قد يكون العنوان غريبًا كغرابة حياتنا الرتيبة وما بها من تناقضات وتجاذبات كبيرة، ولكن اللامألوف يصبح مألوفًا في واقعٍ تُستباحُ فيه كلُّ القيم والأعراف، ويفقدُ الحقُّ قدرته على المناورة والمحاورة، وتخمد فيه جذوة المنطق أمام القوى الخائرة والعزائم الفاترة. ولكنَّ الواقع الفلسطينيَّ يقلب دائمًا كل الموازين، ويعبِّر بعمقٍ عن نباتٍ أراده الله فلسطينيًّا ليمدَّ هذه الأرض وأهلَها بمعنى الحياة.
كلّنا تابعنا عن قُربٍ أو عن بُعدٍ قضية مرضى السرطان في مستشفى المطلع في العاصمة القدس، وكلنا تألّمنا لمناظر الأطفال المصابين، وكان حزننا يتكوّمُ على صدورنا ونحن نرى عيونًا تطلُّ من أشباه وجوهٍ شاحبة، ورأينا رؤوسًا كان قد غادرها الشَّعْرُ في رحلةِ هربٍ من نار الكيماوي، ولكن رغم كل هذا، كان الأمل الخجول يغرِّدُ فوق تلك الرؤوس، ويتقافزُ في عيون براءة الأطفال، ويستنجد بصوتٍ مبحوح بأصحاب الملايين الذين لم تلسعهم جمرات هذا الألم الثقيل.
لم يستغرق الأمر كثيرًا حتى استجابت نفوس الأنقياء، ولبَّت نداء الأطفال الأبرياء، فكانت القدس بكل أرواح من يسكنها، تشتعلُ عطاءً وكرمًا وحبًّا، لتضرب في الوفاء والجود أمثلةً قلَّ نظيرها، فتهرع النساء والشيوخ والأطفالُ والرجالُ والحجارة والقيامة والأقصى لتلبية النداء، ويَخرُج الأطفال عن صمتهم البريء، فيشنقون (حصالاتهم) الضعيفة، وينبشون أحشاء تلك (القُجَج)، ويجمعون ما فيها في راحاتهم الطرية، ليقدموه لأطفالٍ أكلَ الألمُ من أرواحهم، وتصبحُ جدائل الصغيرات في القدس مادّةً سحريّةً في فصول العطاء الإنساني، فحين ترى طفلةً لم ترَ من الحياةِ إلا تلك الجدائل الجميلة، ثمَّ تقصّها لتزرعها في رأس طفلةٍ أُخرى فقدت شعرها، وهي تردِّدُ في وعيها ولا وعيها: (خصلة شعر تدرأ الخطر)، وعندما ترى طفلاً يجمع (تحويشة عمره) ويقدمها لأولئك المرضى، فاعلم أنك في القدس، واعلم أنَّ بوابة الأرض إلى السماء، لن يضيع فيها حق، ولن يجوع فيها معترّ، ولن يُكتمَ فيها صوتُ الباحثين عن الحياة، الناطقين بآلام المسيح عليه السلام، والحاملين رسالة النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والقابضين على جمر الوعي الإنساني.
لكلِّ طفلٍ من أطفال القدس، ولكل امرأةٍ أرضعت أبناءها حليب الوفاء، ولكل رجلٍ صنع من حُلكةِ الليلِ عباءةً يدثِّرُ بها المقرورين، لكلٍّ منكم قبلةٌ ووردةٌ وسلام.
سلامٌ لكِ أيتها الأم النبيلة، أيتها الأمُّ التي لطالما حلمت بأن تُنادى ( ماما)، وإذا بالموت المصنَّع يلتفُّ حول رقبة ابنها، وينهشُ روحه، ليكون ملاكًا من حرَّاس حدود السماء، وإذا بأمِّه تدفنه على مهلٍ تحتَ زيتونةٍ تعطَّرت بدماء الذين استظلوا بظلها ذات يوم، وها هي الآن تبيع آخر هديةٍ قدّمها لها ابنها في يوم الأم، لتتبرع بها عن روحه إلى الأطفال، وهي ترتِّلُ: "وتعاونوا على البر والتقوى"؛ فالبرُّ ألا تأكل وغيرك لا يجد جرعة دوائه، والبرُّ ألا تنام وغيرك في مهبِّ التفاصيل غير البريئة. والبرُّ أن تمشي في القدس وتسبِّحُ بحمد ربِّك الذي خلقَ على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
هنيئًا للقدس التي فاضت قداستها علينا جميعًا، وهنيئًا لأبناء القدس العظماء، الذين زرعوا يباب الأرض بخصوبة العطاء. نعم؛ هي أرضُ كنعان التي رقص لها التاريخُ على أنغام العَظمة، واحتفى بها العائدُ مشدوهًا في لحظة اللقاء الحميم "في القدس أعني داخل السور القديم/ أسير من زمنٍ إلى زمنٍ بلا ذكرى تصوِّبني، فإنَّ الأنبياءَ هناك يقتسمون تاريخَ المقدَّس... يصعدون إلى السماء، ويرجعون أَقلَّ إحباطاً وحزناً،
فالمحبَّةُ والسلام مُقَدَّسَان وقادمان إلى المدينة.
كنت أَمشي فوق مُنْحَدَرٍ وأَهْجِسُ: كيف
يختلف الرُّواةُ على كلام الضوء في حَجَرٍ؟
أَمِنْ حَجَر ٍشحيحِ الضوء تندلعُ الحروبُ؟" (درويش، 2004، ص47).
أجل، إنها القدس بحجارتها المضيئة تاريخًا تقاتل عليه اللصوص، وهي الأرضُ التي يتبخَّر في جوِّها الإحباط، فأرواح الأنبياء هناك، تقول للقادمين من اللاشيء: هنا القدس، حاضنة المجد الإنساني، حاضرةٌ في الذاكرةِ الأولى، لن تكون إلا لأولئك الأطفال الذين اشتقوا من (يبوس) معاجم التضحية، فكانوا عباقرةَ التاريخ، وفلاسفةَ العطاء.