ ليسا مفهومين نسبيين في المنطق المنظوري، كما هما في المنطق العلائقي: تكون فكرة إما صحيحة وإما غير صحيحة، بصرف النظر عما يجول في خاطرنا بشأنها. الشيء المتعلق بأشخاص محددين وبقدراتهم وبحاجاتهم ورغباتهم - هو القيمة. يوضح القسم 344 من Le Gai Savoir أن الصواب والخطأ كلاهما ضروريان للبقاء على قيد الحياة. الحقيقة ليس لها قيمة مطلقة؛ فهي ليست دائما صالحة في كل الظروف. إنها صالحة أو غير صالحة حسب ما إذا كنا ننتمي إلى فئة معينة من الناس وما إذا كنا في وضع معين. أولئك الذين يعرفون (أو يعتقدون أنهم يعرفون) الحقيقة ليسوا ملزمين بمحاولة إقناع الآخرين. لأن الحقيقة يمكن أن تكون خطرة على الآخرين: يعتقد نيتشه، على سبيل المثال ، أن فكرة "موت الله" أمر خطير بالنسبة لمعظم الناس، لأنهم يحتاجون إلى الاعتقاد بأن قيمهم معطاة لهم بشكل مستقل عن مميزاتهم وتفضيلاتهم الخاصة. حسب المنظورية، يمكن أن أعتقد في نفس الوقت بأن أفكار الآخرين خاطئة وأنه من الأحسن أن تكون لديهم هذه الأفكار. وفقا للمنظورية دائما، يمكن للآخرين أن يفكروا في نفس الشيء بالنسبة لي.
ذلك موقف متعال، مستخف ومحتقر - كل ما يجب أن يوصف به حتى يكون وفيا لروح نيتشه. لكن هذا ( الموقف ) يؤكد ما يتهمه به الناس من كونه: مفكرا استبداديا، بله شموليا، يعتقد أنه يجب فرض وجهة نظره (أو وجهة نظر " النخبة ") على الجميع. على العكس من ذلك ، فإن منظورية نيتشه تنطوي على استحالة قبول معظم الناس لمنظوره الذي طوره هو نفسه في مؤلفاته. كل من حاول إقناع الآخرين بقبول منظوره - ما قام به زراداشت ، عبثا ، في الأيام الأولى من عودته إلى العالم - الا ويحكم على نفسه بالفشل أو بإلحاق الأذى بهم.
يجب اذن الحكم على وجهات نظر، كما قال دانتو، بناء على ما تضيفه للحياة. لكن الحياة " هنا " لا تعني، كما قصد، الحياة بشكل عام، حياة الجميع. عند تقييم وجهة نظر، يجب على المرء أن يسأل نفسه دائمًا: " هل أضافت حياته شيئًا ما؟ " لا يوجد على الإطلاق أي سبب للاعتقاد بأن المنظور الصالح لشخص معين سيكون مفيدًا كذلك لشخص آخر - دون الحديث عن " كل الآخرين ". ليس لدينا شيء مشترك يجعل ما هو خير لأحدهم هو خير للجميع، أو خير في ذاته. يجب على الأخلاقيات " أن نتفق جميعا على أنه من غير الأخلاقي أن نقول: " ما يصلح لشخص هو صالح للآخر. ""
لهذا السبب بالضبط، لا يكتفي نيتشه برفض المسيحية ( ولا أي من وجهات النظر الأخرى الكثيرة التي يكرهها ). يقول موداري كلارك، الذي صرح بإن نيتشه " يتعارض " مع المسيحية، إن الأخيرة " خطيرة ". ولكن بمجرد أن رأينا أن السؤال الذي طرحه على نفسه كان هو "خطيرة على من؟" لم تعد المشكلة تكمن فيما إذا كان نيتشه "يتعارض" أم لا مع المسيحية - رغم أنه لا " يقبل " ذلك بالطبع. حتى ولو كانت غير صحيحة، فإن المسيحية، كما يقول نيتشه، صحيحة بالنسبة لمعظم الناس: سوف يكونون ضائعين تماماً بدونها. لكونه قادرا على تمييز الحقيقة عن القيمة وعلى رؤية المسيحية من وجهتي نظر، يبين نيتشه بشكل جيد للغاية في هذه اللحظة بالذات ما يعنيه بـ "الموضوعية" - ليس " تأملاً نزيها ". " (هذا هراء، حماقة ) "، ولكنه، كما سبق أن رأينا، " ملكة حفاظ ( الانسان ) في سلطته على حقه في أن يكون مع أو ضد، إشهاره أو إخفائه، مع جعله يتدخل عند الحاجة بحيث يستعمل هذا التنوع في وجهات النظر والتفسيرات الوجدانية لصالح المعرفة ". واذ أرفض الفكرة القائلة بأن نيتشه لا يمكن له الا أن يدين المسيحية حيث كان أوصى بـ " المثال المعارض للعالم بأسره "، أعتقد أنه لا يقبل أبداً بأن يكون مجرد بديل عن المهمة الرسولية.
بدلاً من ذلك، يدافع نيتشه عن رؤيته الخاصة للعالم والحياة، دون أن يقول إن آخرين كثرا، أو شخص واحد، يجب عليهم، أو بامكانهم، قبوله. وحدهم الناس الدوغماتيون يقولون ما يلي: "ما هو الشيء الذي يبقى قديمًا في الفيلسوف؟ / دعه يمدح صفاته الخاصة كما لو كانت صفات أساسية ومتميزة للوصول الى " الخير الأسمى " ( مثلا، جدلي، كأفلاطون / دعه يرفع كل أصناف الرجال تدريجيا حتى الفئة الخاصة به، التي تعتبر في أعلى عليين. / [...] يكون الفيلسوف النموذجي لهذا السبب بالذات دوغمائيا." الناس الدوغمائيون، يقول نيتشه، يعتقدون أن نمط الحياة الذي يناسبهم أحسن، نظرا لظروفهم الخاصة، مناسب لجميع الكائنات البشرية، بغض النظر عن حاجاتهم، رغباتهم وقدراتهم. المقطع التالي يجمع عددا من الثيمات السابقة ويقودنا في النهاية إلى السؤال الذي بدأنا به:
" بدأ الصراع مع سقراط، مع أفلاطون، مع كل المدارس السقراطية، من الحدس العميق الذي ( يفيد ) أننا لا نجعل الانسان أحسن عندما نعرض عليه الفضيلة كمبرهن عليها ومستدعية للتبريرات..أخيراً، تأتي الواقعة المسكينة أن الغريزة الغاضبة قد أجبرت كل هؤلاء الجدليين - الوليدين على تمجيد قدرتهم الشخصية كصفة أسمى، وتقديم كل ما هو خير على أنه نابع منها. "
إذا صدقنا نيتشه، فقد بنى لنفسه - خلق - بمساعدة كل شيء صادفه، خيرا كان أو شرا ، لإنتاج أنا متماسك لا أحد غيره يمكن له أو يستطيع المطالبة به. لقد انتهى به الأمر إلى الوصول " للنضج والتحكم ، في خضم النشاط، الخلق، العمل، الإنتاج، الإرادة؛ للتنفس الهادئ كلما تم تحقيق " حرية الإرادة "". لقد بنى لنفسه أنا متجانسا ، قادرًا على التصرف على الطريقة الغريزية التي يمتدحها ويعتبرها علامة على الكمال.
نفس النص يظهر سقراط وقد وجد في نفسه، على العكس، العديد من الدوافع غير المنضبطة والمتناقضة. لكن بدلاً من مجرد الإقرار بأنه كان، على حد تعبير نيتشه، رجلا مريضا، هاجم سقراط مرضه. اتهم جميع دوافعه، مستثنيا منها واحدا، بكونها سيئة واستخدم هذا الأخير - العقل - لإخضاع الدوافع الأخرى ؛ وانتهى به الأمر إلى الاعتقاد بأن العقل هو الجزء الوحيد من نفسه الذي كان صالحا وجعله ما كان عليه. أجبر نفسه على التصرف فقط عندما وجد أسبابا للقيام بذلك وأقنع العالم بأسره بأن الجميع يجب أن يسعوا جاهدين ليكونوا مثله. وفي لحظة وفاته ، أدرك سقراط أن جميع أعماله - هو ذاته - لم تكن غير خطأً فادح:
" هل فهم ذلك هو نفسه، هو الذي كان أكثر حذرا من أولئك الذين خدعوا أنفسهم؟ هل قال ذلك أخيرا، بحكمة شجاعته حتى الموت؟ ... سقراط أراد أن يموت: ليست أثينا، بل هو الذي تجرع السم، أجبر أثينا على السم. " سقراط ليس طبيبا "، "الموت وحده هنا طبيب. سقراط كان فقط مريضا خلال مدة طويلة ".
سقراط لم يكن " طبيبا ". وحده الموت تمكن من شفائه من حياة بئيسة كانت هي حياته. وبينما استطاع نيتشه أن يكتب: " لا أتمنى أبدا أن تكون الأشياء على غير ما هي عليه؛ أنا نفسي لا أريد أن أتغير "، مات سقراط وهو ينفي ذاته وينفي حياته، نادمًا على أنه لم يكن آخر تمامًا. بصعوبة، أمكن للتناقض بين هذين الرجلين أن يكون أكثر وضوحا.
لو فقط أمكننا، كما سنحت لي قبلا الفرصة لأقول، التوقف عند هذا الحد! يستمد نيتشه من أفلاطون، على وجه الإجمال، التمثل الذي كونه عن سقراط. الكلمات الأخيرة لهذا الأخير، والتي هي من أسس هذا التمثل ، تأتي من محاورة Phédon، النص الذي ترك فيه أفلاطون وراءه الصورة الصامتة في أعماله الأولى ليتحدث عن انفصاله الخاص. إن الدوغماتية التي يعزوها نيتشه إلى هذين الرجلين يمكن أن تكون من اختراع أفلاطون وليس سقراط. يدرك نيتشه، في الواقع، هذه الإمكانية في هذا المقطع المعقد للغاية
" [...] الأكثر فداحة، الأكثر رسوخا والأخطر من جميع الأخطاء [تم] ارتكابها من طرف دوغماتي، من طرف أفلاطون، مبدع العقل الخالص والخير في ذاته. [...] لا شك في أن ذلك كان قلبا للحقيقة ومحاولة لنفي المنظور، الشرط الأساسي لكل حياة [...]؛ مثل طبيب، يمكن للمرء أن يتساءل: من الذي أصاب الابن البار للعصور القديمة، أفلاطون، بهذا المرض؟ أليس في النهاية هو سقراط الشرير؟ ألم يكن، مهما قيل، مفسد الشباب، وقد استحق تجرع السم؟ "
توحي الأسئلة التي طرحها نيتشه بأنه رأى أن الدوغمتئية الفلسفية، هذه المحاولة للتعبير عن طريقة حياة مثالية يجب على الجميع أن يقتربوا منها قدر الإمكان، من خلق أفلاطون. لكنه يصر على أن يعيب على سقراط، المخلوق، ما اتهم به خالقه. وأعود إلى السؤال التالي: لماذا؟ لماذا هذه التشوهات الظاهرة الى هذا الحد؟ لماذا هذه الحدة التي لاهوادة فيها؟ لماذا هذه العقلية الضيقة السمة المميزة لنيتشه في جميع تبادلاته الشخصية والفكرية الحقيقية الأخرى؟
يمكن لمقطع آخر من Par-delà le bien et le mal أن يزودنا ببداية إجابة: " [...] الفيلسوف، الذي هو بالضرورة رجل الأمس وما بعد الأمس، ملزم دائمًا وأبدا أن يكون متناقضا مع الحاضر: كان عدوه دائمًا هو المثل الأعلى لليوم." لكن من هو هذا " الفيلسوف "؟ يعطي نيتشه مثالاً واحداً فقط. انه سقراط، الشيء المثير للدهشة. في الوضع الذي كان يوجد عليه، محاطًا بالأرستقراطيين المنحطين في عصره، الذين سعوا وراء اللذة وهم يرددون باستمرار
" الكلمات الكبيرة القديمة التي لم تعد حياتهم تمنحهم الحق في التظاهر بها - ربما كانت السخرية ضرورية لعظمة الروح، تلك الضمانة الماكرة والسقراطية لطبيب قديم وفرد من العامة، الذي يجترح، بدون عناية، جسده وكذلك جسد "الأرستقراطيين" ، في حين أن نظرته تسمح لهم بأن يسمعوه بوضوح يقول: "لا داعي لخداعي! في هذه النقطة نحن متساوون! "
يتابع نيتشه وهو ينسب الى سقراط ميزة إدخال مبدأ المساواة الجديد بشكل جذري، الذي يتناقض مع المثل التراتبية الفاشلة في عصره. رفض سقراط القيم والطرق المضادة للفكر في عصره، والتي مكنت البعض من التصرف بشكل مختلف عن الآخرين، استدعى كبديل عنها العقل الكوني الذي يتطلب من الجميع التصرف بنفس الطريقة وأقنع العالم باتباع نموذجه. لكن إعادة تقييم جذرية للقيم بهذا العمق جعلت من سقراط، في علاقته بمعاصريه، "لاأخلاقيا" غير قابل لأن يقارن بذاك الذي كان نيتشه يتمنى أن نرى فيه. وها هو التمييز الواضح والمطلق الذي أقامه نيتشه بين سقراط ونفسه قد أصبح مضببا. ماذا يحدث للٌقطبين المتقابلين من السلم الذي يفترض في كل واحد أن يشغله، إذا كان كل واحد منهما، بخلاف "عمال الفلسفة" البسطاء، يرفض تقبل قيم معاصريه ويأتي بقيم جديدة ؟
يمكن الإجابة بأن سقراط نفسه كان " منحطا " رجلا مريضا، غير قادر على السيطرة على اضطرابه الداخلي الذي مارس عليه طغيان العقل والجدل. لكن، باعترافه الخاص، كان نيتشه أيضا " منحطا ". افتتح Ecce Homo بالقول أنه ورث الرقة عن والده. يقوم صراحة بالربط بين سوء الحالة الصحية وقدراته الجدلية الخاصة. " في خضم التعذيب الناجم عن الصداع النصفي خلال ثلاثة أيام، متبوعا بافرازات اللعاب المؤلمة، تملكت وضوح الجدلي بامتياز وتأملت بكل برود الأشياء التي سأكون معها فاقدا للتهذيب والبرودة، دون الشجاعة اللازمة لمتسلق الصخور، لو كنت في حالة صحية أحسن. " لكن قراءة يعرفون، كما يعترف، " الى أي حد [هو] يعتبر الجدل كعرض من أعراض الانحطاط، مثلا في الحالة الأكثر شهرة، حالة سقراط ". "هل أحتاج الى أن أقول، بعد كل هذا - كما يستنتج - إن لدي خبرة في جميع المسائل التي لها علاقة بالانحطاط؟ "
لكن نيتشه، كما يشرح في هذا الكتاب الغريب، كان أكثر تعقيداً من سقراط: "إلى جانب كوني منحطا، أنا أيضاً ضد منحط. المنحطون، كما يقول، يختارون على الدوام أساليب غير مناسبة للتخفيف من آلامهم. على العكس ، فقد اختار دائما " غريزيًا ، العلاجات المناسبة ". وبعبارة أخرى، المنحطون ينتهون دائمًا بأذية أنفسهم، على خلاف الأشخاص الأصحاء. من هم هؤلاء الناس الأصحاء؟ ما الذي يسمح لنا بتحديد " البنية السليمة"؟ جواب نيتشه هو:
" إنسان سليم البنية [...] لا يشعر بالارتياح إلا ممن أحسن اليه. متعته، رغبته تتوقف حالما يتجاوز مقياس ما يناسبه. [...] يحول لصالحه الفرص السيئة. ما لم يدمره يجعله أقوى. [...] يستمتع دائما في مجتمعه الخاص، رغم أنه يستطيع معاشرة كتب، رجال أو مناظر طبيعية [...]. إنه لا يؤمن بـ "سوء الحظ" أو " الخطأ ": إنه يعرف كيف يحسم مع نفسه، مع الآخرين، يعرف كيف ينسى - إنه قوي بما فيه الكفاية بحيث يجب أن يتحول كل شيء بالضرورة لصالحه ".
الشيء الذي سمح له بأن يستنتج:
" طيب ! أنا ضد منحط، لأن هذا الذي وصفته لتوي هو أنا ".
ربما هو على حق. لكن لا يسعني إلا أن أفكر في أن صورته عن " الإنسان السليم البنية " تنطبق بشكل مثالي على سقراط في نصوص أفلاطون الأولى، الذي كان يعرف دائمًا ما هو الخير بالنسبة له، الذي توقفت متعته هنا أين يشاهد كيف أن المعاناة بدأت، الذي كان يستمتع باستمرار ضمن مجتمعه الخاص، والذي لم يصدق لا الحظ العاثر ولا الخطأ. ما يثير الدهشة بالنسبة لي هو أنه مع الرقة والفطنة اللتين كلتاهما ميزته كملاحظ وكقارئ، لم يكن نيتشه ينظر إلى التشابه الموجود بين سقراط ونفسه. ولكن ألم يلمسه حقا؟
قارنوا بين نيتشه، المريض طيلة حياته تقريبا (وجعل من مرضه موضوعا لكتاباته، جزئيا)، وسقراط، الذي كان مثالا للصحة الجيدة؛ بين نيتشه الذي كان مغلفا باستمرار لمحاربة البرد، وسقراط، الذي كان يرتدي السترة نفسها، صيفا وشتاء، ويمشي حافي القدمين؛ بين نيتشه، الذي أدرك أن "كوبًا من النبيذ أو الجعة في اليوم سيكون كافيًا لأن تصبح الحياة (بالنسبة له) مثل" وادي الدموع "، وسقراط الذي أكسبه شرب الكحول، بكميات هائلة في حالته، بنية جسمانية قوية تماما؛ بين نيتشه، المتمشي بمشقة، بحكم الحول، بسقراط، الذي كان يفتخر بأن عينيه المتعنتين تسمحان له برؤية ما يوجد أمامه وعلى الجانبين؛ بين نيتشه، الذي أمضى حياته في الكتابة، مفصولا عن العالم، بسقراط، الذي كان دائمًا محاطًا (بالحضور)، مشاركا في محادثة، ولم يسبق له أن كتب شيئا - قارنوا بينهما انطلاقا من هذه النقاط وغيرها كثير، وسوف ترون أن مسألة معرفة من هو المنحط ومن هو في صحة جيدة تصبح فارغة من كل معنى.
ربما هذه ليست سوى سمات سطحية. إن الصحة والانحطاط الحقيقيين، كما يفهمها نيتشه، قد يتوقفان على الأهداف التي وضعناها لأنفسنا - الاستقرار أو النمو، المطابقة أو الاختلاف - وعلى الحياة التي نختارها. هذا صحيح. ولكن هنا مرة أخرى، فإن الفرق بينه وبين سقراط يبدو من الضآلة بحيث أن نيتشه لم يعره أي اعتبار. لأجل معرفة ذلك ، يلزم التساؤل مجددا لماذا يهاجم نيتشه سقراط بهذا القدر من العنف الشديد.
السبب في ذلك أن سقراط هو الوحيد من " معلمي " نيتشه الذي لم يكن متأكدا أبداً من تحرره منه. في نظر نيتشه وبدون أي تنازل من لدنه، كان سقراط، رغم ما وسعه من ظنون فيه من جهة أخرى، واحداً من الرجال العظام الحقيقيين الذين عرفهم العالم. اعتقد نيتشه كذلك، وهذا صحيح، أن سقراط، باعتباره رجلاً عظيماً، كان بمثابة أصل لتصور كوني عن الحياة البشرية أصبح مرجعًا لثقافة كان نيتشه يكرهها. سقراط والدوغماتية (الوثوقية) لم يسبق لهما أبدا أن ابتعد الواحد منهما عن الآخر. ربما قد يحدث هذا لجميع الرجال العظام. بقدر محدد من القوة يحافظ المرء ويدافع عن امتلاكه الدوغمائي لحياته، لذاته، لن يكون أبدا واثقا من قدرته على منع ذلك. كافح نيتشه بحماسة أكثر من أي فيلسوف آخر في فن العيش من أجل التذكير بأن أفكاره، قيمه، حياته كانت خاصة به وليس نماذج للعالم منظورا اليه ككل. حاول إقناع قرائه أنه عندما يكون السؤال (كما صاغه سقراط) هو كيف يجب أن نعيش، تكون إثارة الإعجاب أكثر أهمية من الإقناع. لكنه عرف أنه لا يملك أي سلطة على المستقبل، وأنه عند هذه النقطة، يكون الرجال العظام تحت رحمة مؤيديهم. في معظم الحالات، يتعلق الأمر بقرائهم، الذين يمكنهم الاستحواذ على أفكارهم ليحولوها لتطبيق دوغمائي، كما لو جرى تصميمها لتمتد إلى الجميع. لكن علاوة على ذلك، وجد سقراط هو الآخر نفسه تحت رحمة كاتبه الخاص، الذي طور أحد أعظم الأنساق الفلسفية الشمولية في التاريخ. ماذا لو لم يكن مشروع سقراط نفسه مختلفًا بهذا القدر، في النهاية، عن مشروع نيتشه؟ ماذا يعني ذلك بالنسبة لأعمال نيتشه الفلسفية؟
يمكن القول إن الفرق الأساسي بين سقراط ونيتشه هو أن نيتشه صور نمط حياة تنبع فيه أفعالنا بشكل أساسي وبدون مشقة من طبيعتنا، في حين أن سقراط كان دائما بحاجة إلى اللجوء إلى الأسباب - عنوة - لاختيار وتبرير حياته. لكن هل يمكن لنا قول ذلك عن سقراط؟ كما رأينا، تُظهر النصوص الأولى لأفلاطون أن سقراط قد أمضى حياته في محاولة للوصول إلى معرفة تقنية أو خبيرة بطبيعة ال’aretê الذي كان سيوفر له أسباب الفعل. لكن، بما أنه لم يصل إلى هذه المعرفة، فإن أفعاله، التي وصفها أفلاطون بأنها أخلاقية وصالحة دائما، لم تنتج عن مثل تلك الأسباب؛ كانت لغزا: لم تكن ذات مصدر. ومع ذلك، أن نكون قادرين دائما على إتيان الفعل المناسب دون جهد أو تردد، وبدون سبب، فهذا بالضبط ما يشيد به نيتشه كفعل " غريزي ". انطلاقا من ذلك، أيا كانت رؤيته النظرية، ربما استطاع سقراط أن يعيش " غريزيًا " مثلما زعم نيتشه أنه فعل.
وبما أن نيتشه يشك أحيانا، من وجهة نظري، في كون الأمور قد حدثت بالفعل بهذه الطريقة، فقد كان سقراط يمثل مشكلة كبيرة بالنسبة له. كان نيتشه يعتقد أن مشروعه تمثل في التصدي للفلسفة الدوغمائية، التقليدية والسعي بوعي ليجعل من نفسه فردا غير قابل لأن يحاكى. لكنه لا يستطيع أن يكون على يقين من أن مشروعه الخاص به لم يكن هو أيضاً مشروع مؤسس التقليد الذي يعرف بنفسه في تعارض معه. لم يكن بإمكانه التأكد من أن مشروعه كان مختلفا عن المشروع الخاص بالتقليد الذي كان ينتقده. هل يمكن أن يكون، كما تساءل، قد شارك في هذه الفلسفة التي رغب في الانفصال عنها؟ هل من الممكن أن سقراط لم ينتم إلى التقليد المعارض، بل كان حليفا لنيتشه؟ وإذا كان حليفه، ماذا عن أصالة أعمال نيتشه؟ هل يمكن لأحد أن يدعي أنه متحرر من الفلسفة أو من سقراط طالما هو يكتب عنهما، حتى ولو كان ذلك من أجل تنحيتهما؟
كانت مشكلة سقراط بالنسبة لنيتشه هي المشكلة التي أثارتها كل هذه الأسئلة، والتي لم يستطع أن يجيب عنها بكيفية مقنعة. يفتتح Ecce Homo بتعبير نيتشه عن الامتنان طوال حياته، بسبب العمل الذي أنجزه خلال الأشهر الثلاثة الماضية، ولكن أيضا، بالطبع، بسبب كل ذلك الذي سمح له بالوصول الى هنا. لكن امتنان نيتشه طوال حياته يظهر على أنه يستبعد سقراط، على الرغم من كون الأخير عنصراً رئيسياً بالنسبة له. والسبب هو، كما يبدو لي، أنه كان على مقربة شديدة من سقراط، منافسه إلى الأبد، الذي إذا اعترف بما هو مدين له فإنه يكون، في نظره، كما لو اعترف بأنه لم يكن هو نفسه، ما كان يقوله عن كينونته.
كان موقف نيتشه تجاه سقراط متناقضًا بصورة أساسية. لم يكن سقراط هو " نموذجه " ولا " الشرير العظيم " في نظره. المشكلة التي ما فتئت تفرض ذاتها وتنهشه جاءت من كونه لم يستطع أن أن يكون متأكداً أبداً من أن بشاعة سقراط لم تكن، في النهاية، انعكاساً لبشاعته. هل من الممكن أن يكون للمتهكم الكبير الذي ميز فيه نيتشه بين " ثلاثة أرواح "، روح رابعة، قريبًة جدًا من روح خصمه العتيد؟ هل من الممكن أن يكون سقراط أيضاً قد صنع نفسه بنفسه، على غرار نيتشه؟
لكن هذا يعني أن نيتشه جعل نفسه مثل سقراط. ما الذي سيبقى بعد ذلك لدى نيتشه ليعارضه؟ هناك الكثير من الأشياء، في رأيي، وعلى وجه الخصوص ، أفلاطون وتمثل سقراط الذي قدمه في محاورات النضج، التمثل الذي يخلطه نيتشه، تبعا لحاجاته، مع الأصل. ولكني أود أيضاً أن أعتقد بأنه ربما هناك لحظات في حياته ثمن فيها نيتشه سقراط المحاورات الأولى لأفلاطون، واستمتع فيها بمقطع كتبه مبكرا قبل أن يجعل من سقراط العدو الأكبر للحياة. سأسمح لنفسي بأن أقتبسه، أخيراً، خاصة أنه يسمح لنا بالعودة إلى نقطة انطلاقنا:
" سقراط. - إذا سارت الأمور على ما يرام، فسوف يأتي الوقت الذي سنتناول فيه، من أجل المضي قدما على درب الأخلاق والعقل، بدلاً من الإنجيل، مأثورات سقراط ونعتبر فيه مونطيني وهوراس كمبادرين ودليلين لذكاء هذا الوسيط الحكيم، الأكثر بساطة والأشد تمنعا عن النضوب من الجميع ، سقراط. تتلاقى فيه مسارات أنماط الحياة الفلسفية الأكثر تنوعًا، والتي هي في الواقع أنماط حياة مختلف الأمزجة، التي يحددها العقل والعادة، لها جميعا قمة تتجه صوب الفرح بالعيش والفرح بما يأخذه الإنسان من ذاته؛ من هنا نستنتج أن ما كان لسقراط على وجه الخصوص هو مشاركته في جميع الأمزجة."
لكن المشاركة في جميع الأمزجة هي عدم المشاركة في أي واحد منها، هي التزام الصمت، فقدان لآي وجه، إذا جاز التعبير. وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى سقراط الذي أحاول تمييز صمته عن أصدائه الكثيرة.