بقلم: غادة السمان
أشبه البوم حين يتعلق الأمر بالعينين. فعيناي لا تتحملان الضوء الساطع كالبوم وبالتالي أعجز عن معاقرة «الإنترنت» بأمر الطبيب.
لكنني لم أكتب ما تقدّم لأقدم تقريراً طبياً عن وضعي الصحي، بل كتبته لكي لا يحدث لسواي ما كاد يحدث لي منذ أشهر، حين صار الدمع ينهمر من عيني إذا ازحت النظارة السوداء عنهما حتى قليلا..
يومها قلت لنفسي: لعلي أبكي على ما يدور في عالمي العربي.
وبحكم إقامتي في باريس منذ أكثر من ربع قرن، ذهبت إلى طبيبي الفرنسي الشهير الذي الفته لاستشارته. قال لي ان مجرى الدمع مسدود عندي ولا بد من عملية جراحية لزرع ما أسماه بالفرنسية «ترو كلو» في كل عين ومعنى ذلك ببساطة زرع «مزراب» للعين يقوم بتصريف الدموع وكلفة العملية الجراحية في كل عين ثروة صغيرة.
هالتني الفكرة وتخيلت ان «بالوعة الدموع» هذه ستتحول إلى مزرعة سعيدة للجراثيم.
تعالجوا في بلدكم
وتصادف أن كنت في طريقي لزيارة بيروت. وهناك التقيت بالصديقة المحامية الأديبة وفيقة منصور ولاحظت دموعي المنهمرة ونصحتني بالذهاب إلى طبيب في بيروت.
ضربت لي موعداً سريعا مع الدكتور محمد م. واكتشفت أنه درس في الولايات المتحدة وعمل ونجح كمعظم الشبان العرب الذين يتألقون في الغربة لكنه فضل العودة للعمل في الوطن.. في بيروت.
الدكتور محمد قال لي بعد فحص طويل دقيق: أنت ببساطة مصابة بالحساسية هذه (قطرة)، للاستعمال اليومي طوال ثلاثة أشهر، وحذار من تلك الجراحة لزرع «مزراب» فهي ما زالت تجريبية.
وشفيت بعلاجه خلال شهر واحد، وكلفني الأمر مبلغاً زهيداً. لا اتهم الطبيب الغربي بالغش بل بإمكانية سوء التشخيص كما يحدث للأطباء في كل مكان فالطبيب هنا وهناك بشر لكن الغربي ليس أفضل من العربي من حيث المبدأ.
تعالجوا في بلدكم
مثال آخر، تعارفت مع عدد من الأطباء المشهورين في باريس، يسعى المرضى العرب للقائهم ويتكبدون نفقات السفر والفنادق والشقق المفروشة مقابل المستشفى، بينهم طبيبتي الفرنسية النسائية. وفي الفحص السنوي الأخير معها حدث لي أمر مشابه لحكاية مزراب العين!!
وحين زرت بيروت مؤخراً ذهبت للقاء طبيبة نسائية معروفة هي د. منى ش. ورويت لها ما حدث. قالت: لقد اختروعوا علاجا من جرعتين، ستشفين إذا فرضنا جدلاً أنك مريضة دون أن تدرين، وينتهي الأمر. وهكذا كان!
ثم انني أعجبت بعملها وأسلوبها اللبناني في العلاج فهي تتعامل مع عافية الجسد ككل لا مع العضو الذي تخصصت في دراسته وحده.
صرت مقتنعة بأن في لبنان وعالمنا العربي أطباء لا يقلون علما ودراية عن أي طبيب غربي، وأن الإنسان العربي إذا أعطي الفرصة المناسبة لتحصيل العلم وحضور المؤتمرات الطبية الدورية العالمية لا يقل مهارة عن الغربي ان لم يفقه مرات. وصرت أطير من أوروبا الى بيروت للفحص الطبي السنوي أو للعلاج على العكس من سواي. اعترف بوجود خلل خطير في النظام الطبي العربي، ولا أتحدث هنا عن الضمان الصحي بل عن أمر آخر.
المستشفيات المريضة
في زيارتي الأخيرة إلى بيروت اقترحت على الصديقات ان نذهب لنعود صديقة مريضة وفوجئت برفض اللبنانيات المقيمات في الوطن. لماذا؟ لأننا سنعود من المستشفى وقد التقطنا جرثومة مرض ما، كما قلن لي!
حسنا. أعترف أن سمعة بعض المستشفيات اللبنانية والعربية (من حيث نشر الجراثيم وقلة التعقيم الطبي) ليست فوق الشبهات وليس لنقص مهارة العاملين فيها، ولكن لأن ظروف العمل تنهكهم لساعات طويلة بأجر محدود، ناهيك عن الوضع اللبناني والعربي العام الذي يجثم بثقل مخاوفه وهمومه فوق بعض الأقطار وينعكس على أداء الكثيرين.
وتحسين الأوضاع العامة المعيشية والأمنية يساعد الأطباء على حسن التشخيص وبقية الجسم الطبي على العلاج، ومن الخطر ان تكون مستشفياتنا مريضة أكثر من مرضانا!
فقراء بلادكم أولى
منذ أيام ذهبت إلى المستشفى الباريسي الشهير الذي جاء للعلاج فيه بعض مشاهير هوليوود، لأزور صديقة فرنسية مريضة.. لفتتني في مدخل المستشفى لوحة تذكارية تشكر السيد (فلان) على هبته للمستشفى. وهو ثري فلسطيني كبير تبرع بمبلغ (فادح) ولولا ذلك لما حفروا لوحة تذكارية بالأمر.
لماذا تبرع هذا الفلسطيني الثري لمستشفى غربي بدلاً من أحد مستشفيات غزة مثلاً؟
كل إنسان حر بماله وبأسلوبه في إنفاقه. ذلك لا ينفي أنني تمنيت لو هطل ذلك المال وسواه على أحد «المستشفيات العربية المريضة» لكي لا يضطر أحد للعلاج في الغرب، وبعدما كان الأطباء العرب في زمن الحضارة العربية هم المنارة في العلاج والاكتشاف وكان الغربي يأتي إلى الأندلس طلباً للعلم، وصرنا نذهب إليهم طلباً للعلاج.
أحلم بيوم أطالع فيه في جريدة «الصباح» نبأ وصول رئيس جمهورية غربي إلى بيروت أو أي عاصمة عربية أخرى للعلاج من مرضه بدلاً من العكس.