الحدث.
يشكل التفكير والتخطيط الاستراتيجي على مستوى السياسات العامة والوطنية أهم مرتكزات النصر إن كانت الدول والمجتمعات في حالة حرب، والنجاح في تحقيق الأهداف التنموية الشمولية إن كانت الدول والمجتمعات في حالة سلم واستقرار. التفكير والتخطيط الاستراتيجي نقيض القدرية السياسية والارتجالية والتجريبية والتخبط والغرق في تفاصيل الحياة اليومية. الاستراتيجية على مستوى السياسات العامة تعني الموائمة بين الوسائل والأهداف، وتوظيف كل أوراق القوة – الخشنة والناعمة – لتحقيق الأهداف الوطنية، فلا دولة أو مجتمع يخلو من عناصر القوة حتى الدول والشعوب الصغيرة أو الخاضعة للاستعمار، فهذه يمكنها اللجوء (لاستراتيجية الضعيف). التفكير والتخطيط الاستراتيجي عملية مركبة ومعقدة تحتاج لذوي عقول نيرة ومتخصصين ومراكز دراسات وأبحاث Think tank، ملمين بالماضي ويستلهمون منه الدروس والعبر، ويستقرؤون الواقع المحلي والإقليمي والدولي بكل مكوناته السياسية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية، ويستشرفون آفاق المستقبل اعتمادا على قدرتهم على استقراء دقيق للواقع ـ وبالتالي وضع مخططات استباقية لما قد تأتي به الأيام.
غياب أو ضعف التفكير والتخطيط الاستراتيجي في حالة السلم والاستقرار يؤدي لمشاكل تنعكس سلبا على الواقع، مثلا فشل المشاريع التنموية في حالة غياب التفكير والتخطيط الاستراتيجي في هذا المجال. لكن غياب الرؤية والتفكير الاستراتيجي عند النخبة السياسية الحاكمة في الشعوب والدول الخاضعة للاستعمار وحركات التحرر الوطني، وبالتالي غياب استراتيجية وطنية مبنية عليهما، يؤدي لنتائج كارثية على الشعب والقضية الوطنية، بدءا من استنزاف مقدرات الشعب البشرية والمادية في مواجهات وصراعات جانبية أو مواجهات فصائلية وموسمية مع العدو تؤدي لسقوط ضحايا من قتلى وجرحى وتدمير بيوت وممتلكات دون تحقيق أي منجز وطني، وانتهاء لضياع الحقوق الوطنية برمتها، وبطبيعة الحال لا تقع المسؤولية على الشعب بل على القيادة والنخبة السياسية.
في هذا السياق نستحضر مرة أخرى ما سبق وأن تحدثنا عنه مطولا وهو غياب استراتيجية وطنية فلسطينية شمولية للمواجهة مع إسرائيل، تجمع ما بين قدرات وإمكانات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج من جانب والعمل السياسي والدبلوماسي من جانب آخر. نعم هناك جهود دبلوماسية مهمة يقوم بها الرئيس أبو مازن ولكن العمل الدبلوماسي مع الدول والمنظمات الدولية لا يشكل لوحده استراتيجية قادرة على إنجاز حقوقنا الوطنية، كما أن المقاومة المسلحة التي تمارسها حركة حماس والجهاد الإسلامي وأحزاب أخرى لا تصلح لأن تكون لوحدها استراتيجية قادرة على إنجاز الأهداف الوطنية. الدبلوماسية والمقاومة مجرد أداتان توظفان في إطار استراتيجية وطنية شاملة.
ليس هدفنا هنا الحديث عن هذا البعد من الاستراتيجية إلا كمدخل لما يترتب عن غيابه من نتائج خطيرة على مستوى مواجهة التحديات المستقبلية التي تلوح في الأفق، بعد دخول المراهنة على الشرعية الدولية كطريق وحيد لإقامة الدولة في متاهة الشرعية الدولية، ودخول المقاومة في قطاع غزة والتي باتت مقتصرة على الصواريخ والأنفاق لطريق مسدود أيضا. الأهم من ذلك هو غياب استراتيجية وطنية لمواجهة تداعيات الحالة العربية المتسيبة من حولنا واحتمال أن تقوم إسرائيل بحرب استباقية تخلط من خلالها الأوراق داخليا وخارجيا.
لا شك ان ما يجري في دول الجوار كسوريا والعراق ولبنان، وفي دول العمق كليبيا واليمن، أمر مريح استراتيجيا لإسرائيل، حيث الدول العربية التي كنا نسميها دول الطوق والتي كانت مصدر تهديد لإسرائيل لم تعد كذلك، والعالم العربي بشكل عام غارق في حروبه ومشاكله الأمنية وهاجس الحفاظ على الدولة الوطنية أو على السلطة، ولم تعد إسرائيل مصنَفَة كخطر استراتيجي له الأولوية على بقية المخاطر بالنسبة لكل الدول العربية، وحتى الدول العربية غير المكتوية بنار الفتنة والحرب الأهلية أصبح هاجس انتقال العدوى إليها شغلها الشاغل، مما دفعها لتوثيق علاقاتها مع واشنطن والغرب عموما طلبا للحماية.
لكن كل ذلك لا يطمئن إسرائيل التي تعيش مآزق متعددة سواء على مستوى استمرار الصراع مع الفلسطينيين دون حل، واحتمال انفجار الأوضاع في المناطق الفلسطينية ليس فقط في قطاع غزة بل وفي الضفة الغربية والقدس، كذلك مأزق حصارها الدولي وتزايد التأييد الدولي الرسمي والرأي العام لحق الفلسطينيين في دولة، ولكن الأهم أن إسرائيل تخشى من حالة التفكك في الدول العربية المحيطة وانتقال الحروب والصراعات إلى المناطق الحدودية معها.
إن كانت إسرائيل تخشى وتحسب حسابا لقوة واستقرار الدول العربية المحيطة بها كمصر وسوريا ولبنان، وبشكل ما حماس قوية في قطاع غزة، إلا أنها في نفس الوقت تخشى من ضعف هذه الجبهات وانتشار حالة فوضى فيها قد تُنتِج حالات مسلحة متطرفة، لا تحسب الحسابات العقلانية التي تحسبها الدول والأنظمة السياسية. هذه الحالات قد تُقدِم على القيام بعمليات عسكرية موجعة لإسرائيل وخصوصا في زمن المواجهات عابرة الحدود بواسطة الصواريخ العمياء المتعددة الأنواع والأحجام التي أصبح من السهل الحصول عليها وإطلاقها على المناطق المأهولة.
دولة سوريا ضعيفة ودولة لبنان ضعيفة وحماس ضعيفة أمر يُخيف إسرائيل مؤقتا، مما قد يدفعها لفتح جبهة في الشمال مع سوريا ولبنان حيث الدولة هناك ضعيفة في المناطق الحدودية، وربما مع قطاع غزة حيث أزمات حماس المتعددة قد تدفعها لمغامرة جديدة مع إسرائيل، أو تأخذ إسرائيل المبادرة بالحرب إن شعرت أن ضعف حركة حماس سمح لجماعات مسلحة بالتواجد ومستعدة لإطلاق صواريخ على إسرائيل أو محاولة خطف جنود.
والسؤال هل لدى النخبة السياسية الفلسطينية رؤية أو خطة استراتيجية لمواجهة أي حرب قادمة في المنطقة، سواء على الجبهة الشمالية أو على قطاع غزة ؟. وإن لم تكن هناك خطة في هذا الشأن وهذا ما نخشاه، فهل توجد خطة أو استراتيجية متكاملة لمرحلة ما بعد لعب ورقة المراهنة على الشرعية الدولية وتداعيات ذلك على السلطة ؟ ومأزق حركة حماس والمقاومة المسلحة في قطاع غزة ؟. أم أصبحت النخب السياسية مستسلمة لفكرة أن مصير القضية الوطنية تحدده الاطراف والمتغيرات الخارجية وليس الفعل الوطني ؟ !.