اختلال مرضي على مستوى دولة بكاملها، ذاك ما يصف به نقاد ما بعد الاستعمار عالماً يثني على الحريات الديمقراطية من ناحية ويحاربها من ناحية أخرى. ولنأخذ المثالين التاليين: (جون ستيوارت مل)؛ أبو الحريات هو ذاته من يبرر الاستعمار البريطاني في الهند. والسبب لديه ببساطة حاجة الهند إلى من يحميها من همجية أبنائها ووحشيتهم. (ألكسيس دي توكفيل) المفكر الفرنسي ابن القرن التاسع عشر. ممثل القيم الديمقراطية الليبرالية، قام بانتقاد سوء معاملة الأمريكيين للهنود الحمر والسود. أما حين احتلت فرنسا الجزائر ومارست حرباً وحشية ضد الجزائرين، نجده ونحن نقرأ ما كتبه عن الجزائر معرضاً عن إدانة المحرمات التي ارتكبها الفرنسيون، وهي المحرمات نفسها التي حركت حسه الإنساني حين ارتكبها الأمريكيون. والسبب أنها هذه المرة صادرة عن أبناء وطنه؛ فالمسلمون ببساطة " يستحقون أن ترتكب المجازر بحقهم لأنهم ينتمون إلى دين أدنى منزلة، ولا بدّ من تأديبهم".
هي الازدواجية التي تحمل من الأمثلة في وقتنا الحاضر ما يصعب حصره بمثل أو مثلين. بدليل ما بتنا نلاحظه من استبعاد لأطروحة ما لتعود هي نفسها حاضرة ومقبولة من وجهة أخرى. والنتيجة ما نراه من استبداد وقح يقف وراء عشق مظهري للحرية. أو تفاضل وتمايز يقف وراء مساواة مكذوبة يقول للأدنى: " نحن أولى منك بنفسك"، مانحاً نفسه حقاً أخلاقياً مفتعلاً لاختراق الآخر عبر أدوات منهجية مقننة تعمل بكل طاقتها على تشويه الحالة الإنسانية لمن يقع خيارها عليه.
مجموعة من التراكمات التاريخية تستدعي تطوراً فكرياً وحساً نقدياً يوقف إعجاباً مفرطاً بغرب يعاني من حالة فصامية بين النظرية والتطبيق، وهو ما يجب أن نصر على مكافحته عبر كتابات ومجابهات تمثل في مجملها فعل هدم وتفكيك يرفض وبإصرار هذه الازدواجية بما يترتب عليها من تبن لأوحدية تصادر حق الآخر؛ فالأمور لا يجوز أن تستمر من منطلق علوي متفرد، وأيما تعميم يتبناه قلم ما أوفكر ما – مهما كانت قوته- تجاه آخر هو في الصميم من نظرة عنصرية نتحمل جميعنا مهمة رفضها والتصدي لها والعمل جدياً على تحطيمها، بل ومجابهة كل من يتبناها؛ فالإنسان كما يقول بطل ديستويفسكي في (مذكرات من داخل القبو) ليس قيمة محددة ونهائية، يمكن أن تبنى عليها حسابات ما، وهو كائن حر وبإمكانه أن يخرق كل ما هو مفروض عليه، لهذا لا بدّ من مبادرة تحدد الممكن، ومن بعدها تسعى إلى التقويم والتجاوز، تنظر في كل مرايا الآخرين. ولا تترك له الكلمة الأخيرة بالمطلق مهما كان حريصاً على احتكارها.
* جامعة البترا