تحمسنا للعروض الأولى لمهرجان المسرح الوطني الفلسطيني الذي تقيمه وزارة الثقافة في رام الله، وباغتتنا تساؤلات عدة حول شكل العروض والقضايا التي تطرحها وحالة الانجذاب، وما الممكن أن تتركه في الجمهور من أثر، خاصة أن النقاد والكتاب واللجان العربية الحاضرة لها رؤيتها وحكمها على كل عرض على حدى، وفق معايير وضعتها ضمن سياق المتعارف عليه في التحكيم، وبالتأكيد لن نحكم على أي من العروض، لكن سأتناول عرض اليوم الأول (مسرحية جفرا) من إنتاج المسرح القروي طمرة، لما مثلته من معان وطنية وثقافية تاريخية جاءت في عرض استمر أكثر من ساعة تنوعت بين الأهازيج والأغاني التراثية من عتابا وميجانا وروزنا وجفرا، لتحمل معها ذاكرة فلسطين من خلال عرض نوعي يحمل تفاصيل الحياة الفلسطينية في القرية من ديكور يشي بحياة القدم وطقوس الحياة اليومية بزيها وأدواتها، من خلال سرد تاريخي استعراضي فني شمل حقبة الاحتلال الإنجليزي وصولا إلى الاحتلال الإسرائيلي، وعادات وتقاليد العائلات الفلسطينية التي تمثلت في هذا العمل بقبيلة الكويكات (شمال فلسطين)، وتنسحب على باقي المدن والقرى الفلسطينية أهمها تقاليد الزواج وحرية المرأة ودورها ورأيها، والنظرة الأبوية ورؤية الرجل من خلال هذه العادات التي جعلتها محط خلاف وجدل على مدار سنوات طويلة، وتخلص المجتمع من جزء منها فيما يعاني من توابعها. وبرزت هنا شخصية جفرا التي تمثل عنفوان المرأة الفلسطينية القوية المتمردة صاحبة القرار، لتجعل منها أسطورة وحكاية فلسطينية نسردها ونحكيها حتى اليوم، ولتصبح ضمن التراث الإنساني الفلسطيني، لما شكلته من رمزية، فجاء العرض غنيا منوعا سلسا وشمل الكوميديا والتراجيديا والموسيقى والاستعراض والغناء الفردي والجماعي، ليذكرنا بأصالة المسرح العربي ويعيد مجده ضمن الفلكلور الذي بدأ يتراجع ذكره شيئا فشيئا.
وجاءت فرقة جفرا لإحيائها من خلال إخراج وسيناريو يواكبا القصة الحقيقية الأصيلة ببعد فني، وتوضح بداياتها ونهاياتها قبل وبعد النكبة الفلسطينية وانتهاء قصة الحب في مخيمات اللجوء، حيث ماتت جفرا وحبيبها أحمد في مخيمات لبنان، وقد جسد دورهما فاطمة الحاج ورامي صليبا في عرض رائع يرتقي لمستوى القصة التاريخية، للمخرج نبيل عازر والمؤلف علي ذياب، فيما جسد الأدوار الرئيسية الأخرى عبير عثمان وهيام ذياب، آلاء محمد، عامر أبو الهيجا، كارم كنعان، من خلال عرض متسلسل ومتواصل لا يشتت المشاهد، مترابط المضمون ويأخذه حيث أراد السيناريو والإخراج المميز، شملت الحركة والإضاءة والديكور الذي يسافر بنا إلى ذلك الزمن الجميل بتلقائيته وبساطته، واستعماله للأدوات التقليدية.
بالمجمل نحن أمام عرض مسرحي وطني متكامل يحفظ هويتنا التي تحاول إسرائيل طمسها وأسرلتها بما فيها من إرث محمول على مر العصور، ورغم ذلك فإن العرض لم يأخذ حقه في التغطية الإعلامية إلا في نشرة الوزارة نفسها (الخشبة) حتى من جهات كتبت عن أغلب العروض لم تتناوله لا من قريب ولا من بعيد، رغم أهميته وبعده الوطني والإنساني في سقطة إعلامية أضيفت إلى النتائج التي لم تعكس تحمس الجمهور بعيدا عن رأي النقاد، بأنه عمل يستحق على الأقل لأهدافه النبيلة وما يحمله من تصحيح للقيم والمفاهيم ودوره في إبراز الهوية في مواجهة الاندثار.