يلاحظ القارئ لهذه المذكرات أنها لا تخضع لسرد خطي ينطلق من بداية كي يؤول إلى نهاية سعيدة أو حزينة وفق كرونولوجيا تتابع أحداثها وإحداثياتها تتابعا يتماشى مع المسار الطبيعي للزمن، بل هناك جيئة وذهاب بين أحداث ووقائع مختلفة مكانا وزمانا، وإن كان الفضاء المجالي الأوحد يحتضن دينامية السرد ومادته الخام.
لوجهة النظر هاته ما يبررها واقعيا، إذ أن الإنسان في حياته اليومية ملزم بالضرورة بالتنقل في اليوم الواحد بين أمكنة متعددة تفصل بينها مسافات قد تطول أو تقصر. أفكر هنا في تلك الرحلات اليومية المكوكية التي يقوم بها أساتذة التعليم الابتدائي العاملين في مدارس العالم القروي بين مقرات عملهم ومقرات سكناهم الكائنة غالبا في المدينة التي شهدت مسقط رأسهم إذا كانت المسافة تسمح بذلك أو في أقرب قرية أو مدينة صغيرة يتوفر فيها الحد الأدنى من ضروريات العيش الكريم.
هذا الاختيار المنهجي مناسب لما أنا بصدده الآن، سيما وأنه يتيح لي العودة إلى تفاصيل البداية التي قفزت عليها فيما سبق من سطور دشنت بوح الذاكرة. وهذا، بالطبع، ما يخول لي استئناف الحديث عن ما تم تأجيله ضمنيا بدافع من ضمان وحدة الموضوع.
عندما نزلت من الحافلة ووطأت قدماي لأول مرة تراب أكدز وأنا أحمل في محفظتي وثيقة تعييني بمجموعة مدارس تانسيفت، تسلمت من مساعد السائق متعلقاتي بما فيها مقتنياتي من جامع الفنا التي كلفتني كل ما كان بحوزتي من دراهم وتم اقتيادي في الحين إلى فندق صغير غير مصنف يعتلي مقهى ذات واجهتين. حدد ثمن الغرفة للمبيت فيها خلال ليلة واحدة بعشرين درهما، ومع ذلك وجدت الغرفة التي قضيت فيها ليلتي الأولى نظيفة نسبيا بفضل المجهودات التي تبذلها أمرأة ضخمة الجثة يبدو من لكنتها أنها من نفس البلدة.
لحد الساعة، لم يكن لي أي علم بالمنصب الذي سوف يسند إلي ولا بالمكان الذي سأعمل فيه. وحدهم المفتشان ومدير المؤسسة يعلمون ما أجهله الآن بحكم سهرهم القبلي على هندسة التنظيم التربوي للمجموعة المدرسية ككل. غدا، السادس عشر من أيلول 1988 سوف يكون يوما حاسما في حياتي العملية التي أنا مقبل على الشروع في خوض غمارها مع أناس لم يسبق لي أبدا أن عاشرتهم وفي أرض لم أتصور التواجد على أديمها ولو في الأحلام. غدا، سوف تلتقي عناصر طاقم التدريس بالمدرسة المركزية لأجل التوقيع على محضر الدخول برسم الموسم الدراسي الجديد وسوف يعرف الأساتذة، خاصة الجدد منهم، أماكن عملهم والمستويات المسندة إليهم.
استيقظت في الصباح في حوالي السابعة، حزمت حقائبي بإحكام وخرجت قاصدا المقهى لتناول وجبة الفطور. خرجت من الفندق ولفت انتباهي وجود فوج من السياح المتجهين إلى زاكورة وهم يكتشفون لأول مرة مثلي جغرافية المكان ومورفولوجيته، كما عاينت عددا غفيرا من المعلمين ومن المعلمات بنسبة أقل وهم على أهبة الالتحاق بمؤسساتهم لأجل نفس الغرض.
لما انتهيت من تناول وجبة الفطور، أخذت أبحث عن وسيلة نقل متجهة إلى حيث توجد إدارة م/م تانسيفت فتم إرشادي إلى ستافيت بيضاء تستخدم كناقلة بدون رخصة. لازمت العربة وانتظر سائقها إلى أن تكدست بأكبر عدد من الركاب بمن فيهم مجموعة من معلمي المنطقة المراد الإحلال فيها قبل أن يدير مفتاح الديمارور.
انطلقت العربة وفي جوفها ركاب تجاوز عددهم سعة حمولتها إلى درجة لم تجد جماعة كبيرة وأنا واحد منهم بدا من الذهاب على متنها وقوفا بشكل إجباري لا خيار فيه. اجتزنا قوس النصر القريب من بناية سرية الدرك الملكي واتجهت بنا السيارة نحو بلدة تانسيفت عبر مسلك جبلي غير معبد يخترق التلال والوديان ويتميز بكثرة المعرجات ما تسبب لنا -نحن الواقفين- في محنة مقاومة التزحلق وإيجاد التوازن لأوضاع أجسامنا التي أصبحت تتمايل ذات اليمين وذات الشمال عند كل معرج، ناهيك عن الاهتزازات والارتطامات عند عبور الشاحنة لكل أخذوذ يبدو كندبة تركها جريان ماء المطر على وجه الطريق.
استمرت الرحلة زهاء ساعة من الزمن، وفي نهايتها لفظتنا الناقلة المهترئة وتنفسنا الصعداء بعد الاصطبار على ما تجشمناه بداخلها من صنوف العذاب. بطريقة من الطرق، علمت أن المعلم المكلف بإدارة المؤسسة شاركنا نفس وسيلة النقل وعانى مما عانيناه، لذا فقد تعقبت خطواته لأكتشف من خلاله المكان الذي تتواجد به المدرسة المركزية.
نحن الآن في قلب دوار بنيت أغلب منازله بالطين وشكلت تجمعا سكانيا خالدا على بؤسه، يشهد على ذلك عدم ارتباطه بشبكة الكهرباء الوطنية واقتصار سكانه في جلب الماء للشروب من آبار بعيدة الغور اعتمادا على وسائل بدائية تقتضي بالضرورة بذل مجهودات عضلية مضنية. بعد لحظات، اجتمعنا تحت قيادة رئيسنا المباشر، فوقع التعارف وتجديد صلة الزمالة بين سائر المعلمين الذين لا حظت أنه لا توجد بينهم ولو معلمة واحدة. هنا أدركت مدى صعوبة ظروف العمل بهذه المنطقة، وهي صعوبة فرضت على السلطات التربوية المعنية أن تحجم عن تعيين معلمات ليدرسن هاهنا.
انفض الاجتماع بعد المرور على نقط جدول أعماله نقطة بنقطة. أنا الآن على علم بمدرستي الفرعية التي كانت من نصيبي وبالمستويات التي سأعمل في إطارها كمدرس للغة العربية وما يدرس بها من مواد أخرى. المدرسة الفرعية كانت الفكارة وما أدراك ما الفكارة! والمستويات هي الثالث والرابع+الخامس.
لم أعد أذكر نوع وسيلة النقل التي امتطيتها أثناء رحلة العودة إلى أكدز. المهم أني تمكنت بمساعدة زميل لي في نفس الفرعية من استئجار سيارة أجرة يتحدر صاحبها من الدوار الذي كان مقصدنا في مساء اليوم الذي وقعنا فيه على محضر الدخول. طلب السائق من كل واحد منا مبلغ أربعين درهما مقابل الذهاب معه على متن سيارته إلى دوار الفكارة. قبلنا عرضه ووضعنا أمتعتنا في الصندوق الخاص بها. انطلقت بنا السيارة في رحلة هي الأولى من نوعها بالنظر إلى مسارها الذي نجهل معالمه وطبيعته وبالنظر إلى توقيتها الذي صادف بداية إرخاء الليل لسجوفه.
الطريق كثيرة الالتواءات مثل ثعبان ضخم، الظلام دامس يحجب رؤية الطريق والمناظر الطبيعية التي تصاحبها، وحدها مصابيح سيارة البوجو البيضاء تحاول إبادة الظلام الكثيف من أمام السائق الذي يبدي من حين لآخر عدم رضاه عن وعورة المسلك ووفرة المخاطر التي يسببها لسيارته العزيزة عليه وكانه يؤكد لنا على مدى تضحيته المادية الجسيمة عندما قبل بإيصالنا إلى دوارهم مقابل ذلك الثمن الزهيد.
نحن الآن على مشارف الدوار بحسب ما أفاده بنا السائق. تطلعت إلى الأفق عبر الزجاجة الأمامية.. بدا لي الأفق معتما لا يكاد يبين عن معالم أو تضاريس، ولكني استطعت أن أدرك بحاستي السادسة أن الدوار يقع في وهدة كأنها حفرة أو واد عميق.
في هذه اللحظة، انفجرت إحدى عجلات السيارة وأصم دوي انفجارها أذاننا. عندها، توقفت العربة ونزل السائق ليستبدل العجلة المفشوشة بأخرى سليمة وهو يتفوه بكلمات تترجم سخطه على ما آلت إليه الكورسة من خسارة بائنة وكانه يطلب منا تعويضه عما حل به من كساد. لم نتجاوب مع مونولوجه الابتزازي، وانتظرنا خارج السيارة حتى فرغ من عمله واستانفنا المسير إلى أن ولجت بنا السيارة قلب الدوار حيث كان في استقبالنا عون السلطة الذي أضافنا في بيته وقدم لنا الأكل والشراب مع إمتاعنا بمشاهدة أحد أفلام سيلفستر ستالون الحركية.