الثلاثاء  26 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

أحمد لم يكن عابرا في زمنه/ بقلم: سامي سرحان

2019-12-19 08:26:28 PM
أحمد لم يكن عابرا في زمنه/ بقلم: سامي سرحان
أحمد عبد الرحمن

 

سامي سرحان

طوى الموت صفحة رجل ولا كل الرجال، اسمه أحمد، لكن هذا الأحمد عبد الرحمن لم يكن عابرا في زمن الثورة في زمن الرجال، كان رجلا بألف رجل وجيشاً من المحاربين الإعلاميين في شخص رجل واحد، كيف لا وهو في أكثر من موقع وموقعة أدار صرحا إعلاميا بكل اقتدار وثورية.  ففي إذاعة صوت العاصفة صوت الثورة الفلسطينية من درعا وبجهد شخصي أدار أكثر من مرة ولمدة تزيد عن عشر ساعات متواصلة من البث الإذاعي المباشر لصوته وقلمه وتعليقاته مستعينا بالأناشيد الثورية التي يختارها وببعض ما كان يكتب من مساعديه بعد تدقيقه.

همه أن يتواصل بث الإذاعة ما تواصل القتال بين مقاتلي الثورة الفلسطينية في الجنوب اللبناني وقوات الاحتلال الإسرائيلي، وتصل كلماته أسماع المقاتلين وتشد أزرهم وترفع معنوياتهم وتقول لهم إن شعبهم كما الشعب العربي يقف خلفهم ويفتخر بتضحياتهم وبطولاتهم. لم تكن الإمكانيات الفنية ولا مصادر الأخبار المتاحة بالوفرة التي تشهدها اليوم، وهنا تكمن أهمية استمرار البث الإذاعي المباشر لساعات متواصلة وأهمية الرجل الذي يقف على رأس العمل وهو أحمد.

أغلقت إذاعة الثورة الفلسطينية من درعا قبل حرب تشرين بأيام لأمر في نفس يعقوب السوري، وعندما اندلعت الحرب وفي أيامها الثلاثة الأولى ولاحظت القيادة تغييب الدور الذي تقوم به قوات الثورة الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني على جبهة القتال؛ أمرت إذاعات الثورة الفلسطينية المنتشرة في الأقطار العربية بالتركيز على دور القوات الفدائية الفلسطينية في المعركة، وكان أن قرر الأخ أحمد عبد الرحمن أن يوجه كادر إذاعة درعا إلى العراق لرفد صوت الثورة الفلسطينية المنطلق من بغداد، وهكذا زادت ساعات البث الإذاعي وتواصلت على مدار أيام الحرب، إلى أن توقف القتال واستقرت أوضاع الجبهات على ما انتهت إليه نتائج الحرب.

كانت تنتظر الأخ أحمد مهمة إعلامية بالغة الدقة في مرحلة بالغة الحساسية بعد حرب تشرين، إذ صدر قرار من الأخ أبو عمار الذي كان خصوصا للإعلام في حركة فتح، بأن يتولى الأخ أحمد رئاسة تحرير مجلة فلسطين الثورة الصحيفة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكان قد مضى على تأسيسها نحو عام ونيف، الأمر الذي استدعى أن يطلب من كادر إذاعة درعا المتواجد في بغداد الالتحاق بفلسطين الثورة في بيروت، خاصة وأن بوادر انشقاق أبو نضال البنا معتمد حركة فتح في بغداد قد بدت للعيان، وما كان لأحمد أن يترك كادر درعا في بغداد في تلك الظروف، بل إن جزءا من كادر إذاعة صوت الثورة الفلسطينية من بغداد التحق بفلسطين الثورة في بيروت رغم كل المغريات المادية التي حاول أبو نضال تقديمها.

قاد الأخ أحمد مجلة فلسطين الثورة من موقعه كرئيس للتحرير بروح أخوية ثورية رفاقية، هذه الروح جعلت من فلسطين الثورة ملتقى ومنبرا حقيقيا لمنظمة التحرير الفلسطينية، فكادرها من كتاب وصحفيين وفنيين وإداريين لم يقتصر على أعضاء حركة فتح بل شمل معظم الأحزاب والتنظيمات الفلسطينية وكتابا لبنانيين من مختلف الطوائف والأحزاب والحركات وعددا من الكتاب العرب من العراق وسوريا والأردن وتونس ومصر واليمن والجزائر. انصهر هؤلاء جميعا في فريق عمل متناغم يقوده ويشرف على عمله أحمد عبد الرحمن. ويطوع إنتاجهم الإبداعي في خدمة الثورة الفلسطينية وحركات التحرر في العالم العربي وأمريكا اللاتينية وأفريقيا. وكانت افتتاحية المجلة التي يكتبها أحمد بمثابة التوجيه السياسي الأسبوعي لحركة فتح ولمنظمة التحرير الفلسطينية، وكانت تفعل فعلها الثوري في أقاليم الحركة واتحادات الطلاب المنتشرة في مختلف الدول. ولأهمية هذا الدور التعبوي لفلسطين الثورة؛ كان أحمد حريصا على أن تصل بانتظام لأقاليم الحركة في كل مكان، وعندما اشتد الحصار البحري الصهيوني والانعزالي على لبنان أثناء الحرب الأهلية؛ قرر إنشاء مركز توزيع للمجلة في قبرص التي تربطها بفلسطين ومنظمة التحرير الفلسطينية علاقة صداقة قوية، كل ذلك حتى لا ينقطع التواصل مع شعبنا وقيادة ثورته ولا يجري حرف بوصلة الثورة عن هدفها الحقيقي في الحرية والاستقلال ورفض الوصاية والتبعية.

وعندما اشتد الحصار الانعزالي على مخيم تل الزعتر إبان الحرب الأهلية، وطال الحصار، رأى الأخ أحمد عبد الرحمن أن مجلة فلسطين الثورة الأسبوعية لم تعد كافية لتغطية الأحداث المتسارعة في تل الزعتر، فقرر إطلاق جريدة يومية هي بمثابة أخت لفلسطين الثورة وتحمل نفس الاسم برئاسته وطاقم محررين من كادر المجلة، ولم تتوقف هذه الصحيفة بعد انتهاء مأساة تل الزعتر واستمرت في الصدور كصحيفة يومية مكتملة المواصفات ينتظرها المقاتلون في مواقعهم كل صباح كما تنتظرها المكاتب الإدارية والسفارات العربية والأجنبية وقيادات التنظيمات ووسائل الإعلام وأبناء الشعب الفلسطيني واللبناني.

وظهرت أهمية صحيفة فلسطين الثورة اليومية أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 وحصار بيروت الذي دام 88 يوما. إذ لم تتوقف عن الصدور المعتاد لها وكانت توجيهات الأخ أحمد عبد الرحمن تصل إلى مكاتب الصحيفة بانتظام كل مساء إذا ما كان في اجتماع للقيادة أو بمرافقة للأخ أبو عمار.

أن تصدر صحيفة فلسطين الثورة اليومية بانتظام في ظل الحصار والقصف المدفعي المتواصل على بيروت وغارات الطيران حتى يصل عدد القذائف التي سقطت على بيروت في يوم واحد نحو 240 ألف قذيفة وهو أمر جدير بالتوقف عنده؛ أمر يبرهن على صلابة إرادةٍ وقوةٍ وإيمان بالنصر تجلت كلها في شخصية المناضل الوطني الكبير أحمد عبد الرحمن وبث هذه الصفات في نفوس أخوته ورفاقه وزملائه العاملين معه، وهذا هو دور القائد القدوة، واستمرت صحيفة فلسطين الثورة بالصدور كل أيام الحرب رغم أن مقرها جرى استهدافه ومطابعها جرى تدميرها ومربع الفاكهاني الذي كانت تصدر منه تحول إلى أنقاض فيما كبريات الصحف البيروتية توقفت ليوم أو أكثر عن الصدور.

استعانت فلسطين الثورة بمطابع الصحف اللبنانية الصديقة، وأمنت لها الورق عندما نفذت مخازن هذه الصحف، كما أمنت المحروقات للمولدات الكهربائية عندما تعذر الحصول عليها.  وما كان ذلك ليتم لولا إرادة الأخ أحمد عبد الرحمن وإداركه لأهمية الإعلام في المعركة وحرصه على أن تصل صحيفة فلسطين الثورة كل صباح إلى الخنادق الأمامية لمقاتلي الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية وليدفع الإعلاميون ضريبة الدم في مواجهة الغزو والحصار الإسرائيلي ويسقط منهم الشهداء سواء في تغطية الأحداث أو في توزيع المواد الإعلامية.

خرجت الثورة الفلسطينية من حصار بيروت بسلاحها مرفوعة الرأس وتشتت مقاتلوها بين سوريا والعراق واليمن وتونس والجزائر، وكان على أحمد عبد الرحمن أن يتدبر أمر الإعلام في هذه المرحلة ويجمع شتات كادر الإعلام مرة أخرى، فالمهمة اليوم أكثر دقة وصعوبة من الأمس، وطاف على معسكرات قوات الثورة في بلدان الشتات ليجمع كادر الإعلام في تونس وليتفاجأ بمجزرة صبرا وشاتيلا التي اقترفها الجيش الإسرائيلي بعد الخروج من بيروت مباشرة، فلم يتوانى في جمع الوثائق والصور التي توثق بشاعة الجريمة الإسرائيلية ويصدرها من تونس في كتابين مصورين باللغة الفرنسية والعربية، وكانا من أهم ما صدر من توثيق لهذه الجريمة الصهيونية البشعة وجرى توزيعها على أهم الشخصيات السياسية والثقافية في أوروبا الغربية وغيرها.

ومن تلك اللحظة، انطلق وتأسس مركز الإعلام الموحد في تونس ليتولى إصدار النشرات والكتب والملصقات التي كان يبدع خيال أحمد عبد الرحمن وخبرته وفكره في إطلاقها.

وسرعان ما قرر الأخ أحمد أن تعود مجلة فلسطين الثورة للصدور من قبرص كسابق عهدها من بيروت. وقد هيأ كل الظروف البشرية والمادية والسياسية لتكمل فلسطين الثورة مسيرتها النضالية تحت رئاسته ولتكون مركزا إعلاميا متقدما على اتصال بشعبنا في الأرض المحتلة ولتتألق من جديد خاصة في مواكبتها اليومية لانتفاضة الحجارة وتوثيق تاريخها. لم تغب افتتاحيات أحمد عن أعداد فلسطين الثورة وهي تعتبر تاريخا سياسيا لمسيرة الثورة الفلسطينية ودليلا على نضج ووعي القائد المناضل أحمد عبد الرحمن وقربه من المطبخ السياسي طيلة مسيرة الثورة.

وعندما قرر الرئيس القائد أبو عماد أن يعود إلى لبنان وبالتحديد إلى طرابلس، عاد أحمد مع القائد ليخوض هناك أروع وأعقد معركة إعلامية في مواجهة خصم ضل الطريق وانشق عن الركب الفلسطيني، وليكون أحمد جيشا من الإعلاميين وحده حرص أن يعقد كل يوم مؤتمرا صحفيا أمام عشرات الصحافيين والمراسلين الأجانب ليطلعهم على الأحداث الجارية تحت وابل من قذائف مدفعية المنشقين المتمركزة في جبل تربل المطل على مخيم البداوي ومدينة طرابلس وتستهدف بالدرجة الأولى مقر إقامة الرئيس القائد أبو عمار ومحيطه ومقرات القيادات العسكرية للإعلام.

ورغم ذلك أيضا، قرر الأخ أحمد عبد الرحمن أن يعيد جريدة فلسطين الثورة اليومية إلى الصدور من طرابلس، وكان له ذلك بفضل فريقه الذي لحق به بحرا من تونس إلى قبرص رغم الإمكانيات المتواضعة جدا المتوفرة للطباعة في طرابلس.

هكذا كان أحمد عبد الرحمن يتحدى الصعاب ولا تقف الموانع والظروف القاهرة أمام إرادته التي لا تلين، واستمر قائدا إعلاميا من طراز رفيع في ثورة المستحيل وفي أدق مراحل تاريخ هذه الثورة. وإذا كانت هذه رؤوس الأقلام في مسيرة أحمد الإعلامية؛ فإن مسيرته السياسية والتنظيمية في حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية بحاجة إلى مؤرخ، فقربه من القائد الرمز أبو عمار في كل مراحل الثورة عبر عنه أحمد في كتابين أرّخا لجزء هام من زمن ياسر عرفات ودبلوماسيته، فقد أنصف أحمد فيما كتب الزعيم والقائد والسياسي والثائر والدبلوماسي والإنسان أبو عمار، كما لم يوصفه أحد سواء في حياته أو بعد استشهاده، وحق علينا أن ننصف الأخ أحمد عبد الرحمن بعد رحيله، إذ ربما لم ننصفه في حياته.

كان أحمد قارئاً نهماً يحب الكتاب ويحرص على اقتنائه، ما أثرى قاموسه المعرفي وعزز به تجربته النضالية في الثورة الفلسطينية، فملك ناصية الكلمة وبالتالي ليست مصادفة أن يشغل منصب الناطق الرسمي باسم منظمة التحرير مدة من الزمن والمتحدث الرسمي باسم العديد من دورات المجلس الوطني الفلسطيني.

وكان الأخ أحمد عبد الرحمن محاورا ومناظرا مقنعا في كل المراحل التي اقتضت منه الظهور على شاشات التلفزة أو في الندوات السياسية والثقافية، فقد وقف على الفكر الماركسي اللينيني والتروتسكي والماوتي، كما وقف على تطور الحركة الشيوعية في بلدان أوروبا الغربية كالتجربة الإيطالية والفرنسية والإسبانية إضافة إلى الفكر القومي العربي بكل تشعباته والفكر الإسلامي، وأخضع كل هذه الأفكار وصقلها لخدمة الثورة الفلسطينية وتجربة حركة فتح الرائدة.

لذلك كله كان له حضور مميز في المؤتمرات الحركية وفي اجتماعات المجلس الثوري والأطر القيادية في منظمة التحرير ومؤسساتها.

رحل عنا أبو يزن الإعلامي والسياسي والمثقف العضوي والثائر والمبدع والمعلم والقائد الوطني الكبير.

رحل وما يزال في قنديله بعض من الزيت يضيء به الطريق للأجيال الآتية، لكن لكل أجل كتاب فوداعا أبا يزن.