كانت الجولة الأخيرة من التناوش بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي، مفصلاً في النظرة إلى حماس في غزة وما بعد غزة.
قد يستغرب البعض غير المتعمق في السياسة، وقوف حماس على الحياد السلبي وعدم مشاركتها الجهاد الإسلامي في الرد على اغتيال القائد الميداني بهاء أبو العطا رحمه الله، وحماس لم تأخذ حتى موقف أضعف الإيمان إلى جانب حركة الجهاد الإسلامي.
حماس لديها مشروعها السياسي الآن، بدايةً من ورقتها للحكومة السويسرية 2007 والتي أعلنت فيها حماس رؤيتها المرحلية للحل، وهي القبول بدولة ذات حدود مؤقته وهدنة طويلة الأمد تصل لعشرين عاماً مع إسرائيل، وممر آمن للضفة وآخر للمقدسات في القدس.
"مخطئٌ من ظن يوماً أن للثعلب دينا"
لنتذكر جلسات حماس مع مسؤولين أميركيين وأوروبيين في سويسرا نوفمبر 2009، حيث قدمت نفسها بثوب جديد كبديل عن منظمة التحرير؛ فقد سمع وفد حماس من مجالسيهم توماس بيكرينغ من الخارجية الأمريكية والمسؤول الأوروبي جيرمي ما تطرب له القلوب، من جملة ما قالوا لهم، ما يلي:
"الصورة عنكم أنكم حركة راديكالية متطرفة، ولكن نحن نعلم أنكم حركة سياسية غير متطرفة".
"ونحن نعمل معكم منذ سنتين، وندرك الموقع الذي تتواجدون فيه، وندرك أنكم ستبنون عليه وتتحولون إلى سياسيين ماهرين". (دغدغة العواطف).
"هناك فرصة، لديكم خبرة جيدة وقدرة على الاتصال، سمعتكم طيبة! ولا يمكن صناعة السلام بدون حماس".
"حماس مدعومة سياسياً ب 50% من الشعب الفلسطيني، وكذلك قدرتها على المقاومة، وفتح خسرت موقعها الأخلاقي والسياسي، وهناك حاجة إلى وجود تنظيم كبير مقاوم في العملية السلمية، حماس أكبر من أن تترك خارج العملية".
"التهدئة أظهرت رغبتكم وقدرتكم، وأنتم أصحاب قرارٍ ورؤية".
" الاستيراتيجية هي أن توضح ماذا تقول وتحدده، وقل هذا ما نريده كشعب فلسطيني ونريد تطبيقه، وأن تكون حماس جزءاً من ذلك".
أما ردود حركة حماس في لقاء سويسرا فقد كانت على النحو التالي على لسان الدكتور محمود الزهار:
"نحن نريد إيجاد حل عملي لكل المستوطنات، ولقضية اللاجئين، وعندما نتحدث عن القدس نتحدث عن المكان الثالث الأكثر قداسة لدى المسلمين بعد مكة والمدينة".
"قبلنا حل الدولتين مبدئياً".
" ... يعلمون أن أبو مازن فاشل سياسياً، ويقفزون من شخصية إلى أخرى لإيجاد حل، لا يمكن صنع السلام مع مثل هذه الشخصيات".
نحن لسنا خائفين من الدخول إلى المفاوضات وعرض موقفنا، صحيح أننا لسنا صورة عن فتح، ففتح فشلت ليس بسبب المفاوضات بل بسبب فسادها الداخلي، وحماس هي التنظيم الإسلامي الوحيد الذي يتمتع بدعم كبير في العالم العربي والإسلامي، ولدينا القوة والقدرة لاتخاذ مثل هذه الخطوات الشجاعة، نقول كلمتنا وموقفنا بشجاعة وثقة".
"نحن أفضل من فتح ونحن الأكثر تقدماً".
لست من أصحاب الفكر التآمري، ولكن الربط بين الأقوال والأفعال، وإن مضت بينهما سنوات وتجاذبات وحروب استعراضية؛ هو ربط من كل بدٍ منطقي. فحربي 2012 و 2014 والتي راح ضحيتهما عشرات آلاف الشهداء والمصابين وتدمر خلالهما أكثر من خمسين ألف مأوى؛ هي حرب استجلاب بريقٍ بفعل سوء حكمٍ اختفى، أي هي حروب استعراضية رغم بعض صور المقاومة المشرفة فيها، لأن حماس ليست كلها استعراضية، والهدف منها الإثبات أولاً لإسرائيل ومن خلفها أن حماس قوية وبالتالي جرئية وأجدر بالتفاوض، وثانياً محاولة إظهار نفسها أمام شعبنا بأنها حامي الحمى، وأمام الشوارع العربية والغربية التي غصت بالمتظاهرين الذين خرجوا للتضامن مع الضحايا وليس لمناصرة حماس؛ اللهم الإخوان المسلمين وعائلاتهم. وما قاله نتنياهو وليبرمان "إن لم يكن الرئيس عباس قادراً أو راغباً في صنع السلام فهناك في غزة رجال قادرون وراغبون في الحديث إلينا". هنا وصلت رسالة حماس لإسرائيل.
موقف حماس في الجولة الأخيرة، وإذا ما تم ربطه بمضامين اجتماع سويسرا وحلم حماس المتواصل بالسلطة الكاملة في غزة والضفة الغربية، يوحي بأن حماس تتصرف بحكمة حسب وصف الصحافي الإسرائيلي على قناة الجزيرة، وهي ملتزمة بالتهدئة مع إسرائيل، ولطالما هي كذلك، فهي تسعى لإظهار نفسها بأنها تحترم كلمتها وتعهداتها كحركة جديرة بثقة المحتل كمفاوض مستقبلي، وأنه يمكن الاعتماد على احترامها لتعهداتها. ولا شك لدي أن حكومة نتنياهو ستكون شاكرة لحماس ولسوف تكافؤها. وكأن حماس تتصرف بناءً على نصائح جيرمي وتوماس بيكرينغ. وموقفها هو تماماً من هذا المنطلق، بغض نظرها التام عن الجهاد الإسلامي، وما كانت أصلاً لتتدخل لو أُبيدت حركة الجهاد الإسلامي عن بكرة أبيها، ذلك أن الأخيرة باتت الآن عامل عقبة أمام برنامجها السياسي.
ومع أن حماس ستتلقى اللوم على موقفها السلبي من الجهاد والإيجابي من إسرائيل، وأن بعض الناس يظن بخيانة حماس، إلا أن حماس لا تلقي بالا لهذا؛ فهي لا تبالي إلا بأتباعها، وليس مطلقاً بالشعب صاحب الرأي الآخر، ودليل ذلك طريقة حكمها وتحكمها بالناس في القطاع.
ولعل مؤكدة، أن حماس تحسب الآن حساباً أكبر لحركة الجهاد الإسلامي، وأن الأخيرة إيرانية التبعية وليست إخوانية، وأنه على درجةٍ أقل منها تشبثاً بالتهدئة، ما يخرج الأمور عن سيطرتها الكاملة على القطاع ويسبب لها صداعاً هي في غنى عنه، ولكن ما الحل؟ علماً أن بطش حماس أكبر من صبرها.
وقال متناقشون اليوم في مقهى الانشراح الشعبي في رام الله التحتا، إن حماس كانت لا تمانع اختفاء أبو العطا لأنه كان متمردا وخرق التهدئة أكثر من مرة، وعمل ضد مصلحة حماس، وبذلك نهش من سيطرة حماس الكاملة والمطبقة على قطاع غزة، أي عبثَ ببرنامجها السياسي. ترى، هل ستقبل حماس بإحراج أو تناوشٍ آخر من الجهاد الإسلامي؟ وهل ستدع تمرد الجهاد بدون محاسبة قريبة أو بعيدة، وهي التي تقطع دابر كل من تجرأ على العمل بحرية؟ تلك لعمري كَرةٌ لن تسمح حماس بتكرراها.
وفي المقابل، هل تغض حركة الجهاد الإسلامي الطرف عن تخاذل حماس وثنييها عطفها (إشاحة الوجه) عنها في جولة القتال؟
لقد ذرفت الولايات المتحدة الدموع على انهيار حكم الإخوان في مصر وتباكت إدارة أوباما كثيراً على الرئيس مرسي رحمه الله. قبل ما يقارب التسع سنوات، اجتمع الدبلوماسي مارتن إنديك مع عدد من المسؤولين في حركة الإخوان المسلمين وممثليها من عدة دول، وأبلغهم عن أهميتهم بالنسبة للولايات المتحدة وأنهم حلفاؤها، وأنها سوف تدعم تطلعاتهم السياسية بشكل موثوق. وكان هدف أمريكا امتطاء الإخوان وفتح أبواب العرب أمام إسرائيل. وقد راهنت إدارة ترامب كثيراً على قيادة الإخوان في مصر التي بالغت في انصياعها للأوامر الأمريكية بإعلان مرسي الحرب على سوريا في ذروة الحرب فيها، وبقول مرسي في رسالة خطية للإدارة الأمريكية "نحن نقبل بالاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل"، في حين كان الطلب الأمريكي -حسب دبلوماسي من البيت الأبيض- أن تعبر مصر فقط عن احترامها لهذه الإتفاقيات.
ولكن الصدمة الأمريكية كانت بوصول الرئيس السيسي إلى الحكم وعزل مرسي وإيداعه سجن طرة، حيث عبر مسؤول في الخارجية عن الصدمة قائلاً: لقد فقدنا إستراتيجيتنا في مصر وذهبت كل جهودنا أدراج الرياح، ولا نعرف بعد من أين نبدأ من جديد في المستجد المصري.
في عهد ترامب، وفي محاولة بئيسة للالتفاف على السلطة وهو ما تأمله حماس، بسبب رفض الرئيس عباس العودة للمفاوضات دون وقف الاستيطان، وبعدها الرفض المطلق لما أشيع عن صفقة القرن؛ لجأت واشنطن لمسرحية قبيحة اسمها المؤتمر الإنساني لمساعدة الغزيين. ولم يكن ذلك أكثر من تلويحٍ أمام الرئيس عباس بأن في عزة من يقبل حديثنا ويتوق للتحدث معنا، إلا أن ثبات الموقف الفلسطيني الصلب أفشل المؤتمر وأفشل من بعدة ورشة منامة الندامة.
إن حماس تتثوب السياسة بديلاً عن المقاومة دون إعلان صريح، وتعرض نفسها كعارضة أزياء ولسان حالها يقول كما سبق وقالوا لبيكرينغ في سويسرا "نحن لدينا القوة والقدرة والشجاعة لاتخاذ خطوات شجاعة في صنع السلام". ومع ذلك، لن يكون مستغربا أن تستفز حماس هجوماً إسرئيلياً يعزز موقعها.
أنا لا أقول إنه ليس من حق حماس التحول إلى السياسة وإرجاع المقاومة خطوات إلى الوراء، فهذا حق طبيعي لها ولغيرها، ولكن بلا تخوينٍ للآخرين، فلا تنهَ عن خلقٍ وتأتي به، لإنه عارٌ عليك وإن فعلت عظيم.