صريح العبارة
تجاوزاً، جرى توصيف الصحافة (والإعلام عموماً) بالسلطة الرابعة، بجانب السلطات الدستورية (التشريعية والتنفيذية والقضائية) وفي حين جرى تطبيق الفصل بين السلطات الثلاث المذكورة فإن سلطة الصحافة والإعلام ما زالت في العديد من الدول تخضع لهيمنة السلطة التنفيذية، وفي بعض الدول يسام العاملون في هذه المهنة الإعلامية السامية أسوأ أنواع التسلط ويتعرضون لمختلف أصناف التضييق، من سجن وتجويع وأحياناً القتل. هذا ما يجري في الدول التي تحكم بطريقة شمولية (سيطرة الحزب الواحد أو الطغمة العسكرية، أو الارستقراطية العشائرية).
أيـن نحن من كل ما سبق؟
في بلادنا، الخاضعة للاحتلال، وفي ظل سلطة فلسطينية تفتقد السيادة وحرية اتخاذ القرار، فإن إعلامنا (بمختلف أشكاله) يخضع لنظامين إداريين: أولهما الإعلام الرسمي (المرئي والمسموع والمقروء) وإعلام خاص يتمتع بدرجة ما من الحرية مع التزام ضمني بالسياسة العامة الرسمية، وعندما يجري الخروج عن هذه السياسة فإن سيف المنع يبقى حاضراً !
لقد جرى تطور واسع في أغلب دول العالم وتحديداً في الدول الديمقراطية (غرباً وشرقاً) بإلغاء وزارات الإعلام ووكالات الأنباء الرسمية وجرى رفع اليد عن وسائل الإعلام وترك لها كامل الحرية في عرض مواقفها، فهل حقاً أدى ذلك إلى إشاعة الفوضى وانفلات الأمور وإلى ما يهدد السلم الاجتماعي؟ هذا الاحتمال لم يحصل، بل أن العكس هو ما جرى، ذلك أن الأنظمة التي أصرت على شمولية موقفها وسيطرتها على وسائل الإعلام الرسمية هي من أدخلت بلدانها في مآزق سياسية، فالقمع الإعلامي كان جزءاً من قمع أكثر شمولاً مسّ العمل السياسي والاجتماعي عموماً.
بالعودة إلى واقعنا الفلسطيني أقول نحن لسنا بحاجة إلى إعلام رسمي، ابتداء من وزارة إعلام وانتهاء بوسائل إعلام رسمية (إذاعة وتلفزيون وصحافة) ذلك أنها تعكس حالة تقوم على تغول سلطة تنفيذية تفرض موقفها وشروطها على وسائل الإعلام الرسمي، وبذات الوقت تقوم بتوريط حزب سياسي كبير عندما تحوله من أداء وطنية إلى وسيلة عمل بيروقراطي مهيمن على هذه الوسائل الإعلامية. هذا الوضع يضعنا أمام حالة من الحكم الشمولي بكل ما يترتب على ذلك من اختلال في المعادلة السياسية الوطنية (ضرورات الوحدة الوطنية والمشاركة) ومن مسالك تؤدي إلى استنزاف للموارد المالية المحدودة... الخ
إن التخلي عن هذا النهج الشمولي والمتمثل في التسلط على جزء هام من الإعلام الفلسطيني لا يعني بأي حال الفوضى (كما قد يظن البعض أو يحاول إيهام الآخرين بذلك)، بل هو انعكاس عن رغبة غالبية واسعة من الشعب الفلسطيني في بناء مجتمع ديمقراطي يقوم على احترام التعددية واختيار الكفاءات المهنية أساساً للتوظيف في المؤسسات الإعلامية وبما يخدم الموقف الوطني العام، وبهذا الصدد هناك من اقترح تشكيل "مجلس أعلى للإعلام" يضم المؤسسات العاملة في الإعلام بما فيها المؤسسات الرسمية سابقاً (التي تكون قد انتقلت إلى الخصخصة). هناك ما يسمى بميثاق الشرف الصحفي (وهو معروف لدى الصحفيين الفلسطينيين)، وبالتأكيد هناك قوانين مدنية تحكم عمل العاملين في الصحافة والإعلام، ولا بد أن يكون هناك آليات لتقديم الدعم المادي للمؤسسات الإعلامية بعدالة ونزاهة، وهناك ضمانات بأن لا تخرج السلطة التنفيذية من الصورة تماماً ومن وجهة النظر الداعية لهذا الحل أنه يمكن إقرار آلية لمشاركة القطاع العام في الإعلام والمشاركة مشروطة بعدم أخذ أغلبية الأسهم مثلاً أو الهيمنة على مجلس الإعلام الأعلى حتى لا تخرج السلطة التنفيذية من الباب حتى تعود من الشباك.
إن الملاحظة الواردة أعلاه والمتعلقة بالحال الإعلامي تشير إلى أن الوضع لا يسر البال وتحديداً عند تقييم إعلامنا الرسمي وما يمكن أن يحمله ذلك الوضع من مخاطر سياسية نجنيها إذا ما تواصل هذا الوضع ومدى تأثيره على مستقبل الحياة السياسية الفلسطينية حتى لو حصلنا على الاستقلال الوطني، ذلك أنه لا قيمة لأي استقلال في ظل سيادة القمع وخنق الحريات بما في ذلك الحريات الصحفية، فإن أي استقلال يبقى مهدداً بالنكوص ما دامت حرية الإنسان وحقوقه مفقودة.