دردشة في كتاب
"موانئ الشرق" اسم أطلق على عدد من المدن التجارية التي كان يصل عبرها مسافرو أوروبا إلى الشرق، من القسطنطينية إلى الإسكندرية مروراً بأزمير وأضنة أو بيروت. وكانت تلك المدن ولفترة طويلة من الزمن أماكن امتزاج، حيث كانت تختلط اللغات والعادات والتقاليد، لتشكل أكواناً عابرة صنعها التاريخ بهدوء ثم هدمها.
بطل هذه الرواية هو أحد أولئك الرجال ذوي الأقدار المتعرجة، من احتضار الامبراطورية العثمانية إلى الحربين العالميتين، وصولاً إلى المأساة التي ما تزال حتى اليوم تمزق الشرق الأدنى، ولا تزن حياته أكثر من القليل من القش في زوبعة.. يستذكر وبصبر راوياً قصة طفولته الأميرية، وجدته المختلة عقلياً، ووالده الثوري، وأخيه الساقط، وإقامته في فرنسا تحت الاحتلال، ثم لقائه مع حبيبته اليهودية "كلارا"، متحدثاً عن لحظاتهم الحميمية والبطولية والحالمة، ثم سقوطه في الجحيم.
في "موانئ المشرق" يحكي أمين معلوف قصة البطل "عصيان كتبدار" المسلم العثماني ذي الجد الأرمني الذي ولد في تركيا وترعرع في لبنان ودرس في فرنسا، إنه المواطن العالمي الذي يجسد فكرة التسامح في أجمل وأكمل معانيها.. فيكون مصيره الجنون ومستشفى الأمراض العقلية في سخرية مُرّة ومؤلمة.
في "موانئ المشرق" يتناول معلوف سيرة رجل انحدر من أب تركي وأم ارمنية، وكان هذا الالتقاء وهذا الزواج في ذروة النعرة العنصرية ضد الأرمن والتي نتجت عنها كثير من المآسي، ولكن والد بطل الرواية يتزوج من أمه الأرمنية ويهاجر إلى بيروت، ويولد بطل الرواية "عصيان" فيها حيث تختلط الأعراق والأديان، ليتوجه بعد ذلك إلى فرنسا ليدرس الطب في الوقت الذي كانت فيه الحرب العالمية الثانية تشتعل في أوروبا وتحتل ألمانيا النازية فرنسا، لينضم "عصيان" إلى المقاومة الفرنسية وأثناء ذلك يتعرف بـ "كارلا" اليهودية التي أبيدت عائلتها في معسكرات الإبادة النازية.
وتنتهي الحرب، وتنتصر إرادة المقاومة على الاحتلال، وتنتصر أفكار الحرية على الديكتاتورية ويعود عصيان بطلاً إلى بيروت حيث تسبقه حكايات بطولاته في المقاومة الفرنسية ليلتقي مجدداً بـ "كلارا" ليتزوجا ويعيشان في حيفا ويكتشفان الحجم الهائل للكراهية بين العرب واليهود.
ويعود "عصيان" إلى بيروت لرؤية والده المحتضر بينما كانت حرب (1948) مشتعلة إلا أنه لم يتمكن من العودة إلى حيفا ويصاب بانهيار عصبي حاد يدخله مصحاً نفسياً.. وتمضي السنين وهو يعاني من الجنون والفراق إلى أن اشتعلت الحرب الأهلية في لبنان التي نمت فيها النوازع العنصرية والقومية المتطرفة، وكأن الرواية تقول بشكل غير مباشر: إن الإنسان الذي تخلص من النازية العنصرية فشل في أن يقيم نظاماً بلا عنصريات أخرى.
الرواية لا تقدم نهجاً سياسياً أو فكرياً بل تتناول الإنسان.. الإنسان الذي يشعر بالحب ويشعر بالحزن.. الإنسان الذي يتألم ويفرح دون أن تختلف مشاعر الحب أو مشاعر الحزن أو مشاعر الألم أو مشاعر الفرح بين قومية وأخرى أو بين حضارة وأخرى أو بين أصحاب دين ودين آخر.
ورغم اليأس الذي يغلف الكثير من الأحداث، فـ "ناديا" ابنة "عصيان" من "كارلا" والتي ولدت في غيابه تبذل جهداً في محاولة لإخراج والدها من المصحة، لتلتقي به وتقبله ولكنها تحت وطأة جنون والدها تعود إلى واقعها وتغادر إلى البرازيل.
هذه ليست كل الحكاية، فالرواية مليئة بالأحداث والصراعات وبالمشاعر الإنسانية الفياضة التي لا تنتهي إلا بخروج عصيان أخيراً من المصحة، ويبدأ بالبحث عن أصدقائه في المقاومة الفرنسية ويطلب من "كارلا" في رسالة بعث بها إليها أن تقابله على نهر السين في باريس.