حديث اليوم والغد في بيئات الأعمال داخل فلسطين وخارجها يتمحور حول سؤال واحد وهو أين هم هؤلاء الباحثون عن عمل! وترتفع معدلات البطالة بالرغم من النقص الدائم للكفاءات في شواغر عديدة في مختلف قطاعات الأعمال وأصبحت عملية التوظيف من أكثر العمليات كلفة على أرباب العمل، ووصل التدوير في الوظائف أعلى النسب في الشركات الكبيرة والصغيرة على حد سواء.
سجالات لا تنتهي، وكل له رأيه. إلى أن سمعتُ مؤخرًا عمّن تناول هذا الموضوع من منظور لا يستند إلى رأي الشباب أو أرباب العمل ولا يراعي رؤية أحد المانحين لمشروع ما، ولا ينظر إلى الشباب بعين من الخذلان؛ بل جاءت هذه المعلومات على شكل حقائق وإحصاءات لخّصت المشكلة برمتها ... ألا وهي التربية.
ولا نعني هنا الأخلاقيات فقط، بل التربية التي ترسّخ اعتناق القيم والمبادئ وهذا ما نعجز عن إعادة ترسيخه في بيئات الأعمال مع جيل كامل.
أنا الآن على قناعة تامة بأن ما أدعوا له من مقومات للنجاح في عالم الأعمال استنادا للمبادئ هو لغة مشفرة بالنسبة للجيل الشاب، ولا تحمل تلك المفاهيم بالضرورة للشباب ذات المعنى الذي تحمله لي. لذا يكثر الحديث عن شح المهارات، واللامبالاة بين صفوف الشباب، والتعّلق بالمنشورات السطحية عبر منصات التواصل الاجتماعي، ومع هذا كله لم نصل لجذر المشكلة الكامنة في عدم توحيد المفاهيم بين كل من أرباب العمل والشباب.
عند البدء في أي مشروع، أول ما يتم الاتفاق عليه هو المصطلحات والمفاهيم وإلام ترمي كل كلمة عند استخدامها على مدى عمر المشروع، ويلخّص هذا تفتقده جوهر العلاقة بين الموظف وربّ العمل.
وبعد تجارب عديدة في التوظيف والتعامل مع أجيال مختلفة، أرى أنه يجب التوقف عن هذا الجهد المضني الذي ما ينفكُّ يولّد الإحباط بين الموظفين وأرباب العمل على حد سواء، بل التوجه نحو ترسيخ جمهور هذه المفاهيم باختلاف وجهات النظر عنها، وأسرد منها ما استقيته من تجاربي على مدى ستة عشر عاما في بيئات الأعمال:
الوقت: ودون الخوض في التفاصيل، استنتجت دراسة نشرتها مؤسسة حملة في مدينة حيفا مؤخرا بأن جيل الشباب الفلسطيني يقضي ما معدله ست ساعات يوميا في تصفح وسائل التواصل الاجتماعي ذات المحتوى السطحي وهذا كاف لنحدد ما يجب تصويبه في مفهوم الوقت لدى جيل الشباب. لقد قابلت مؤخرا شابتين في موقفين مختلفين، ورأيت في عيونهن ما رأيت من نباهة وطموح وهنّ يخبرنني بأن إهدار الوقت موجود في حياتهن العملية، بل ويلمسنه دون أن يفعلن شيئا حياله وكأنه أمر عادي.
الوعي بالمحيط: هناك خلط بين أن يكون الإنسان "حشريا" وبين إدراكه للأحداث من حوله. وتكثر الأمثلة التي نراها يوميا، مثل عبور الشارع أو التعرف على زميل يقع مكتبه في طابق آخر، أو حتى معرفة ما حدث ليلة أمس في منطقةٍ أعلن عنها أنها منطقة عسكرية مغلقة! المعرفة قوة وحريٌّ بأولئك الذين يرمون للتميّزِ التوجه نحو اكتساب المزيد من المعرفة وذلك بالخروج عن عقلية "الموظف" التي تحد من إطلاق العنان لإمكاناته.
المسؤولية: وهي تقف على الضفة المقابلة لمبدأ "اللهم نفسي" الذي يُرسخ في ذهن الفرد فكرة الاستغناء عن شمولية الاطلاع والمعرفة، والتصوّر أنه يمكنه القيام بمهمة ما، دون المحاولة لفهم نتاج هذه المهمة أو من أين بدأت ليتأكد من قدرته على إتقانها.
التعلم: ولا نعني هنا الدراسة الأكاديمية، ولا الدرجة العلمية فالتعلم هو حب المعرفة الذي يدفعنا للتعرف على كل ما هو مبهم، وهو البحث الدائم، والتبحر في المعلومات الوفيرة للاستفادة منها والتوظيف الملائم لها.
الانخراط: وهنا استشهد بنتيجة استطلاع الرأي من مؤسسة حملة الذي شارك فيه 1200 شاب/ة من الضفة، وغزة، والداخل عن المشاركة السياسية، ولكن استوقفني في هذا الاستطلاع أنه وبينما يعتبر موقع لينكدإن المنصة الأولى للتواصل مع سوق العمل، إلا أن نسبة استخدامه هي 3.8% فقط، وإن دل على شيء إنما يدل على قلة المعرفة.
لا يبحث أرباب العمل عن سوبرمان أو سوبروومان، بل يبحثون عن القيم التي تشكل حجر أساس للتقدم المهني والعملي لكلا الطرفين؛ رب العمل والباحث عن وظيفة، فكلاهما يتطلعان لأن تكون هذه العلاقة بداية مسار مهني وليست محطة حافلات تخدم لتغيير الوجهة كلما لاحت الفرصة. يمتد عالم الأعمال إلى ما أعمق من الشكل، والملابس، والمركبات الفارهة، وحتى الراتب الكبير، فعالم الأعمال هو المكان الذي ينحت فيه الإنسان اسمه ليتحدث أجيالٌ من الشباب الطموحين بعد ذلك عن قدراته.
هذا ما تحدثنا أنا وغيدا به في إحدى لقاءاتنا وكان لها هذا الرأي:
عزيزتي نسرين هل يمكنني ان أدلي بدلوي؟ أعدك لن أطيل وإنما سأشحذ همم الشباب نحو الأفضل.
أعزائي الشباب أينما كنتم في بقاع هذا العالم، أعرفكم بنفسي أنا الصوت النابض داخلكم، هذا الذي لا ينفك يذكركم بكل ما تكرهون وكل ما تحبون، أعلم أن العنوان لم ينل استحسانكم لشدة لهجته، ولكن علينا في بعض الأحيان أن نقسوا على أنفسنا لننتج أفضل ما لدينا، وهنا أرى أن ما ذكرته السيدة مصلح ليس إلا نتاج ملاحظات جُمعت عبر أعوام شأنها أن تسد الهُوّة بين قطاع الشباب وبين سوق العمل الفلسطيني. إذن حان وقتي لكي أتدخل، ولكن ما نفع مداخلتي إن لم تكن منوطةً بتوطئة وبعض الأرقام؟! ستبقى هباء منثوراً، لأنني ببساطة أولد من وحي الأخذ بالأسباب، ويبقى السؤال هل نأخذ نحن الشباب بالأسباب؟
أنا بالفعل لست والدتُك التي "تطبطب" و"تربت" على ظهرك في كل مرة تقع فيها، وفي كل مرة تفشل فيها، وفي كل مرة تقرر اختيار الحل الأسلم، أو كما يُقال كلما بقيت في إطار "السيف سايد" بعيداً كل البعد عن التحدي، اسمح لي يا عزيزي أن أرفع من نبرة صوتي في وجهك وأقولها لك بكامل الصراحة "أنت مُديرُك"، وعليه لنلعب هذه اللعبة سوية، ما الذي تبادر إلى ذهنك من كافة ما ذكر أعلاه؟ أكاد أجزم أن إجابتك سوف تحتمل الإنخراط، المسؤولية، تطوير الذات، وصولاً إلى مقومات النجاح.
لا بأس أن تُخيفك هذه الكلمات، لأنك ببساطة قد لا تَعي تبِعات فهمك لها، ولكن ماذا لو حاولنا أن نفُكَ لغزها سويّا، لتتحوّل إلى نهجٍ في حياتنا؟ نعم كان عليك أن تتحمل مسؤولية تطوير ذاتك بشتى السبل، وألا تنتظر إلى حين انتهائك من مرحلة البكالوريوس ومن ثم تتذكر "اه، كان علي أن أنخرط في هذه الورشة التدريبية" أو "ليتني تطوعت في المؤسسة الفلانية"، أو "لماذا لم أفعّل حسابي على موقع اللينكد إن"، اسعَ دائماً لأن تكون ذاك الفضولي السباق لنيل المعرفة والباحث عنها، وكن هذا الذي لا يراه الناس إلا ويقولون "ما شاء الله أنت نشط، نراك في كل مكان!" لا تستهن بنفسك وبقدراتك، ولكن اعلم متى عليك استخدامها، ولا تغفل عن صغائر الأمور لأن الإنجازات تكمن في أصغر التفاصيل، مثل أن ترسل إيميل يحتوي رسالة تخاطب متلقيها وليس مرفق فقط!
شكرا غيدا وأعرف كم تقدرين والدتك وبالنسبة لي الأمهات هن من أمهر المديرات.
وبالرغم أن ما طرحه المقال يبدو حالكا إلا أن التغيير يكمن بين أيدينا إن كانت القناعة موجودة، والهدف هو اتخاذ خطى تسير بنا بعيدا عن التذمر وأقرب نحو تفعيل الحلول. الأمر ليس صعبا إذ لمجرد الإقبال على الوظيفة بنيّة العطاء والاستفادة يكاد تصنع كل الفرق!