الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الرقم "13"/ بقلم: د. سامر العاصي

2019-12-18 01:48:28 PM
الرقم
سامر العاصي

 

مع اقتراب افتتاح دورة موسكو الثانية والعشرين للألعاب الاولمبية عام 1980، ازداد خوفنا من "الأمطار الصيفية" التي ظننا بأنها ستنضم إلى حملة مقاطعة تلك الدورة الأولمبية، بعد أن قاطعتها أميركا وغالبية الدول الأوروبية والإسلامية، احتجاجا على غزو السوفييت لأفغانستان، قبل أكثر من ثمانية أشهر.

وجاءت صبيحة يوم الافتتاح، مصحوبة بأمطار لم تشهدها موسكو في الأسابيع الماضية الماطرة. ومع ذلك ظل الراديو والتلفزيون السوفييتيين، يؤكدان أن الجو سيكون مشمسا، ورائعا، طيلة أيام الألعاب القادمة (أسبوعين)، بدءا من بعد ظهر اليوم، وكررا بأنه لا داعي بتاتا لحمل "الشمسيات" أو ارتداء المعاطف الصيفية.

وما إن بدأ منتصف نهار يوم السبت 19/7/1980 يزحف بشمسه الدافئة، حتى ظهرت سماء موسكو صافيةً، تماما كسماء المدن الصحراوية، في صيف حار، وذلك بعد أن قامت الطائرات الروسية برش مساحيق كيمياوية خاصة، لإجهاض الغيوم الماطرة، كي لا تقترب من حدود سماء موسكو! تماما كما فعلوا عام 1957 عند افتتاح "ستاد لينين"، بمناسبة انعقاد مؤتمر الشبيبة العالمية آنذاك.

وسرعان ما امتلأ الستاد ب 120 ألف متفرج، حظيت بأن أكون واحدا منهم، بعد أن كنت قد اشتريت تذكرة الافتتاح قبل 6 أشهر أو أكثر. وفي الساعة الرابعة تماما، حمل رئيس الدولة، وسكرتير عام الحزب الشيوعي السوفيتي، ورئيس البرلمان، "ليونيد بريجنيف"، ورقة قرأ فيها كلمتين فقط حين قال:- 

-أُعلن افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الصيفية، الثانية والعشرون!.. ثم جلس مكانه!

وقد سنحت لي الفرصة بواسطة الصديق المهندس سلام الطوال، أن أتعرف على الوفد الرياضي الأردني الذي كان يرأسه السيد "ابو ناصر الزعبي" الذي استطاع أن يعطي الانطباع الرائع لجميع الوفود، عن انضباط وأخلاقيات وجدية الوفد الأردني المشارك. 

كنا نستمتع بزيارة القرية الأولمبية يوميا "أثناء النهار"،علما أن الإجراءات الأمنية كانت تُشبه، لا بل وأشد من إجراءات دخول "جسر دامية" في تلك الأيام، ولكن دون إهانات. فالتفتيش يبدأ بحاجزِ خارجي شريطة أن يكون الشخص الداعي واقفا بإنتظارك هناك، يتبعه تفتيش آلي- جسماني- أحذية الخ الخ ! ثم الدخول إلى سوق ومطاعم القرية حيث كانت جميع الوجبات "مجانية" للرياضيين وضيوفهم في كل المطاعم "مطعم أوروبي – آسيوي – هندي – شرقي – مكسيكي – روسي – أفريقي الخ الخ . كما أن حاجزا ثانيا،كان قد وضع ليفصل بين منطقة السوق وسكن الرياضيين، أما الحاجز الثالث فقد كان عند كل مداخل عمارات سكن الرياضيين.

ولما كان معدل أكل الطالب السنوي في تلك الأيام في الاتحاد السوفييتي، حوالي 4300 حبة بطاطا، مضيفا اليها 2190 بيضة، و 1095 حبة نقانق، وسطلين بازلاء، وحوالي 50 كيلو مرتديلا، إضافة الى 220 كيلو خبز! فقد أقسمت بأغلظ الأيمان فور مشاهدتي تلك المطاعم، أن أنتقم لمعدتي المسكينة، وأن لا أتذوق البطاطا والبيض والنقانق والبازلاء والخبز والمرتديلا، طيلة الأسبوعين القادمين!

ولأن غالبية الرياضيين لا يأكلون إلا بحسابات معينة، وبالجرامات، فقد قررت تناول الطعام في زاوية المصارعين من الوزن الثقيل، حيث كانت كمية وجباتهم، تشبه كمية طعامنا، أو أقل بقليل!.

وهكذا استطعت خلال أقل من أسبوعين تذوق طعام أكثر من 100 دولة، ومع ذلك بقي وزني في تلك الأيام 78 كغم "كاش"! ذلك أننا كنا نعمل كأدلاء سياحة في المساء للضيوف والرياضين الكرام، دون كلل أو ملل!... المهم أن نعود نهارا إلى قواعدنا سالمين، في تلك المطاعم.

وبدأت أتعلم الفوارق بين أنواع الشيكولاته البلجيكية والسويسرية، وطبعا تذوقت ما طاب لي من أجبان فرنسية لن تخطر لكم في بال، حتى ظن مدراء المطاعم في القرية الأولمبية، أنني رئيس الفريق الدولي لرياضة تذوق المأكولات والحلويات.

وجلست مرة (أو كالعادة)، في المطعم الأوروبي أتناول أشهى أنواع الشوكولاته والحلويات السويسرية عندما انضمت إلى طاولتي شابة رياضية تشبه في جمالها الممثلة "اودري هيبورن" رحمها الله، وقدمت نفسها بأنها من أعضاء "الاحتياط" لفريق الجمباز الروماني، وما إن أعلنت ولائي التام للبعثة الرياضية الرومانية، حتى بدأ الحديث بيننا يحمل "دفئا" خاصا استبشرت به خيرا، بعد أن سألتني إن كنت قد شاهدت، بطلة الفريق الروماني "ناديا كومانيتشي" التي جلست بجدارة، على عرش رياضة الجمباز منذ دورة الألعاب الأولمبية  في مونتريال عام 1976، وكيف أنها أبدعت بالأمس. وبعد أن هللت معها وكبرت معها لهذا الإبداع، الذي لم أشاهده بالطبع، لانشغالي في الجلوس في أحد المطاعم. دخلت القاعة مجموعة من الرياضيين السوفييت، مما اضطر "أودري هيبورن" الرومانية، بالمغادرة على الفور.

وإذا برياضية روسية، تجلس التي ما إن جلست مكانها حتى بدأت تسألني عن انطباعي عن الدورة الأولمبية. ولما كانت نشوة الحديث عن الجمباز منذ دقائق قد أخذتني بعيدا، فقد اخترت أن أتحدث عن رياضة الجمباز وعن ضرورة السماح للاعبات الاحتياط أن يلعبوا، كما تلعب المحترفات أمثال "ناديا كومانيتشي" الرومانية، وبطلة العالم الروسية السابقة "أولغا كوربوت"! (كنت قد سمعت عن أسمائهن وحفظتها منذ دقائق فقط).

ودار الحديث التالي مع الرياضية الروسية:-

-الحقيقة إن الفريق الروماني للجمباز وخاصة ناديا كومانيتشي أثبتت أنها رياضية عظيمة 

هي - بس هي غلطت كتير امبارح

أنا - لكن غلطاتها مش غلطات كبيرة! (لم أكن قد شاهدت أي مباراة جمباز في حياتي)

هي - بس أكيد لو الحكام انتبهوا لما أعطوها علامات عالية أمس

أنا - بس الغلطة مش كتير مهمة... وهي بتستاهل تاخذ 100%

هي - بس العلامه يا أستاذ من 10! مش من 100 %! شكلك طابور...!

أنا - قصدي يعني ......

هي - طيب شو بتعرف حضرتك عن فريق الجمباز السوفييتي؟

أنا- أعتقد أنها رئيسة الفريق الروسية "أولغا كوربوت"، قد صارت عجوز مقارنة بأعضاء الفريق الروماني اسم الله عليه !

هي – يعني حضرتك رح تعرف (أولغا) لو شفتها؟

أنا – طبعا طبعا .. طبعا !

هي – على فكرة.... "أولغا كوربوت" لم تشارك في هذا الأولمبياد!

وكادت قطعة الجاتوه بالشيكولاته السويسرية اللذيذة جدا جدا، أن تقف في منتصف حلقي! إلا أنني بلعتها بعد أن ركضت نحو الماء، والتفت مكاني ووجدته فارغا!، وخرجت من المطعم (وباقي قطعة الجاتوه في يدي طبعا)

وبلحظة واحدة اختفيت من القرية الأولمبية كلها (لعدة ساعات فقط، عدت بعدها إلى مطعم آخر)، وتعلمت من لحظتها، أن لا اُعلن "تأييدي" لأي شيء، طالما أنني لم أره، ولم أسمعه، أو لم أقرأ عنه!

واستمر الحال معي في المعارضة حتى حل الرقم الشؤم... 13!

فبعد 13 عاما من ذاك التعهد و"الدرس القاسي"، جاءت اتفاقية أوسلو عام 1993، لأعلن تأييدي غير المطلق لها، لعلها وعساها كانت، أن تنقذنا مما كنا نحن فيه!

ترى، ومنذ العام 1993، وحتى اليوم، أي بعد مضاعفة رقم الشؤم، (13)، لمرتين!، هل أوقف الإسرائيليون ومعهم الأميركان، تنفيذ اتفاق أوسلو معنا، بعد أن وصل إلى حلوقنا! لكي يجعلوننا نبتلع "صفقة القرن"، كما ابتلعت الماء أنا، قبل 39 عاما؟