ليست جامعة بيرزيت استثناءً إلا في كونها قاعدة للعمل الوطني الفلسطيني منذ العام 1924 وحتى اللحظة. ولعل مبعث اللغط الدائر حول ما حصل في حرم الجامعة، مردُّه مغالطة شائعة في الثقافة السياسية الفلسطينية تخلط، عن قصد أو دون قصد، بين العنف الثوري، والعسكرة، والفرجة. فما أن نبذت منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، للكفاح المسلح وتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني، بعيد اتفاق أوسلو في العام 1993، حتى تعمقت الهوة في السجال الدائر حول الفروق الكبيرة بين هذه المفاهيم الثلاثة حدَّ تجريم فعل العنف الثوري الفلسطيني الشرعي الذي لم يكن يوماً إلا ردة فعل على العنف الاستعماري الصهيوني، وتجاوزه، في كثير من الأحيان، إلى شيطنة البطل الفلسطيني، والدعوة إلى تفكيكه.
لقد اتخذت الحركة الوطنية الفلسطينية من الكفاح المسلح طريقاً لتحرير فلسطين، وإنهاء المظلمة التاريخية التي وقعت بحقه، ولا تزال قائمة، لكنَّها أخطأت في التخلي عن هذا النمط من العنف الثوري في ظل تواصل العنف الدموي من قبل الكيان الصهيوني الغاصب على يد آلة البطش الهائلة التي بنتها دولة الاستعمار الاستيطاني "إسرائيل"، وشكلت بها قوة ردع بغية القضاء على تشكيلات المقاومة الوطنية والعربية. وقد بلغت هذه النزعة التحلُّلية، من "شبهة العنف"، ذروتها بعد الإجهاز على انتفاضة الأقصى، واغتيال الرئيس ياسر عرفات، في العام 2004.
تبنت قيادة السلطة، خيار "المقاومة السلمية"، وحاولت فرضها على الفلسطينيين بالنار والحديد، أي بشكل عنفي، للمفارقة، من خلال الأجهزة الأمنية الفلسطينية
بعدئذ، تبنَّت الرسمية الفلسطينية، متمثلة في قيادة السلطة، خيار "المقاومة السلمية"، وحاولت فرضها على الفلسطينيين بالنار والحديد، أي بشكل عنفي، للمفارقة، من خلال الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وانحازت إلى خيار المفاوضات وحده، ما تركها عارية تماماً في مواجهة أعتى ترسانة عسكرية وإيديولوجية في المنطقة-"إسرائيل"، وحليفتها أمريكا، بعد أن غدت الدائرة العسكرية في منظمة التحرير الفلسطينية مادة للتندر الفلكلوري، وصارت دائرة شؤون المفاوضات هي منظمة التحرير! لكن هذا الخيار لم يثن الشعب الفلسطيني، ولا حركات المقاومة في العمق العربي، عن ممارسة واجبها المقدس، لا حقها وحسب، في مواجهة توحش الكيان الصهيوني، وعدم التسليم لتقنيات "كي الوعي" التي تشكِّل امتداداً لفلسفة "الجدار الحديدي" الردعية الصهيونية.
لشعب الفلسطيني أبدع في الانفلات من خطأ القيادة الفلسطينية الاستراتيجي في نبذ العنف الثوري
لكن الشعب الفلسطيني أبدع في الانفلات من خطأ القيادة الفلسطينية الاستراتيجي في نبذ العنف الثوري، عبر الانخراط في فعل "المقاومة الشاملة"، التي دعا إليها القائد الوطني الأسير مروان البرغوثي، ومن ضمنها أشكال العنف الثوري المنظم من قبل الفصائل الوطنية خارج منظمة التحرير الفلسطينية (حركة المقاومة الإسلامية-حماس وحركة الجهاد الإسلامي)؛ وغير المنظم من بعض الأذرع العسكرية لفصائلها؛ وتفعيل حركة مقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها وسحب الاستثمارات منها (BDS)، التي أرهصت لها "الحملة الوطنية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لـ"إسرائيل" (PACBI) التي كانت جامعة بيرزيت حاضنتها منذ العام 2004.
في هذا السياق، ورغم أن المقام لا يتيح التمرين المعجمي إلا بحدِّه الأدنى، تزايد الخلط بين العنف الثوري المنظم Armed Struggle (الكفاح المسلح)، ونزعة العسكرة (Militarization) لا العسكرة نفسها (Militarism) (الكفاح المسلح غير المنظم)، والأعمال الفرجوية (Spectacle Militarization) التي تتميز بطابع التذكير بالعسكرة والنزعة العسكرية، والتي تتسم بها "العروض العسكرية" الأدائية داخل الجامعات أو خارجها.
إننا بصدد "ظلم للذات الفلسطينية" بأنفسنا قبل أن يظلمنا أعداؤنا، إن وسمنا الأداءات الفرجوية (التي تحاول الانتصار لسياسات الذاكرة الشعبية ضد سياسات النسيان الرسمية) بـ"العسكرة"
ولذا، فإننا بصدد "ظلم للذات الفلسطينية" بأنفسنا قبل أن يظلمنا أعداؤنا، إن وسمنا الأداءات الفرجوية (التي تحاول الانتصار لسياسات الذاكرة الشعبية ضد سياسات النسيان الرسمية) بـ"العسكرة"، سواء كانت في جامعة بيرزيت أو خارجها في ساحات فلسطين وميادينها، وهي خالية من أي سلاح، بما فيه السلاح الأبيض! هنا، يبقى السؤال: كيف يمكن توظيف هذه الأداءات الفرجوية بضوابط وطنية تجعل من فعل الاحتجاج أداءَ واجبٍ لا تجاوزاً مسلكياً، وتستثمره في حراسة ذاكرة المقاومة من الخلخلة.
وصف أداءات الفرجة الطلابية بأنها "عسكرة"، هو خطأ فادح سياسياً وثقافياً، وبخاصة في ظل الحضور اللافت للعسكرة الصهيونية على امتداد فلسطين التاريخية
وبالعودة إلى ما حصل في جامعة بيرزيت، فإن وصف أداءات الفرجة الطلابية بأنها "عسكرة"، هو خطأ فادح سياسياً وثقافياً، وبخاصة في ظل الحضور اللافت للعسكرة الصهيونية على امتداد فلسطين التاريخية، والمحيط العربي، وعلى أرض حرم جامعة بيرزيت تحديداً: بالاقتحامات الليلية للجامعة من قبل قوات الاحتلال، وعربدات المستوطنين وعصابات "تدفيع الثمن" حولها، واجتراء وحدات الموت الصهيونية الخاصة في وضح النهار على اختطاف الطلبة من داخلها، وإبعاد الكادر التدريسي عنها، ومنع الأكاديميين العالميين من الدخول إلى إليها، وإضعاف البنية التحتية للجامعة، وقمع الحريات الأكاديمية.
إن على جامعة بيرزيت، بإدارتها، ومجتمعها الأكاديمي، وحركتها الطلابية، أن تتوصل إلى إجماع جوَّاني لمواجهة حملات التحريض والاستهداف الصهيونية التي لن يوقفها لا بيانات علاقات عامة، ولا تجييش تعميمي يحلم بزمن سعيد لمؤسسة أكاديمية مقلَّمة الأظافر. فإن لم يعرف الطلبة الطريقة الصحيحة لـ"التلثُّم" بالكوفية الفلسطينية، سوداء أو حمراء أو خضراء، في جامعة بيرزيت، فأين سيتعلمونها؟ وما جدوى دراستهم لتاريخ الانتفاضات الشعبية دون محاكاتها؟ وإن لم تكن الحركة الطلابية رائدة للحراك الثوري، فكراً وممارسة، فمن يكون؟ إن إجابة هذه الأسئلة لن تزال برسم الجامعة، التي لن يحميها من الإغلاق والاستهداف عاصمة رام الله السياسية التي لم، ولن، تعصم أحداً من تغوُّل العدو الصهيوني... وإن تجنُّب الإجابة بدعوى "عدم أدلجة القضية"، هو أدلجةٌ من نوع آخر في إهاب دعوات "التمدُّن الماكر" التي تنكر على الجامعة تاريخها ودورها الوطني في نيل الحرية والتحرير.
فلنحاول معاً......