كثيرا ما يتناهى إلى سمعنا أو إلى مداركنا بواسطة القراءة أن السنون تمضي والذكريات تبقى. بادئ الرأي أمام هذه المقولة يميل إلى الاعتقاد أن الذكريات تبقى على حالها هي هي بينما هي في الواقع تصبح مبتسرة كالأحلام بعد أن تتراكم عليها السنون وتفقد الكثير من تفاصيلها وجزئياتها وراهنيتها ضمن الصيغة التي اختيرت لحكيها أو لإعادة إنتاجها.
من الذكريات ما يتلاشى تماما في بحر النسيان، ما يستدعي من صاحبها الراغب في استذكارها الخضوع لحصص في العلاج النفسي وهو مسترخ فوق ديوان، أمام مختص في الطب أو التحليل النفسيين، مثلما أن الذكريات المسترجعة بسهولة والمعبر عنها بسلاسة يمكن أن تكون مادة دسمة تغري بالاشتغال عليها مختصين في العلوم الاجتماعية والإنسانية بصفة عامة..ومادام أن الشيء بالشيء يذكر، يجدر بي هنا الإشارة إلى أن بعض أصدقائي المتتبعين لما أكتب في هذا الإطار يسألونني عن الفرق بين السيرة الذاتية والمذكرات، فأجيبهم بما علمني الله..لكني أفترض أن السؤال نفسه يطرحه في قرارة أنفسهم قرائي الآخرون ممن ليس لي بهم أتصال مباشر ويجب علي بالتالي تعميم الجواب عليهم.. هذا موضوع آخر.
حسبي هنا والآن الحديث بتركيز عن الذكريات التي ترسخت في ذاكرتي بعيدة المدى والمرتبطة بنشاطي السياسي والنقابي الذي تطوعت به وأنا حديث العهد بمهنة التدريس في هذه الأصقاع.. انسجاما مع ميولي السياسية ذات المنحى الاشتراكي، قررت الانخراط في الكنفدرالية الديمقراطية للشغل..في بحر سنتي الأولى، قادتني عن اقتناع رغبتي في الانخراط في هذه النقابة الموالية لحزب اشتراكي من سلالة الحركة الوطنية أغذي الحلم الأمل، منذ أن كنت طالبا جامعيا، في أن أصير في يوم من الأيام مراسلا معتمدا لجريدته، (قادتني رغبتي تلك) إلى اكتشاف مقر النقابة وأعضاء مكتبها المحلي..بالنسبة للمقر، كان يوجد ضمن حي شعبي يقع خلف الواجهة الغربية للشارع الرئيس والوحيد في قرية أكدز..كان عبارة عن منزل مبني بالطوب..لأمر ما خلت واجهتا الشارع من المنازل الشبيهة به، إذ، انطلاقا من مدخل القرية الشمالي الذي اتخذ شكل بوابتين مقوستين، تتراءى لك المنازل والبنايات على أنها فعلا مشيدة، وفق طراز عصري، بمواد أكثر صلابة من الطين، مع الاحتفاظ بشيء من عمارتنا الإسلامية؛ وأقصد به الأقواس المفتوحة على الشارع من كلا الجانبين.. لكن نقطة ضعف هذه التهيئة التي رتبت للشارع تكمن في كونه أريد به أن يكون حجابا يحجب عن الناظرين السائحين ما يوجد خلفه من بنايات طينية لا قدرة لها على الصمود في وجه الأمطار العاصفية..خلف الواجهة الغربية لشارعنا الوحيد، يوجد حي طيني خاص ببائعات الهوى..وغالبا ما ترتبط أول مهنة في التاريخ بتهريب الخمور والمخدرات والاتجار فيهما، لكن أكدز يشكل حالة استثنائية في هذا المجال حيث أن ما يستهلك محليا من تينك المادتين يتم جلبه من أماكن أخرى قد تكون نائية أو قريبة نسبيا..
أما فيما يخص أعضاء المكتب النقابي فقد كانوا كلهم من رجال التعليمين الابتدائي والإعدادي. العدد الأكبر منهم يتحدر من ذات المنطقة بحكم اللون الأسمر لبشرتهم.. ضمن هذا المكتب النقابي المحلي، شغل معلم شاب من آسفي وظيفة كاتب عام وكان أمين المال - ربما - مدرسا في إعدادية القرية تسكن عائلته في أحد أحياء سيدي يوسف بن علي بالمدينة الحمراء.. كان أول اجتماع نقابي تميز بمشاركتي المتميزة في أشغاله بصفتي منخرطا عاديا هو ذاك الذي احتضنه المقر المشار إليه سابقا بمناسبة الإعداد للإضراب الوطني العام الذي ذعت له نقابة نوبير الأموي في السنة الصفر من العقد التاسع.. في نهاية الاجتماع، تطوعت للمشاركة في لجنة صياغة البيان الختامي.. كان معي في اللجنة مناضلان وأنا ثالثهم.. تمكنا من صياغة البيان بلغة واضحة تتماشى ومبادئ النقابة ومطالبها وبلهجة صارمة تتوافق ورهانات المرحلة المنتمية لما يدعى بسنوات الجمر والرصاص.. طلب مني قراءة البيان على باقي الأعضاء والحاضرين من مجموع المنخرطين والمتعاطفين.. استحسنوا بإجماع البلاغ من حيث الشكل والمضمون وعهدوا إلي بالسهر على نشره بجريدة "الاتحاد الاشتراكي"، فما كان مني إلا أن وافقت ووعدتهم بنشر البيان في أسرع وقت ممكن.. سمعت في هذه الأثناء معلما من أبناء المنطقة يقول إن ما يسهل علي المأمورية هو أني من أبناء المحمدية، يعني أني أستفيد من قربي لمقر الجريدة في نشر كل ما أريد.. التزمت الصمت وإن بشكل نسبي لأني كنت، في قرارة نفسي، أقول لمخاطبي: سامحك الله يا أخي.. أنت لا تعلم مدى معاناتي عندما كنت في بادئ أمري أتوجه إلى مقر الجريدة حاملا في يدي أوراقا لم أكن أجد حتى من يتسلمها مني..بعد أيام قلائل، بلغ إلى علم الجميع صدور البيان الختامي في الجريدة غداة الإضراب العام.
حل يوم الإضراب وشاركنا فيه جميعا كهيئة تعليمية على مستوى البلدية كما على مستوى ضواحيها.. كان إضرابا ناجحا بكل المقاييس ..مر في ظروف عادية حيث لم يشهد حوادث عنف ولم يقع خلاله أي حادث استدعى تدخل قوات الأمن.. على خلاف ذلك، من خلال تتبعنا لمجريات الإضراب في مناطق أخرى من وطننا الحبيب، وقفنا على حوادث اختلط فيها الحابل بالنابل كما وقع في فاس وتطوان وغيرها.. في هذا الإطار، دعاني أحد أصدقائي المدرسين إلى بيته لمشاهدة التصريح الحكومي الذي بثته تلفزة دار البريهي في اليوم الموالي للإضراب.. من خلال هذا التصريح، استطعت تكوين رأي شخصي، أو قل شهادة أرد فيها على ما جاء فيه على لسان بعض وزراء حكومة ذاك الزمن من مغالطات تعوم مطالبنا وتشوش على صوتنا.. حاولت جمع شتات العناصر التي تشكلت منها شهادتي وعرضتها على شكل مقال محكم الصياغة ثم أرسلته للجريدة التي لم تتأخر عن جعله يرى النور بين أعمدتها بمجرد توصلها به..ها هو مقالي منشور كما كتبته بدون تعديل، بدون زيادة ولا نقصان..الشيء الوحيد الذي أثار استيائي هو إحجام هيئة التحرير عن الكشف عن هويتي خوفا على من أن تبطش بي يد القمع اللاترحم.. صادف يوم نشره (7 يناير 1991) أن كنت متواجدا في مدينة ورزازات.. اقتنيت نسخة من الجريدة ثم قصدت رأسا حانة "الغزالة" الفسيحة الأرجاء والمقابلة لوكالة البنك الشعبي.. بالصدفة، التقيت بمعلم مراكشي حديث العهد مثلي بالتخرج.. أريته المقال الجديد..عبر لي عن سروره بلهجة لا تخلو من إعجاب مشيرا إلى وقوفي على بوابة الصحافي المحترف من خلال المنهجية المعتمدة في كتابة المقال والطريقة التي طبعت بها حروفه الصغيرة الحجم..
مرت أجواء الإضراب العام وجاءت ظروف عصيبة أخرى ذات طابع قومي سرعان ما تم تدويله..صدام حسين لم يرد الخروج من الكويت التي أبى إلا أن يضيفها للعراق كمقاطعة جديدة..نصائح الملك الراحل الحسن الثاني التي وجهها الأخير للأول عبر التلفزيون الرسمي مشيرا إلى أن "الحمية تغلب السبع" لم تفلح في ثني صدام عن الاستمرار في احتلال الكويت.. بعد ذلك، نفذ التحالف الدولي بزعامة أمريكا هجومه على صدام وجيشه من أجل حملهما على مغادرة الكويت تحت القصف المكثف..نشبت حرب الخليج الأولى.. العيون إما مشدودة إلى القنوات التلفزية المواكبة لدوران رحى الحرب وإما شاخصة جاحظة تقرأ ما يكتب عن أهوال ومصائب الحرب في الجرائد الوطنية والعالمية.. الآذان تتسمع إلى أبواق "الترانزيستورات" وتتلقف ما يذاع عبرها من أخبار تتحدث عن إصابات وانفجارات هنا وهناك..وضعت الحرب أوزارها..فكر أعضاء المكتب النقابي في تنظيم أسبوع فلسطيني بمناسبة حلول يوم الأرض..وضعوا برنامجا متنوعا يتضمن ندوة من ثلاثة محاور تتصادى مع أجواء ما بعد الحرب في منطقة الشرق الأوسط..واكبت التحضير الأولي لهذا البرنامج خطوة خطوة.. كلفني أعضاء المكتب بكتابة وإلقاء عرض يغطي أحد محاور الندوة في موضوع "علاقة أم المعارك بالقضية الفلسطينية'.. قبل موعد الإلقاء، كان لي من الوقت ما يكفي لإعداد ورقة في الموضوع.. أربكتني الحيرة في البداية.. لكن سرعان ما اهتديت إلى الاستعانة بحوار كانت قد أجرته جريدة "أنوال" الوئيدة مع جورج حبش، مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.. لخصت مضمون الحوار الذي أجري تحت ظلال الحرب الضروس.. تفاعلت معه على ضوء ما تشكل لدي من تصورات من خلال متابعاتي اليومية لأطوار حرب الخليج الأولى، وتمكنت أخيرا من صوغ مقال ممتاز نال رضى الحضور الكثيف ضمن فعاليات الأسبوع الفلسطيني وحسن ظن الجريدة به لاحقا فتم له الظهور على صفحاتها في صيف 1991.