ثقافات
لماذا نعلِّم اللغة العربية في المدارس العامة وفي غيرها من المدارس؟ وما أظن أننا نستطيع أن نجيب على هذا السؤال إلا بجواب واحد وهو أن اللغة العربية هي لغتنا الوطنية، فنحن نتعلمها ونعلمها؛ لأنها جزء مقوم لوطنيتنا ولشخصيتنا القومية لأنها تنقل إلينا تراث آبائنا وتتلقى عنا التراث الذي ستنقله إلى الأجيال المقبلة، ثم لأنها الأداة الطبيعية التي نصطنعها في كل يوم بل في كل لحظة ليفهم بعضنا بعضًا، وليعاون بعضنا بعضًا على تحقيق حاجاتنا العاجلة والآجلة، وعلى تحقيق منافعنا الخاصة والعامة، وعلى تحقيق مهمتنا الفردية والاجتماعية في الحياة إن كانت لنا مهمة في الحياة، ونحن نصطنع هذه الأداة ليفهم بعضنا بعضًا كما قلنا ولنفهم أنفسنا أيضًا، فنحن إنما نشعر بوجودنا وبحاجاتنا المختلفة وعواطفنا المتباينة وميولنا المتناقضة حين نفكر، ومعنى ذلك أننا لا نفهم أنفسنا إلا بالتفكير، ونحن لا نفكر في الهواء ولا نستطيع أن نعرض الأشياء على أنفسنا إلا مصورة في هذه الألفاظ التي نقدرها، ونديرها في رءوسنا ونُظهِر منها للناس ما نريد، ونحتفظ منها لأنفسنا بما نريد.
فنحن إذَنْ نفكر بهذه اللغة، ونحن إذَنْ لا نغلو إن قلنا إنها ليست أداة للتعامل والتعاون الاجتماعيين فحسب، وإنما هي أداة للتفكير والحس والشعور بالقياس إلى الأفراد من حيث هم أفراد أيضًا. وإذا كان هذا حقًّا فنحن نتعلم اللغة العربية ونُعلِّمها لأنها ضرورة من ضرورات حياتنا الفردية والاجتماعية، ووسيلة أساسية إلى منافعنا مهما تختلف قربًا وبعدًا ويسرًا وعسرًا، وسهولة وتعقيدًا، وإذَنْ فنحن لا نتعلم اللغة العربية ولا نعلمها لأنها لغة الدين فحسب، وإنما نتعلمها ونعلمها لأنها أوسع من ذلك وأشمل وأعم، ونحن لا نتعلم اللغة العربية ونعلمها لأنها لغة القدماء من العرب والمستعربين، وإنما نتعلمها ونعلمها لأنها لغتنا ولأنها لغة الأجيال المقبلة أيضًا، أو لأننا نريد أن تظل لغة لهذه الأجيال.
وفي الأرض أمم متدينة كما يقولون، وليست أقل منا إيثارًا لدينها ولا احتفاظًا به ولا حرصًا عليه، ولكنها تقبل في غير مشقة ولا جهد أن تكون لها لغتها الطبيعية المألوفة التي تفكر بها وتصطنعها لتأدية أغراضها، ولها في الوقت نفسه لغتها الدينية الخاصة التي تقرأ فيها كتبها المقدسة وتؤدي فيها صلاتها؛ فاللاتينية مثلًا هي اللغة الدينية لفريق من النصارى، واليونانية هي اللغة الدينية لفريق آخر، والقبطية هي اللغة الدينية لفريقٍ ثالث، والسريانية هي اللغة الدينية لفريقٍ رابع، وهذه الأجيال من الناس نصرانية تؤمن بدياناتها كما نؤمن نحن بالإسلام، لا يمنعها من ذلك أنها تتكلم في حياتها العادية والعقلية لغات أخرى غير هذه اللغات المقدسة، وبين المسلمين أنفسهم أمم لا تتكلم العربية ولا تفهمها ولا تتخذها أداة للفهم والتفاهم، ولغتها الدينية هي اللغة العربية، ومن المحقق أنها ليست أقل منا إيمانًا بالإسلام وإكبارًا له، وذيادًا عنه وحرصًا عليه.
فالذين يزعمون لنا أننا نتعلم اللغة العربية ونعلمها لأنها لغة الدين فحسب ثم يرتبون على ذلك ما يرتبون من النتائج العلمية والعملية إنما يخدعون الناس، وليس ينبغي أن تقوم حياة الأمم على الخداع.
اللغة العربية لغة الدين، هذا حق، وهذا خير للذين يتكلمون هذه اللغة، ولكنه يجب أن يكون خيرًا خالصًا بريئًا من كل شيء، بريئًا من كل حرج، بريئًا من كل تقييد للحرية المعقولة، بريئًا من كل ما يدعو إلى الجمود أو يورط فيه؛ لأن الدين نفسه بريء من هذا كله.
وإذا كان هذا كله حقًّا — وهو حق لا شك فيه — فإن اللغة العربية ليست ملكًا لرجال الدين يؤمنون وحدهم عليها، ويقومون وحدهم من دونها، ويتصرفون وحدهم فيها، ولكنها ملك للذين يتكلمونها جميعًا من الأمم والأجيال، وكل فرد من هؤلاء الناس حر في أن يتصرف في هذه اللغة تصرف المالك متى استوفى الشروط التي تبيح له هذا التصرف، وإذَنْ فمن السخف أن يُظنَّ أن تعليم اللغة العربية وقف على الأزهر الشريف والأزهريين، وعلى المدارس والمعاهد التي تتصل بينها وبين الأزهر والأزهريين أسباب طوال أو قصار، هذا أسخف لأن الأزهر لا يستطيع أن يفرض نفسه على الذين يتكلمون اللغة العربية جميعًا وفيهم المسلم وغير المسلم، وهذا سخف لأن بيئات أخرى غير الأزهر قد تعلمت اللغة العربية وعلَّمتها، وبعض هذه البيئات إسلامي وبعضها غير إسلامي، وهذا سخف لأن علوم اللغة العربية قد نشأت وتمت نشأتها، ونضجت وتم نضجها، وآتت ثمرها حلوًا شهيًّا قبل أن يوجد الأزهر وقبل أن يفكر فيه منشئه. وما كان الذين وضعوا علوم اللغة العربية أزهريين، وما كان الخليل وسيبويه والأخفش والمبرد، وما كان الكسائي والفراء وثعلب، وما كان الجاحظ وقدامة، وما كان الأزهري والجوهري؛ أزهريين من قربٍ ولا من بُعدٍ، بل ما كان الذين وضعوا هذه الكتب التي يدرس فيها الأزهر علوم اللغة العربية في كثرتهم أزهريين من قربٍ ولا من بُعدٍ.
ـــــــــــــــــــــــ
المصدر: مستقبل الثقافة في مصر، طه حسين، مؤسسة هنداوي.