السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

تشيرنوبل| بقلم: د. سامر العاصي

"إنه الموت بعينه!"

2019-10-30 05:39:02 PM
تشيرنوبل| بقلم: د. سامر العاصي
د. سامر العاصي

لم يُقتَل أي إنسان نتيجة أعظم وأضخم انفجار عرفه الإنسان، الذي حدث في الساعة الواحدة و23 دقيقة و47 ثانية من صباح يوم السبت 26 نيسان 1986 في المبنى الرابع من محطة توليد الطاقة النووية، تشيرنوبل، أي قبل 4 أيام من الاحتفالات بعيد العمال في الأول من أيار، التي كانت الدول الاشتراكية تنظمها في ساحات عواصمها ومدنها وقراها؛ وإنما سيكون سبب الموت والأمراض والتشوهات هو انتشار المليارات من الحزم الإشعاعية النووية المسرطنة والقاتلة، التي ستفتك بمن حولها من سكان الجمهوريات السوفيتية أولا (أوكرانيا وروسيا وروسيا البيضاء)، قبل أن تجوب 17 دولة أوروبية خلال أيام معدودة. ومع أن الحكومة السوفيتية لم تعترف أمام شعبها وأمام العالم بالحادث الخطير فور حدوثه؛ إلا أن السويد استطاعت بعد مرور أقل من 48 ساعة، رصد سحابات وغيوم مشبعة بالإشعاعات الذرية، التي تأكد مصدرها، بعد أن التقطت الأقمار الصناعية الأميركية صورا لمبنى المفاعل السوفيتي المدمر الذي يبعد 4 كيلو مترات عن بلدة "بري بيات" النموذجية (43 ألف نسمة) التي بنيت خصيصا لراحة العلماء والمهندسين والعاملين في المفاعل الذي يبعد عن العاصمة الأوكرانية كييف 100 كم هوائي فقط.

كان سبب الانفجار، دون الخوض بتفاصيله، هو فشل تجربة "تخفيض قوة المفاعل من أجل توفير الطاقة"، مما أدى إلى خلع وطيران غطاء الفرن الذري من مكانه (وزنه 1200 طن)، ليظهر في السماء عامود من لهيب ونار، امتد طوله إلى 12 كيلومترا، يحمل في طياته 50 طنا من الوقود الذري السام الذي سينتشر في الهواء، إضافة الى 700 طن من شظايا المواد المختلفة الأخرى.

كان أول من حضر إلى المكان هم رجال الإطفاء المساكين، الذين ظنوا أن الحريق هو حريق عادي يمكن إطفاؤه بالمعدات العادية وبأطنان من الماء فحسب!. وبعد أقل من ساعتين، صار أحد رجال الإطفاء هو الضحية رقم 1 من ضحايا أكبر كارثة عرفها التاريخ حتى الآن، وذلك بعد أن تشبع جسمه وملابسه بالإشعاعات القاتلة، حتى صار جسما مشعا قاتلا. وفهم رجال الإطفاء أن لهيب الإشعاع المنبعث هو الموت بعينه. ومن المعروف عند اختصاصيي وعلماء الذرة، أن المعدل الطبيعي لتعرض الإنسان إلى الإشعاع الذري هو 12 ميكرو/رونتجن Micro، وعند قياس قوة الإشعاع بعد 10 ساعات، كانت قد وصلت إلى 200 ميلي/رونتجن Mili، أي ما يقارب 1500 ضعف المعدل الطبيعي. وفي المساء، كانت قوة الإشعاع قد وصلت إلى ما يقارب 600 ألف ضعف!. وفي المفاعل نفسه، كانت سرعة الإشعاع النووي قد وصلت إلى 30 ألف وحدة رونتجن، علما أن الإنسان يموت بعد دقائق قليلة إذا كانت سرعة الإشعاع النووي حوله 9000 وحدة رونتجن. وفهم رجال الأطفاء الذين احتموا بملابس الإطفاء العادية، أنهم لن يستطيعوا إطفاء نار جهنم، ومع ذلك، لم ينسحب أي واحد منهم خطوة واحدة من موقعه، وقد استحق جميعهم وسام "بطل الاتحاد السوفيتي" بعد إخماد الحريق، إلا أنهم  جميعا كانوا قد ماتوا قبل ذلك بكثير.

كان من الممكن أن تكون الخسائر البشرية في الأرواح أقل بآلاف المرات لو أن المسؤولين الحزبيين اتخذوا القرار المطلوب بإخلاء المنطقة فورا من السكان، أو حتى بتوزيع حبوب مادة "اليود" أو الالتزام في البيوت وإغلاق الشبابيك بشكل محكم، حتى أن أطفال البلدة الصغيرة ظلوا يلعبون ويمرحون دون أن يعلموا أن تراب حضاناتهم ومدارسهم قد بدأ يتشبع بالإشعاعات القاتلة. وتم إيقاظ رئيس الوزراء السوفيتي، الذي سرعان ما أرسل إلى مكان الحادث أحد أهم العلماء الروس في هذا المجال. وبعد ساعات قليلة، كانت طائرة الهليوكبتر، وعلى متنها العلامة "ليجاسف" ونائب رئيس الوزراء، تطير فوق المفاعل مباشرة، حين سأل النائب:- ما هذا الدخان الأبيض المنبعث من فوهة المكان؟، وجاء رد العلامة:- إنه الموت بعينه!. ومع ذلك لم تأخذ القيادة السوفيتية بتوصية "ليجاسف" بإخلاء المنطقة المنكوبة فورا، إلا بعد مرور 30 ساعة من الحادث. وتم إخلاء 43 ألف مواطن أو أكثر خلال 3 ساعات فقط، بعد أن تم تجنيد 2600 باص إضافة الى 4 قطارات. ولم يسمح للسكان إلا باصطحاب وثائقهم الخاصة. ثم تم توسيع دائرة الإخلاء حتى 30 كيلومترا من مركز الكارثة، ليصل عدد المهجرين إلى أكثر من 100 ألف مواطن. وصارت أسراب الطيور والحمام والعصافير تتساقط من السماء بالمئات، وصدر الأمر بقتل جميع الحيوانات في المنطقة لخطورة تشبع شعر جلودهم بالإشعاعات النووية. الجدير ذكره، أنه لو تأخر إخلاء السكان 60 ساعة، لكان الجميع قد مات في مكانه. ولم يبق في البلدة المهجورة سوى العلماء والجيش، قبل أن يصل عشرات الآلاف من المتطوعين الشباب من كل أنحاء البلد الاشتراكي. وبدأت الحكومة بتوزيع حبوب مادة "اليود" على السكان، وفهم الناس أن شرب النبيذ الأحمر يقلل من امتصاص الجسم للإشعاعات الضارة، بعد أن ألقت الحكومة بعدة حاويات منه في الشوارع. وسافر "ليجاسف" إلى موسكو لإيضاح خطورة الموقف أمام القيادة السياسية، وفي المطار تم فحص أظافر وشعر البروفيسور، ليتبين أن جسم الرجل تلقى كميات كبيرة من الإشعاع، حتى أن زوجته ظنت أن زوجها اكتسب على وجهه لونا كحمام الشمس على البحر، وهو ما يعني أن الشخص قد تأثر بالإشعاع. ومع ذلك قرر البروفيسور العودة إلى تشيرنوبل لقيادة معركته من هناك. ثم أبدى "ليجاسف" بعد ذلك ملاحظات منها أن التجربة التي أُجريت تلك الليلة، كان يجب أن تُجرى عند تسليم المبنى قبل سنوات، كما أن غطاء المفاعل صنع من مواد اختلفت مواصفاتها عما كان يجب صنعه، إضافة إلى أن تسليم المفاعل قد تم قبل التاريخ المحدد ب 4 أشهر دون التأكد العملي من سلامة المبنى، وأكد "ليجاسف"، أن بناء المبنى فوق صفيحة أرضية غير قوية كان عملا خاطئا منذ البداية، منوها في نهاية توصياته:- "بأن كارثة تشيرنوبل، كان يجب أن تحدث سابقا". 

اقترح "ليجاسف" إطفاء الحريق من الجو، وتم استدعاء طياري الهليكوبتر من أفغانستان، من ذوي الخبرة العالية بإسقاط الأهداف. واجتمع أكثر من 600 طيار لقيادة 80 طائرة عمودية لإلقاء 2400 طن من مادة الرصاص والمواد الخاصة الأخرى، في فم جهنم المشتعلة. وكان الطيارون يتسابقون فيما بينهم في زيادة طلعاتهم الجوية، حتى أن كثيرين منهم كان يُلقي في اليوم الواحد بأكثر من 30 حاوية فوق الفرن الذري، علما أن درجة حرارة الجو في الطائرة عند ارتفاع 200 متر فوق الهدف كانت تصل إلى 120 درجة. وبعد أشهر من إخماد الحريق تم منح جميع الطيارين وسام "بطل الاتحاد السوفيتي"، إلا أن 78 منهم، كانوا قد لقوا حتفهم، أما الناجون فقد ماتوا بعد سنوات قليلة بأمراض السرطان المختلفة. 

ومع أن الدولة السوفيتية أعلنت عن الحادث يوم 28 نيسان، إلا أن الأولاد والرياضيين في العاصمة الأوكرانية "كييف"، ظلوا يتدربون كل يوم في الساحة المركزية على الحركات والرقصات التي سيقومون بها في الأول من أيار أمام القيادات الحزبية، التي كان همها الأول والأخير هو التستر على فضيحة "تأخر التكنولوجيا السوفيتية". ومن الجدير ذكره، أن بدلات الرياضة التي سلمت للمشاركين في التدريبات قبل 3 أيام من الاحتفالات، تم فحصها بعد انتهاء عيد العمال مباشرة وتبين أنها كانت مشبعة بدرجات الإشعاعات القاتلة.

ومع منتصف أيار، وبعد إخماد الحريق في المفاعل الرابع، أصبحت المفاعلات الثلاثة الباقية في مأمن، إلا أن 192 طنا من الوقود النووي التي كان يختزنها المفاعل الرابع، ظلت تحترق وتلقي بإشعاعاتها القاتلة من بين المسامات والفتحات إلى سطح وباطن الأرض. وهنا ظهرت خطورة "التسرب النووي" من تحت أرض المفاعل إلى بقية المفاعلات الثلاثة. وتم حفر نفق على عمق 12 مترا، ليصل إلى أسفل الفرن الذري من أجل بناء غرفة تبريد، أو حتى غرفة خرسانية لمنع أي تسريبات من تحت باطن الأرض. وتم استدعاء  100 ألف جندي وضابط، وتطوع أكثر من 10 آلاف عامل منجم من شتى أنحاء الدولة الاشتراكية لحفر نفق يمتد طوله إلى 150 مترا. ومع أن درجة الحرارة داخل المنجم بلغت +50 درجة، إلا أن العمل قد تم إنجازه في نصف الوقت المحدد. وبعد استكمال بناء الغرفة أسفل نار جهنم، كان جسم العامل الواحد قد تلقى 300 ضعف من إشعاع رونتجن، ومع ذلك لم يرم أي من العشرة آلاف عامل بفأسه. وبعد أشهر قليلة، تم منح هؤلاء الأبطال أيضا وسام "بطل الاتحاد السوفيتي، إلا أن معظمهم كان قد فارق الحياة قبل ذلك.

وبعد 3 أشهر، تقرر جمع ودفن ملايين من شظايا الانفجار "المشبعة" التي تناثرت حول المبنى، وكان على كل جندي العمل فوق سطح المفاعل، أو بجانبه لمدة ل 3 دقائق فقط لا غير. كما تقرر بناء "تابوت" متحرك من مواد خاصة لتغطية المبنى.

وجاء يوم 25 آب، عندما وقف، ممثل الاتحاد السوفيتي العلامة "ليجاسف"، أمام جلسة، أو لنقل، محكمة مجلس الطاقة النووية العالمي في فيينا، ليبرر أمام علماء وصحافة العالم بالحجج العلمية بأن ما حصل في بلاده من انفجار نووي، يمكن مسح آثاره، مما جعل الصحافة العالمية تضع الرجل كأحد أهم 10 شخصيات عام 1986. ومع ذلك لم يتم تكريم الرجل في بلاده بما يستحق، وإن كان قد أيقن بأن جسمه قد أصبح عرضة للهلاك الذري. وفي الذكرى الثانية للكارثة، ترك ليجاسف مقالا قبل أن ينتحرا نشرته بعد ذلك صحيفة البرافدا، قال فيه:- إن السماح ببناء تشيرنوبل كان جريمة!. مضيفا بأن الحادثة تعكس مدى الركود في الدولة، وأن "الدولة لم تتعلم العبرة مما حصل". وتم تكريم الرجل الذي لعب دورا هاما في إخماد الكارثة بمنحه وسام "بطل روسيا"، ولكن ذلك جاء بعد 8 سنوات من وفاته، وإن كان الرجل قد دفن في مقبرة العظماء وسط موسكو. وبوفاة "ليجاسف"، أُضيفت ضحية أُخرى إلى ضحايا الكارثة التي قيل بأنها حصدت 30 ألف قتيل ممن شاركوا في عمليات الإنقاذ والإخلاء والتنظيف، وقيل 300 ألف، كما تضاربت الأرقام حول عدد الأشخاص الذين أُصيبوا بعاهات وتشوهات مختلفة، وقيل 70 ألفا أو 600 ألف!، كما أن 400 ألف من المواطنين (من عمال وأطباء ومهندسين وآخرين)، شاركوا منذ اليوم الأول للكارثة بعمليات مختلفة لإخماد الحريق، أو لنقل كانوا شهود عيان، كما تم تهجير 116 ألف مواطن إلى مناطق مختلفة، أما الخسائر المالية حتى اليوم فقيل بأنها وصلت إلى أكثر من 30 مليار دولار. 

ومع مضي 33 عاما على الكارثة، وبعد إغلاق المفاعلات الثلاثة الباقية، إلا أن مؤشر رونتجن في شوارع تشيرنوبل يقف اليوم عند رقم 3500 ميكرورونتجن، أي ما يعادل 120 ضعف الجرعة العادية. ومع ذلك وجد تجار الموت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أن الفرصة أصبحت سانحة لهم بسرقة محتويات البيوت المهجرة، وسرقة آلاف السيارات المدنية والعسكرية من مقبرة السيارات بالقرب من تشيرنوبل وبيعها كقطع غيار، كما تم تفكيك 8 طائرات هليكوبتر وآلاف الشاحنات والباصات، التي كانت تعمل في تلك الفترة هناك، بما فيها سيارات الإسعاف، وإعادة صهرها وبيعها كأنابيب أو كمواد خام أُخرى، علما بأن الإشعاع الذري يبقى محتفظا بضرره حتى لو صهر في درجة 5000+. كما أن الأثاث المباع وقطع غيار السيارات والشاحنات المسروقة التي يستعملها الناس دون علم حتى الآن، ما هي إلا مصادر متنقلة من الإشعاع القاتل الذي لن ينطفئ إلا بعد 20 ألف عام.