في نهاية خمسينات القرن الماضي، وبعد سنوات من المنافسة التجارية بين أصحاب سينما العاصي من جهة، وسينما غرناطة، التي تعود ملكيتها لآل الشكعة الأصدقاء؛ تم تأسيس "اتحاد دور السينما" في نابلس، الذي ضم بعد ذلك سينما ستوديو العاصي وسينما ريفولي. ومع وفاة والدي عام 1961، أصبح وليد الشكعة (أبو غسان) الشقيق الأكبر (لسعد، وخالد، وبسام – أبو نضال) والصديق الأقرب لوالدي هو الوصي الأوفى على أُسرتنا حتى وفاته عام 1973. ولما كبرنا، وأصبح لكل منا أُسرته وأطفاله؛ ظل العم أبو مازن وأشقائه، أبو سامر وأبو نضال، بمثابة الأوصياء علينا إلى أن توفاهم الله جميعا.
بعد عودته عام 1965 من رحلتي اللجوء السياسي في سوريا ومصر؛ كان العم أبو نضال يأتي إلى سينما العاصي مصطحبا أولاده، وكان الجيران من أصحاب المحلات والموظفين ينتظرون حضوره دائما للاستماع إلى أحاديثه عن الوحدة والقومية العربية وعن العزة والكرامة الوطنية. كان يتحدث بحماس شديد عن جمال عبد الناصر، وهو البعثي المخضرم، وكان النقاش يستمر حتى بعد انتهاء عرض الفيلم وحضور أولاده. كان يلاحظ أن هناك فتيانا يجلسون في الزوايا. كان يتحدث مع الجميع ويوجه أنظاره إلى عيوننا نحن الصغار حتى سألني مرة وهو يبتسم:- ما عندك سؤال يا "أبو علي"؟ (هكذا كان الأهل والأصدقاء ينادونني في الصغر)، وسألت فورا:- هل كان المبلغ المخصص لك كلاجئ سياسي في مصر أعلى من سوريا؟، وقهقه أعمامي وسط ذهول الجميع، فقد كانوا يعرفون أن أبو نضال كان اللاجئ السياسي الوحيد الذي رفض رفضا باتا طيلة سنوات إقامته، معاشا من الحكومتين المصرية والسورية.
كان العم أبو نضال يحب الحيوانات، ويكره الاحتلال. كان مولعا بحبه للطيور وخاصة طيور الكناري، كان يهتم ويعالج طيوره بنفسه، وقد لاحظ مرة أن بعض من طيور الكناري قد اختفى من القفص، فما كان منه إلا أن دخل إلى القفص، محاولا استكشاف السبب. وبدأت العائلة تسمع أصواتا، تشبه أصوات العراك، وبعد دقائق خرج أبو نضال، حاملا بيده ثعبانين كان قد قتلهما داخل القفص وحده.
ولما جاء يوم الاقتراع لانتخابات بلديات الضفة الغربية عام 1976، التي كان العم أبو نضال قد ترأس قائمتها الوطنية؛ اختار هو وإخوته وعائلاتهم السهر في بيتنا في تلك الليلة، لمراقبة نتائج فرز الأصوات أولا بأول، التي كانت تجري في مدرسة عمرو بن العاص الملاصقة لسور منزلنا. وكان إخوتي ومعهم الأولاد من آل الشكعة، يتسابقون في نقل نتائج فرز الأصوات وكأنها البث المباشر. وهكذا خرج أبو نضال من منزلنا رئيسا لبلدية نابلس، ليبدأ بعدها تاريخا من النضال، يكون درسا للأجيال في مقارعة الاحتلال، الذي تجلى من أوله بطرده لزعيم العنصريين "مائير كاهانا" من درجات مبنى البلدية (الخارجي).
في صيف عام 1993، حضر إلى نابلس أستاذي العلامة "فيدروف"، وكنت قد أقمت حفل غداء على شرفه في منزلي في جبل جرزيم، وما أن وصل "فيدروف" ومعه صديقه سفير روسيا الاتحادية في تل أبيب، الكسندر بوفين، حتى قال لي:-
سامر! نسيت أن أطلب منك، أن يكون على الغداء "رفيقي" (كان البروفسور قد فيدروف فقد رجله اليمنى في حادث سير)، رئيس بلديتكم السابق، الذي نجا من الانفجار، والسيدة عشراوي!، ضحكت، وقلت له، إن رئيس بلديتنا السابق بسام الشكعة سيحضر بعد قليل، أما السيدة حنان عشراوي فأنا لا أعرفها، وإن كنت تريد الحديث عن المفاوضات التي تجري بيننا وبين الإسرائيليين، فاسمح لي أن أقدم لك الآن، د. ممدوح العكر، أحد كبار المفاوضين الفلسطينيين.
ومع بداية الحفل، وقف العم أبو نضال أمام الجمع قائلآ:- أتمنى أن يعود الاتحاد السوفيتي، أو أن تعود روسيا قوية بقوة سلفها الاتحاد السوفيتي، لوقف عربدة السياسة الأميركية في العالم.
وبعد بدء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، أغلقت سينما غرناطة أبوابها، وحُلت الشراكة المالية بين العائلتين، ولم تُحل الصداقة بيننا أبدا.
في رثائي للعم أبو نضال، فإنني أقولها وبصدق:-
كان حديثه دائما ينبع من أهداف وطنية صادقة، لذا جاءت تحليلاته السياسية دائما ثاقبة.