روىّ في السياسة والفكر
قُلنا في الجزءِ الأوَّلِ إنَّنا سِنُنَاقِشُ جُمْلَةً من الأفكارِ والمفاهيم ومنها مفهوم – الإدراك - والَّتي لها علاقة بتحديد اتِّجاهات السلوك الإنساني وبناء المواقف وردود الأفعال؛ تجاه الظَّواهر الطَّبيعيَّة والإنسانيَّة؛ ومنها بطبيعة الحال تلك الَّتي تتصل بجانب النَّشاط السَّياسي في الحياة الإنسانيَّة.
يُمْكِنُنا النَّظر الى مفهوم الإدراك بأنَّه: ليس فقط مجرَّد الإستجابة التِلْقائيَّة للمؤثِّرات وللمثيرات الَّتي تنتقلُ إلينا عبر الحواس – ذلك هو الإدراك الحسِّي للمؤثِّرات - بل هو يشمل كذلك عملية توليد الأفكار الدَّاخلية إستجابةً لتلك المؤثِّرات؛ وهو يتضمَّنُ كذلك طبيعة ونوعيَّة رؤيتنا الإدراكيَّة للحقائق؛ إعتماداً على قوَّة وشدَّة المؤثِّرات أو ضعفها؛ وضُوحِهَا أوتَشَوُّهِهَا؛ ووصولها إلَيْنَا صافيةً ونقيَّة أو تشويشها وتشويهها أثناءَ عمليَّة انتقالها إلينا عبر الحواس. وهذا ما يُمْكِنُنَا تَسْمِيَتُهُ بِعَمَليَّاتِ التشويش والتشويه الإدراكي للواقِعِ المَوْضوعي.
إنَّ نوعية وطبيعة إدراكِنا للأمور والظَّواهر هي القاعدةُ الَّتي تُبْنى على أساسِها تصوُّراتِنا الذِّهنيَّة عن تلك الأمور والظَّواهر؛ والتَّصوُّرات الذِّهنيَّة أو الإنطباعات الأوَّليَّة الَّتي لها طبيعة الإستقرا في وعْيِنا وذاكِرَتِنا العاملة هي الَّتي في الغالب من تُحدِّد مواقفنا وردود أفعالنا أو توجِّه سلوكنا العاطفي وانفعالاتِنا.
واعتماداً على تحديدنا لمفهوم الإدراك ودوره في بناءِ التَّصوُّرات الذِّهنية عن الظواهر والأشياء والأشخاص وقضايا الحياة؛ ودوره في تحديد المواقف من الأفكار والنَّظريات والنَّشاطات العمليَّة التي تظهر في فضاءِ الحياة الإنسانيَّة على اختلافِ أوْجُهِهَا – ومنها ظاهرة النَّشاط السِّياسي – فإنَّهُ بإمْكانِنا الإشارة الى دورِعوامل ومظاهر التشويه الإدراكي الَّتي تُسْهِمُ بدورها في بناءِ الإنطباعات الخاطئة وفي تشكيلِ التَّصَوُّرات الذَّهنيَّة عن الأشياءِ على غيرِ ما هو واقِعُها الموضوعي؛ فتَتَّخِذُ تلك التَّصوُّرات منحىً يتَّجهُ نحو المبالغة في تقديرِ الأشياء أو التقليلِ من شأنِها؛ أو فهْمِها بشكلٍ مغلوط؛ أو تصنيف كلَّ ما يتَّصِلْ بها على نحوٍ إيجابي أو سَلْبي؛ بناءً على قُوَّةِ تأثيرِ تلك التَّصوُّرات عِنْدَما تأخُذُ شكل الإنطباعات النِّهائيَّة في الوعي تجاه ظاهرة ما أو شيءٍ ما؛ بحيثُ تُصْبِحُ تلك الإنطباعات والتَّصَوُّرات هي قاعدة التقييم الأساسيَّة وهي قاعدة بناء المواقف تجاه تلك الظَّواهر؛ أو حتَّى تجاه الأشخاص.
إنَّ تلك التَّصَوُّرات الذِّهنيَّة تُصبِحُ - ومع الوقت - وكأنَّها مَصَافٍ نَفْسِيَّة لا تَسْمَحُ بمرورِ أيْ فكرة جديدة أو أيَّ انطباع جديد أو أيَّ عاطفَةٍ جديدة إلَّا بعد الخضوع لمعاييرها؛ وإلَّا إذا وافَقَ ذلك ما استقرَّ فيها من انطباعاتٍ مُسْبَقة.
يُعتَبَرُ - الإنتقاءُ الإدراكيُّ للواقع – إحدى أهم عوامل بناء التَّصَوُّرات الذِّهنيَّة الخاطئة ؛ إذْ أنَّهُ يؤثِّرُ في تكوين الإنطباعات، وفي توليد الأفكار وصياغة المفاهيم، وفي بناءِ القناعات الخاصَّة، وتحديد أنماط السُّلوك؛ تجاهَ أمرٍ ما بناءً على النَّظرة الإنتقائيَّة والإجتزائيَّة لجملةِ العناصر الَّتي يتشكَّلُ منها مشهدٌ ما أو واقعٌ موضوعيٌّ ما.
إنَّ النَّظرةَ الإنتقائيَّةَ للأمور؛ تُمليها الرَّغبات والمُيول الشَّخصيَّة أو العاطفيَّة والإنفعاليَّة؛ وبالتَّالي فإنَّ تلك النَّظرة تبقى قاصرةً عن رسمِ صورةٍ حقيقيَّةٍ تُساعِدُنا في بناءِ الموقفِ السَّليم؛ أو في تحديدِ ردود الأفعال المناسبة؛ ويؤثِّرُ ذلك وبطبيعة الحال في توليد الأفكار والمفاهيم الخاطئة تجاه ما نَظرْنا إليه نظرة انتقائيَّة توافِقُ رَغَباتِنا أو مصالِحنا الخاصَّة أو تَفضيلاتِنا؛ أو اتِّجاهاتِ عواطِفِنا الدَّاخلِيَّة.
ثُمَّ هناك نوعٌ آخر من أنواع التَّشويه الإدراكي؛ وهوَ: المُبالَغةُ في الإدْرَاكُ النَّمَطِيُّ للأشياء.
إنَّنا – في الغالبِ – نُدْرِكُ الأشاءَ على قاعِدَةِ تصنيفها الى مجموعاتٍ تشْتَرِكُ في خصائصَ مُعيَّنة مُمَيِّزة؛ فقد نُصَنِّفُها بحَسَبِ نوعها أو طبيعَتِها، أو لوْنِها، أو حجمها، أوْ قوَّتها أوْ ضَعْفِها؛ أو بِحَسَبِ شِدَّةِ تأثيرها علينا؛ وهذا يُعتَبَرُ أحدى خصائص عمليَّة الإدراك الأساسيَّة؛ وهو ما يُساعِدُنا على تمييزها برسمِ حدودٍ فاصِلَةٍ بينها في وَعْيِنا وإحساسِنا.
ولكنْ؛ عِنْدما نميلُ الى تعميم هذا النَّمط من الإدراك على كلِّ ظاهرةٍ وعلى كلِّ شيءٍ؛ فإنَّنا نُمارِسُ نوعاً مُفْرِطاً وغَيْرَ سَلِيمٍ من الإدراكِ النَّمطي؛ كأنْ نَعْمَدُ الى تصنيفِ الأشخاص ضمن مجموعاتٍ تَحمِلُ صفاتٍ بُنْيَوِيَّةٍ أو بيولوجيَّةٍ مُشتركة فنعطيهم في تصنيفِنا لهم؛ صفاتٍ وخصائِصَ أخلاقيَّةٍ واحِدة مُشتركَة؛ على قاعدة طولِ أجسامِهم أو قِصَرِها – على سبيلِ المثال – أو على قاعدةِ لَوْنِهِم؛ أو لَوْنِ عيونهم.
أوْ كأنْ نُصَنِّفَ أصحابَ مِهنَةٍ ما على أنَّهم يجبُ بالضَّرورةِ أنْ يحملوا نفسَ الصِّفات والطبائع الأخْلاقيَّة؛ أو أنْ نُصَنِّفَ أتباعَ مذهبٍ ما أو دينٍ ما أو حزبٍ سياسيٍّ ما على نفس القاعدة الَّتي أشَرْنا إليها.
إنَّ هذا النوعَ من التَّعميمِ والتَّنميط في عملية إدراكِنا للواقِعِ وللآخَرِ يُفْقِدُنا القدْرَةَ على تَمْيِيزِ الفوارق الَّتي هي من طبيعة الأشياء حتَّى لو اشتركت في الكثيرِ من الصِّفات الظَّاهِرة؛ وبالتَّالي يُفْقِدُنا القُدْرَةَ على الحكمِ الصحيح على الأمور؛ ويَغْمُرُ نَظْرَتنا بِغشاوةِ الأحكامِ المُسْبَقة.
يُمْكِنُنَا القولُ – وفي نهاية هذا الجزء من مقالِنا - إنَّ طبيعةَ الإدراكِ ونوعيَّتِهِ وآليَّاتِهِ لها أبلَغُ الأثر في تحديد اتِّجاهاتِ السُّلوك تجاه الظَّواهر والأشياء؛ كما أنَّها لها كبيرُ الأثر في خلْقِ وتحفيزِ دوافِع السُّلوك؛ وفي بناءِ المواقف وتحديد ردود الأفعال ونْوعيَّةِ ومستوى التَّفاعل.
وإنَّنا نَلْحَظُ أنَّ كثيراً من أوْجِهِ النَّشاطِ السِّياسِيِّ للأفرادِ والجماعات وفي كثيرٍ من مستوَياتهِ يَعْمَدُ الى استغلالِ وتعزيزِ هذه الأنماط السَّلْبيَّة من الإدراك للآخر؛ ويَعْمَدُ الى استثمارِ الدِّعاية الدَّاخليَّة – في أوْساطِ الأتْباع - والخارجيَّة ووسائل الإعلام المختلفة – لدى الجمهور - في تعزيزِ الإدراك الإنتقائيّ والنَّمَطِيّ للآخَرِ في مضمارِ التَّنافُسِ السِّياسيِّ.
ويُسْتَخْدَمُ في سبيل ذلك وسائل دعائيَّة تستخْدِمُ مؤثِّراتٍ عاطفيَّة وانفعاليَّة شديدة القُوَّة؛ ووسائل وآليَّات الدِّفاع السَّيْكُلوجيِّ عن النَّفس وعن الجماعة – ومنها التَّبرير والتَّسويغ والإسقاط والتَّقَمُّص.
ولا ينبغي أنْ يغيبَ عنِ الأذْهانِ دورَ المؤثِّراتِ الدِّعائيَّة والعاطفيَّة والنَّفسِيَّة في تشكيلِ وصياغة نوعيَّة الإدراك والتَّصَوُّرات الذِّهْنِيَّة – في الجانب السِّياسي - أوَّلاً؛ وفي خلقِ دوافع السُّلوك السِّياسِيِّ ثانياً.
وهذا ماسيكونُ محوَرَ الجزءِ الثَّالث والأخير من موضوعِنا – سَيْكُلوجيَّة التَّفكير والسُّلوك السِّياسي.