في الحروب الكبيرة والصغيرة، يكون فيها دائما منتصر ومهزوم، وحين تقام احتفالات النصر يتصدر الزعماء مشهد تبادل الأوسمة، وتلمع أسماء الذين نسبت إليهم انتصارات الحرب، مع أنهم لم يغادروا الغرف المغلقة والمحصنة، ومن أجل أن لا يعتب ذوو الذين قتلوا وجرحوا؛ تقام لهم نصب رخامية أو حديدية أو برونزية في أماكن معزولة عن مراكز العواصم ويسمى نصب الجندي المجهول.
تعودت الشعوب على هذه الحكاية حتى صارت جزءا من ثقافتها الوطنية، الذين سجلوا المعارك وصوروها وقتلوا وهم يلاحقون أدق تفاصيلها لا يتذكرهم أحد، لأن المتمولين الذين يهتمون بكتيبة الإعدام على حساب كتيبة الإعلام دائما ما يستولون على الجهد، فيحولونه إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية تدر المليارات من كل العملات، ذلك بينما يجاهد المصور لجمع ثمن الكاميرا البديلة عن تلك التي سحقت تحت قذيفة أو تحت نعل جندي.
في زاويتنا الفلسطينية التي هي جزء يكاد لا يرى على خريطة الكون الواسع؛ ظهرت كتيبة من علاماتها الفارقة أنها لم تهزم في أي حرب، سلاحها الورقة والقلم والكاميرا والميكروفون، وإذا كان بوسع ضابط أو جندي مدجج بالسلاح والذخيرة أن يتقي الموت إما بالتحصن أو الهرب من أرض المعركة، إلا أن رجال ونساء الكتيبة الإعلامية هم وحدهم من لا يفعل ذلك، لقد اختاروا عملا شرط النجاح فيه الجرأة والإقدام والجاهزية للإصابة حتى الموت، ولأن الحياة الفلسطينية منذ البدء وربما إلى ما لا نهاية هي سلسلة من حروب كلها غير متكافئة؛ فإن من اختار الانتساب لكتيبة الإعلام يعرف سلفا أنه لا بد وأن يجد نفسه رقما في معادلة أسطورية، كأنها وجدت من أجله... الكاميرا في مواجهة الدبابة والميكروفون في مواجهة قذائف الطائرة، والعين المجردة في مواجهة طلقات الرصاص، والقلم إن لم يكتب بالحبر فبالدم.
لن أذكر أسماء نجوم الكتيبة الإعلامية الفلسطينية خصوصا الشهداء منهم، فمن أذكر ومن لا أذكر!، إنهم بالمئات إن لم أقل بالآلاف.
كتيبتهم التي ولد الجندي الأول فيها مع أول معركة، تجسد ظاهرة عابرة لكل زمان ومكان، عابرة للجنسيات واللغات والمنابر والثقافات، وفي رحلة كتيبتنا الإعلامية كنت ترى العربي إلى جوار الأوروبي، والروسي إلى جوار الأمريكي، حتى أن شهداء هذه الكتيبة توزعوا على كل بلدان وشعوب الكون؛ ففي كل بلد ضريح لإعلامي فقد حياته دفاعا عن العدالة، لم يكونوا مجرد أضرحة في مقابر، بل روافد إضافية لنصرة قضية وشعب، ولولا كتيبة الإعلام هذه لما بقيت فلسطين على قيد الذاكرة الكونية ولما كانت عصية على الموت.
جنود وقادة كتيبتنا الإعلامية، يظهرون تحت النار وينهضون بكاميراتهم من بين الركام، ولكنهم يختفون طوعا في حفلات توزيع الغنائم، فهم راضون بدورهم ووظيفتهم ورسالتهم، يصورون الآخرين ولا يظهرون في الصورة، يسجلون دوي القذائف والانفجارات ويصابون بشظاياها ولا يتباهون، يكتبون تاريخا تتداوله الأجيال ولا يضعون أسماءهم وبصماتهم عليه، كتيبة كهذه حتى لو انهزمت الجيوش تظل هي المنتصرة.
أليس كذلك يا معاذ!