الحدث.
وصلنا بئراً تاريخياً في إحدى الحارات القديمة في صفد, ربما يعود بنائها الى العهد الروماني, تركنا الوفد ليرتاح قليلاً, جَلستُ على حافة البئر وكان وائل يتحدث مع إحدى السائحات فتركها وجلس بجانبي , كنت أغني إحدى أغاني التراث الفلسطيني
(( عالروزنا.... عالروزنا
كل الهنا فيها... شو عملت الروزنا الله يجازيها )).
فأخذ يرافقني في ترديد كلمات الأغنية
التفت ونظر إلي بدهشة واستغراب, قائلاً لي:
- ايعقل أن يكون هذا البئر الذي روى قصه هذا العشق.
- أي بئر وأي قصة؟؟؟
- عالروزنا....!!
- عالروزنا... ما بها !!!
- ألا تعرفين أنها قصة حب ولدت في صفد.
- لا أعرف شيئا عن هذه القصة.!! أنا اعرف الأغنية فقط.
- هل تودين سماعها؟
- نعم بالتأكيد
ما كنت لأرفض أي فرصة تتيح لي سماع صوتك أو الحصول على شيء من اهتمامك, بدأ يقص علي القصة وكانت عيناه تتكلم أكثر من لسانه, عرفت تفاصيلها من ملامحه عرفت نهايتها من تنهدات صدره, أحسست بالمأساة قبل أن تُروى فأغلب قصص العشاق كانت تنتهي بمأساة, كان الفراق هو خاتمة كل قصة كقصتي معك, كان الفراق بطل قصتنا الأخير, كُنتَ أسطورتي وكُنتَ ملحمة إغريقية خُتمت بالنهاية الى ما لا وجود له, نعم كُنتَ ككل الملاحم الأسطورية مجرد وهمٍ لا وجود له أو مجرد خيال لا أكثر.
ها أنا اليوم أتذكرك كقصة سمعتها لا عشتها فلم تكن واقعا ابداً, لأن الواقع لا ينجب الا واقعاً, كنت حُلماً استيقظت منه متأخرة, حلمت بك عامين كاملين فأصبحت كابوساً يرافقني, كابوساً لا شفاء به ولا شفاء منه, إن من يحلم أحلاماً جميلة ويستيقظ الى واقع مُر, حتماً سيتحول حلمه الى كابوس, فالأحمق هو فقط من يعيش الأحلام في واقع مغاير.
استرسلت قائلاً: كان ثمة فتاة من صفد, تعشق شاباً من نفس مدينتها, كان فقيراً وكانت هي إبنة تاجر كبير, عندما علم والد الفتاة بقصة العشق حبس إبنته في قبو المنزل, وكان في القبو روزانا فوق موقد النار تطل فتحتها على فناء المنزل الخلفي, كان يأتي الشاب ويتكلم مع الفتاة من فتحة الروزانا, وفي أحد الأيام رأى والد الفتاة الشاب فاغلق فتحة الروزانا, وبحكم مكانته كتاجر غني طرد الشاب من صفد, فسافر الشاب وهو يجر معه خيبته تاركاً وراءه قلبه عالقاً في مدخل الروزانا, ليموت اختناقاً من دُخان الحب المحترق والذكرى العالقة بين احجارها.
سافر الى حلب بعد أن حكمَ عليهما أن يخلعا ثوب الحب ويرتديا كفن النسيان, ذهب الشاب ليعمل مع أخواله في خان للتجار هناك, مرت أيام ولم تنسَ الفتاة حبها الهارب من قدرها الى قدر رسمه له واقعها, بقيت تحمل ذلك الجرح المخبأ بين ضلوعها, تحمله بغصة كادت أن تموت من أجلها, ولكنها بقيت تقتات على الذكرى وعلى بصيص من الأمل لم ينطفئ نوره رغم إغلاق فتحة الروزانا فتحة التهوية الوحيدة التي كان بمقدورها ان تشعله أكثر.
إن إرادة الحب المختبئة في قلوبنا قد تفوق قدرة الزمن على إعدامها وإلغائها, ولكنها قد تموت مع مرور الأيام اختناقاً من فرط الحنين وهي مختبئة في مخيلتنا ومطوية في دروج أحلامنا, قد ننساها لنفتح ذلك الدرج لنجدها ميتة ومتجمدة من برد مشاعرنا التي قُتلت من برودة ما يحيط بنا, وقد نفتح ذلك الدرج لنجدها قد كبرت الى حجم قد يصل الى حد قد يخنقنا ونحن أحياء, في يوم من الأيام ذهبت الفتاة الى بئر الماء لتملأ جرتها, فجلست على البئر تبكي نفسها, وتغني (( ع الروزنا ع الروزنا كل الهنا فيها ....شو عملت الروزنا الله يجازيها )).
كان على النبع مجموعة من التجار توقفوا على البئر للتزود بالماء ولسقاية دوابهم, مر رجل على القافلة وسألهم عن وجهتهم فقالوا الى دمشق ومن ثم الي حلب, فعندما سمعت الفتاة اسم حلب أجهشت بالبكاء, أعادها الاسم الى درج ذكرياتها الذي خبأت فيه حبها وألمها وأملها, لتردد بدون وعي:
(( يا رايحين على حلب حبي معاكم راح... يا محملين العنب وتحت العنب تفاح.... كل مين حبيبو معاه وانا حبيبي راح... يا ربي نسمة هوا ترد الحبيب ليا )).
وحملت جرتها وانطلقت إلى بيتها تحمل دموعها في الجرة الفخارية على كتفها, حفظ التجار ما قالت ورددوه دون قصد طوال طريق السفر الى أن وصلوا الى حلب, وصلوا الى خان التجار الذي كان يعمل فيه الشاب, كم مؤلم ذالك القدر الذي يرتب لنا أحداث تفرق وتجمع في آن واحد.
كان التجار يرددون أثناء جلوسهم تلك الكلمات, سمعهم الشاب دون أن يلقي بالاً لهم حتى سأل أحد التجار بفضول: من أين هذه الكلمات التي ترددها؟
فقال سمعناها من فتاة على إحدى آبار صفد, هرع الشاب الى التجار,بعد أن أعاد في عقله كل كلمة نطقوا بها, نعم إنها هي الروزنا وصفد, كلها كلمات تدل على حبه المسلوب.
تناقل التجار والناس هذه الكلمات حتى أصبحت تراث وطن, كيف يصبح الحب أسطورة في وطن يحارب فيه الحب, هل الوطن بريء من هذا الإثم؟ فالوطن يؤرخ مثل هذه القصص ليتعظ مواطنوه, ولكن دون جدوى كنا نغني هذه الأغنية دون أن نتعرف بأننا من قتلنا أبطالها, كنا نبرئ أنفسنا من جرائم ارتكبناها, تناقض غريب أن نسير في جنازات حب نحن من قتلنا أصحابها.