توفي الفيلسوف الماركسي اللامع، لوي ألتوسير يوم 22 أكتوبر 1990، بعد أن راكم متنا نظريا مهما، بوّأه مقاما، ضمن أهم فلاسفة ومفكري القرن العشرين، الذين أحدثوا نقلة نوعية على مستوى تاريخية المفاهيم. كلنا، يعلم إضافاته الرصينة إلى الأدبيات الماركسية، بعد إعادة قراءته الثاقبة للمتن الماركسي وكذا التأويلات المنهجية الجديدة التي رافقت هذه القراءة، في أفق إخراج النظرية من عنق زجاجة التمثل الأرثوذوكسي، العقائدي الجامد، كما عانته الماركسية داخل تنظيمات اليسار التقليدي، لاسيما في أوجهها الستالينية، والبحث عن الآفاق الرحبة التي تفتحها المقاربات الإبستمولوجية. مستفيدا من مؤلفات باشلار وفرويد وستراوس ولاكان والبنيوية.
بيد، أنه لا أحد من تلامذة ألتوسير وطلبته وأتباعه وعشاقه، بل خاصة المدرسة الفلسفية الفرنسية، واليسار الفرنسي، قد توقع لوهلة، صيرورة عبقريته الأريبة إلى تلك النهاية المأساوية، بعد الحادث الذي جرى يوم 16 نوفمبر 1980، حينما قتل زوجته إيلين ريتمان داخل شقتهما المتواجدة بالمدرسة العليا للأساتذة بباريس، جراء إصابته بحالة جنون حادة، مما شكل انقلابا في مصير الرجل، لم يكن واردا بتاتا في الحسبان.
يقول: "لقد قمت بخنق زوجتي التي جسدت لديّ كل العالم، إبان أزمة عصبية طارئة، شهر نوفمبر 1980 نتيجة خلل ذهني. زوجتي، التي أحبتني إلى درجة أنها توخت الموت، متى عجزت عن تحقيق ذلك. بلا شك، لحظة جنوني وبممارسة لا واعية ''قدمت لها، هذه الخدمة، وماتت دون أن تدافع عن نفسها".
حيثيات القضية، سيتطرق إليها، ألتوسير عبر صفحات سيرته الذاتية، التي جاءت تحت عنوان: ''المستقبل يدوم طويلا''، الصادرة عن منشورات ''ستوك" سنة 1992، فترة بعد وفاته.
من خلال هذه الحلقات الطويلة، سنصغي ثانية إلى ألتوسير وهو يروي بدقة متناهية، على لسانه الوقائع التراجيدية، إبان صبيحة ذلك اليوم من أيام بداية سنوات الثمانينات.
فليعذرني قرائي؛ لقد كتبتُ أولا هذا الكتاب الصغير لأصدقائي، ثم لأجلي إن أمكن الأمر. ستفهمون حالا مبررات ذلك.
بعد انقضاء فترة طويلة على وقوع المأساة، علمت بأن اثنين من أقاربي (ليسوا بالتأكيد الوحيدين) تمنيا لو لم تسقط الدعوى والتي أجازتها التقارير الثلاثة للخبرة الطبية والقانونية التي أجريت لي داخل مستشفى "سانت آن '' خلال الأسبوع الذي أعقب موت إيلين، ثم ضرورة مثولي أمام محكمة الجنايات. كان ذلك للأسف تطلعا تقيا.
أبانت حالتي عن وضع خطير (اضطراب ذهني، هذيان حُلُمي)، مما جعلني خارج حالة إمكانية المثول أمام القاضي قصد القيام بمرافعة عمومية؛ ذلك أن قاضي التحقيق الذي زارني عجز على أن ينتزع مني أي كلمة بهذا الخصوص. فضلا عن ذلك، صدر قرار من مديرية الشرطة، يؤكد على إبقائي في المستشفى تحت الحراسة، بالتالي افتقدت تماما حريتي وكذا حقوقي المدنية. لقد حرمت من كل اختيار، وضرورة تقيدي بإجراء رسمي، لا يمكنني سوى الامتثال والخضوع له.
ينطوي إجراء من هذا القبيل على امتيازات بديهية مثل: تحمي المتهم الذي حُكم عليه بعدم مسؤوليته عن تصرفاته. لكنه يتضمن كذلك سلبيات مرعبة، غير متداولة تفاصيلها.
حتما، بعد تجربة معاناة طويلة جدا، كم تفاجأت بخصوص تمثلات أصدقائي! حينما أتكلم عن المحنة، أستحضر ليس فقط حقبة الاحتجاز التي عانيتها، لكن ماعشته منذئذ، وأيضا، مثلما أرى ذلك جيدا، ما حُكِم علي بأن أعيشه غاية آخر أيامي إذا لم أتدخل شخصيا وأخبر العموم بشهادتي الشخصية فيما حدث. لقد جازف كثير من الأشخاص، إما التكلم باسمي أو التزامهم الصمت بناء على أجمل وأسوأ المشاعر! ثم جاء قرار سقوط الدعوى، كي يمثل في الواقع شاهد القبر عن الصمت.
وصفة بطلان التهمة التي نطق بها الحكم القضائي لصالحي شهر فبراير 1981 يختزلها حقا الفصل (64) الشهير من القانون الجنائي، في صيغته التي تعود إلى سنة 1938 : ما زال هذا البند ساري المفعول دائما، بالرغم من تواصل إجراءات اثنين وثلاثين محاولة إصلاح. فقط منذ أربع سنوات، وتحت إشراف حكومة بيير موروا، تناولت ثانية لجنة هذه القضية الدقيقة فسألت من جديد مختلف مكونات جهاز السلطات الإدارية والقضائية والجنائية، التي يلتقي عملها حول اكتشاف، ظروف الاعتقال وكذا أيديولوجية مصحات الأمراض العقلية. بعد ذلك، لم تلتئم قط هذه اللجنة مرة أخرى. يبدو أنها لم تجد ما هو أفضل.
بالفعل، ومنذ سنة 1938 قابل القانون الجنائي بين عدم مسؤولية مجرم اقترف فعله إبان حالة ''جنون'' أو "تحت الإكراه'' ثم حالة المسؤولية التي يتم الإقرار بها دون قيد أو شرط، في حق كل شخص يقال عنه "سويا".
تفتح حالة المسؤولية المسار أمام الإجراء الكلاسيكي: المثول أمام محكمة الجنايات، سجال عمومي تتصادم في إطاره مداخلات الوزارة العمومية التي تتكلم باسم مصالح الجميع، الشهود، محامي الدفاع والطرف المدني، آراء تعبر عن نفسها جهرا ثم المتهم الذي يقدم بنفسه تأويله الشخصي للوقائع. حيثيات مختلف هذه المعطيات المتسمة بالعلنية تنهيها مداولة القضاة السرية فيأتي الحكم علنيا، سواء بالبراءة أو بعقوبة سجنية، حيث يُصفع مرتكب الجريمة بعقوبة سجن معينة، يفترض من خلالها أنه يسدد دينا على كاهله صوب المجتمع وبالتالي ''التطهر'' من جريمته.
في المقابل، تشكل وضعية اللامسؤولية القانونية/الشرعية، قطيعة مع إجراء المثول العمومي أمام القاضي والحضور إلى محكمة الجنايات. ثم تدعو فورا وقبل كل شيء، إلى احتجاز المجرم داخل مستشفى للأمراض النفسية والعقلية. بالتالي،''يوضع خارج مجال الإضرار ''بالمجتمع، لكن لفترة غير محددة، ويفترض حصوله على علاجات نفسية، اقتضتها طبيعة ''مرضه الذهني".
إن تمت تبرئة القاتل، بعد محاكمته العمومية، بوسعه حينئذ العودة إلى بيته وهامته مرتفعة "مبدئيا على الأقل: لأن الرأي العام يمكن أن ينتابه السخط حينما يراه بريئا، وقد يشعره بذلك. توجد باستمرار أصوات مدركة لهذا النوع من الصخب كي تتولى قيادة الوعي العمومي الخاطئ".
سيختفي المجرم أو القاتل عن الحياة المجتمعية، حين صدور الحكم في حقه بالسجن أو الاحتجاز في مستشفى للأمراض العقلية: خلال فترة محددة قانونيا في حالة السجن (إلا إذا اختصرها تقليص مدة العقوبة)؛ وقد يكون زمنا غير محدد فيما يتعلق بوضعية الاحتجاز للاستشفاء العقلي والنفسي، جراء الواقعة الجسيمة: هذا القاتل وقد حُرم من حكم ملائم وبالتالي حريته في اتخاذ القرار، ربما ضاعت الشخصية القانونية، التي فوضها مدير الشرطة إلى ''وصي" (رجل قانون)، يمتلك التوقيع والمبادرة باسمه في حين لا يفقد متهم آخر ذلك إلا ما تعلق بـ''المادة الإجرامية".
لأن القاتل أو المجرم اعتُبر خطيرا، سواء بالنسبة إلى نفسه (الانتحار) ثم المجتمع (تكرار الفعل)، سيوضع خارج حالة إلحاق الضرر بواسطة احتجازه في السجن، أو للعلاج العقلي. من أجل تقييم الوضع، أشير إلى أن عددا من المستشفيات النفسية ما زالت بالرغم من التطورات الحديثة، كفضاءات سجنية، بل وتوجد كذلك بالنسبة لبعض المرضى ''الخطيرين'' (مضطربين وهائجين) مرافق للأمن أو العنف بحيث تستدعي خنادقها المغلقة والشائكة، ثم قمصان المجانين المرتبطة بعنف جسدي أو ''كيميائي''، ذكريات سيئة. بالتالي، تعتبر غالبا مرافق الإكراه البدني تلك، أسوأ من سجون كثيرة.
اعتقال من جانب، ثم احتجاز من جانب آخر: لن نندهش إذن ونحن نرى هذا التقارب في الحالة، يخلق لدى الرأي العام المفتقد للتوضيح، نوعا من التماثل. عموما، يظل الاعتقال أو الاحتجاز، العقاب الطبيعي بالنسبة للمجرم. ما عدا حالات الاستعجال، المسماة حادة، التي لا تتطلب تفسيرا، فالإقامة في المستشفى لا تكون بدون ضرر سواء بالنسبة للمريض، وقد تحولت لديه غالبا إلى حالة مزمنة، وكذا الطبيب، الذي يضطر بدوره التواجد داخل عالم مغلق، حيث ''يُفترض معرفته التامة'' بتفاصيل المريض، الذي يعيش غالبا قلقا في مواجهة مريض، فيتوخى إخضاعه ببرود مُتصنَّع أو عدوانية شرسة.
ولا يقف الأمر عند حدود ذلك، بحيث يعتبر الرأي العام بكل تلقائية، أن المجرم أو القاتل، يضمر إمكانية تكرار فعله الإجرامي، من هنا تكمن "خطورته''، ويلزم الإبقاء عليه إلى الأبد طيلة حياته، منفصلا عن الحياة المجتمعية. لذلك نسمع تنامي مستويات السخط، بحيث ينميالبعض، لأغراض متحيزة، السخط والإدانة الاجتماعيين، ويمنحون أنفسهم إطارا باسم الحفاظ على سلامة الأشخاص والممتلكات، ضد أي ترخيص بالتحرر من الاحتجاز قبل الفترة المحددة سلفا للعقوبة، قد يستحقها متهمون أبانوا عن ''سلوك جيد". لذلك يلازم مفهوم "الاعتقال الدائم" تأويلات شتى، ليس فقط بمثابة بديل عن عقوبة الإعدام، لكن أيضا كعقاب "طبيعي" عن سلسلة جرائم اعتبرت خاصة كونها شنيعة فيما يتعلق بسلامة "الأطفال، الشيوخ، ورجال الشرطة". في إطار هذه الشروط، كيف يصدر الحكم في حق ''المجنون'' يقر إلى أبعد حد بأنه أكثر ''خطورة''، ما دام يبقى جل ''اللامتوقع" من المجرم المعتاد، يمكنه التخلص من ذات ردة فعل الخشية مادام مصيره الطبيعي بأن يسجن يربطه بمصير متهم ''سليم العقل''؟
مع ذلك ينبغي الذهاب بعيدا. فشرط بطلان التهمة يجعل في الواقع المجنون المحتجز عرضة لتهم أخرى من لدن الرأي العام.
بناء على سياق أغلب الحالات، فالمتهم الرسمي والذي يقارن مصيره بالنسبة لمحكمة جنائية، بمصير متهم بعقوبة محددة عموما زمانيا، (سنة، خمس سنوات، عشرين سنة)، ونعلم بأن الاعتقال على مدى الحياة، يمكنه أن يؤدي غاية الآن على الأقل، إلى إفساح المجال أمام تخفيف للعقوبة في الزمان. هكذا، يفترض أنه سدد خلال مدة اعتقاله' 'دينا نحو مجتمعه''. بالتالي، يمكنه عموما، بعد''تسديده'' العودة طبيعيا إلى مشهد الحياة دون أن يكون مبدئيا مجبرا على تقديم أي تبرير لجهة من الجهات. أقول ''مبدئيا''، ما دام أن ما وقع لا يعتبر بسيطا، ولا يتقيد ذلك فورا بالقانون، بأن يظهر مثلا الالتباس الشائع جدا بين المتهم (يُعرف بكونه بريئا ما دام أن دليل جرمه لم يتم تأكيده) ثم المذنب، فالآثار العالقة لفترة طويلة عن الواقعة محليا أو وطنيا، ثم صخب التهمة، التي طالما رددت أصداء شائعاتها الصحافة ووسائل الإعلام، دون اكتراث، تحت داعي الإخبار، ويمكنها لفترة طويلة أن تلاحق إساءاتها ليس فقط المتهم البريء الذي صدرت البراءة في حقه، بل المجرم المتهم الذي طهَّر ب''أمانة''عقوبته. أخيرا، يلزمني أيضا القول، بأن إيديولوجية "تسديد الديْن" وكذا ''تبرئة ذمة المتهم'' بالنسبة للمجتمع، يلعب رغم كل شيء لصالح المحكوم عليه الذي قضى عقوبة، بل وتحمي في نطاق ما، المجرم الطليق، فضلا على أن القانون يمنحه ملاذا ضد كل تهمة مناقضة لـ"الشيء المحكوم به'': بوسع المجرم الذي سوى وضعيته مع المجتمع أو استفاد من العفو، اللجوء إلى التقاضي بخصوص خطاب القذف حينما يستثمر ضده ماض شائن. تحضرني في هذا السياق آلاف الأمثلة. هكذا "تخمد" العقوبة الجريمة، في حين يساعد الزمان، العزلة والصمت المجرم السابق كي يعاود ثانية العيش. بهذا الصدد، أيضا ولحسن الصدف، لا تنقصنا الأمثلة.
بيد أنه أمر لا ينطبق تماما على حالة ''المجنون'' القاتل. فحينما نحتجزه، بالطبع دون تحديد زماني متوقع، رغم إدراكنا أو يلزمنا معرفة، أن أي حالة مستفحلة تعتبر مبدئيا عابرة. صحيح أن الأطباء حتى أكثرهم توقدا، يظلون حقا في غالب الأمر، عاجزين، كي يحددوا فترة ولو تقريبية من أجل توقع أجل للعلاج. وبصيغة أفضل، فـ''التشخيص'' الذي حدِّدت معطياته سلفا، لا يتوقف عن التنوع، لأن التشخيص على مستوى طب الأمراض النفسية والعقلية، لا يمكنه سوى أن يكون تطوريا: وحدها مسارات أحوال المريض، تجيز التثبيت، أو التعديل. على ضوء ذلك، تتجلى طبيعة التأثير في العلاج وكذا آفاق التوقع.
لكن، بالنسبة للرأي العام، ومن خلال تكريس خطاب صحيفة معينة، دون استيعابها قط لمصير "جنون " "مرض عقلي" حاد وعابر في نفس الوقت، يصنف المجنون على الفور مريضا عقليا، ومنذئذ يعتبر ببداهة مريضا إلى الأبد، بالتالي محتجزا ومعتقلا طيلة حياته: أو وصف"lebenstodt" مثلما عبرت جيدا عن ذلك الصحافة الألمانية.
بالطبع، يواصل المريض العقلي حياته، طيلة مدة اعتقاله، ما عدا إذا تمكن من إنهائها، في إطار عزلة وصمت الملجأ. متواريا خلف شاهدة قبره، فهو مثل شخص ميت بالنسبة للذين انقطعت زياراته إليهم، لكنهم يزورونه؟ وبما أنه ليس ميتا حقا، كما الشأن حين الإعلان والإخبار بموته (موت المجهولين لا يؤخذ بعين الاعتبار)، يصير تدريجيا مثل نوع من الميت/الحي أو بالأحرى، لا ميتا ولا حيا، وليس في مقدوره تقديم إشارة تخبر عن حياته، إلا لبعض أقربائه أو المهتمين بمصيره (حالة نادرة جدا، فكم من المحتجزين الذين لا يزورهم قط أحد، وقد عاينت ذلك عن قرب سواء داخل مستشفى ''سانت-آن" وكذا جهات أخرى!)، ولا يمكنه علاوة على ذلك، التعبير علانية في الخارج، بحيث يندرج، ربما أجازف بالمفهوم، ضمن قائمة منكوبي جل كوارث ومختلف حروب العالم: سجلِّ المفقودين.
إذا استحضرت معطيات هذه الوضعية الغريبة، فلأني عشتها وما زال الوضع كذلك، بطريقة ما، حتى اللحظة. فقد أطلق سراحي منذ سنتين، من احتجازي داخل ملجأ الأمراض النفسية والعقلية، مع ذلك ما زلت مختفيا، بالنسبة لجمهور يعرف اسمي. غير ميت ولا حي، وغير مدفون ''لكن بلا أثر'' أو حسب تلك الكلمة الجميلة التي حدد بها فوكو الجنون: مفقود.
والحال، أنه بخلاف موت، يؤشر عليه الرحيل الطبيعي، واضعا نقطة نهاية لفرد بمواراته التراب، يثير المفقود في نظر الرأي العام أساسا مجازفة إمكانية (كما الشأن راهنا مع وضعيتي) انبعاثه ثانية للحياة أمام أنظار الجميع (أستحضر هنا عبارة فوكو، حينما استشعر تماثله للشفاء، قائلا: تحت الشمس الساطعة للحرية البولونية). مع ذلك، ينبغي أن نعرف جيدا - سنلاحظ ذلك كل يوم -بأن هذا الوضع الخاص المرتبط بمفقود في مقدوره الانبعاث ثانية، يخلق نوعا من الانزعاج وإحساس شاق نحو موضوعه،لأن الرأي العام يتوجس خوفا سرا من اختفاء غير قادر على وضع خاتمة نهائية لوجود اجتماعي، يتعلق بمجرم أو قاتل محتجز. يبقى التهيب من الموت وتهديده، غريزة لا مفر منها.
بالنسبة للرأي العام المشترك، ينبغي حسم القضية نهائيا بالاعتقال، ثم يتضاعف فزع الوعي الشقي الصامت والمنساب، المصاحب لواقعة ارتعاش القلب في خضم الخوف، إذا لم يحتجز إلى الأبد. أما إن انبعث ''المجنون'' مرة أخرى، واكتشفه الجميع، بناء على موافقة أطباء أكفاء، يستمر الرأي العام المقيد باحثا عن إيجاد تسوية بين هذه البداهة غير المتوقعة حسب تخمينه ومزعجة جدا ثم الضجة الأولى للقاتل التي أيقظتها عودة المجرم الذي قيل بصدده أنه ''شفي''. والحال، أن هذا يتواتر باستمرار مع حالات الأزمة الحادة. ماذا بوسعه القيام به؟ تكرار الجرم؟ نتوفر على أمثلة كثيرة! ربما استعاد ثانية هذا ''المجنون'' ''حالته السوية''؟ لكن إن كان الأمر كذلك، ألم يحضر المعطى نفسه لحظة ارتكابه الجريمة؟ هكذا يردد الوعي الأصم والأعمى، تبعا لأيديولوجية عفوية تماما (لكنها أيضا مُحكمة الصنع) حول الجريمة، والموت، ثم "تعهّد مدى الحياة"، من طرف ''المجنون'' الخطير المباغِت، إذن تتهيأ أطوار المحاكمة التي لم تتم أبدا كي تجري ثانية، بل وتبدأ في نهاية المطاف، وسط الساحة العمومية، لكن دون، ليس أفضل من السابق، امتلاك هذا القاتل المجنون لأدنى حق كي يوضح موقفه.
يلزم أخيرا العودة إلى هذه النقطة المتناقضة بشكل غريب. فالشخص المتَّهم بالجريمة ولم يتأتى له الاستفادة من إغلاق الملف، سيتحمل يقينا الاختبار العسير بالمثول عموميا أمام محكمة الجنايات. لكن على الأقل، يصبح كل شيء في سياق ذلك مجالا للاتهام، ثم دفاع وتفسيرات شخصية أمام العموم. مع هذا الإجراء ''المتناقض''، يمتلك القاتل المتهم، على الأقل، إمكانية يقرها القانون، بخصوص استناده على شهادات عمومية، وتلك المرافعات العمومية لفريق دفاعه، ومختلف حيثيات الاتهام؛ وقبل كل شيء يمتلك الحق والامتياز الكبيرين حتى يشرح شخصيا ويفسر باسمه موقفه عموميا، حول حياته وعملية القتل ومستقبله. أن تثبت في حقه التهمة أو تتم تبرئته، بوسعه على الأقل مخاطبة العموم، وتأخذ الصحافة بعين الاعتبار، مهمة أن تنقل إلى الجمهور شروحاته وكذا خلاصات المحاكمة مما سيفضي قانونيا وبشكل علني إلى طي ملف هذه القضية. إذا اتضح للقاتل بأن الحكم الصادر في حقه غير عادل، يمكنه لحظتها الجهر ببراءته، ونعرف بأن هذه الضجة العمومية تنتهي، مع حالات مهمة جدا، باستئناف المحاكمة وتبرئة المتهم. بوسع هيئات المبادرة إلى الدفاع عنه علانية. نتيجة مختلف وسائل الدعم تلك، لا يشعر بكونه بقي وحيدا أو بلا منافذ عمومية: إنها مؤسسة إعلان المرافعات والمناظرات التي اعتبرها الفقيه القانوني الإيطالي بيكاريا، منذ القرن الثامن عشر، وكانط بعده، بمثابة أسمى ضمانة لكل متهم.
في هذا الصدد، أتأسف تحديدا، لأن هذا الوضع لا ينطبق على قاتل استفاد من مبدأ بطلان الدعوى. هكذا تندرج واقعتان، بناء على المقتضى الأخير، بخصوص واقع وكذا قانونية المقاضاة، يحظران عليه أي سبيل نحو العموم. من جهة الاعتقال وإلغاء الشخصية القانونية، ثم السر الطبي، من جهة أخرى.
ماذا يعلم الجمهور؟ وقعت جريمة، وتحيطه الصحافة علما بنتيجة تشريح الجثة (حدثت وفاة الضحية نتيجة "عملية خنق" فقط ولا كلمة إضافية)، ثم يصل إلى أسماعه خلال أشهر بعد ذلك، تعبير سقوط الدعوى تطبيقا للبند 64، دون أي تعليق.
لكن الجمهور الذي يجهل كل التفاصيل المرجوة، مترقبا نتائج الخبرات الطبية والشرعية السرية، التي سيكشف عنها، مختصون تعيِّنهم السلطة الإدارية، يفتقد كلية أيَّ معلومة تهم (التشخيص المؤقت للوضعية الصحية) ثم هؤلاء المختصين وكذا أولى ملاحظات الأطباء الإكلينيكية.لن يطلع على تقديراتهم، وطبيعة علاجهم وكذا توقعهم أثناء فترة احتجاز المريض، لا يتضح أي شيء بخصوص الوصفات العلاجية للمريض المحتجز والمعتقل، ولا بخصوص تلك الصعوبات المرعبة أحيانا، التي تجبر الأطباء على مجابهتها، ومنافذ غير سالكة تثير لديهم الجزع، يحدث أحيانا، أن يجدوا أنفسهم وسط متاهاتها، مع استمرار ظهورهم بكيفية لائقة. طبيعيا، سيجهل هذا الجمهور مختلف ردود الفعل، التي أبان عليها القاتل 'غير المذنب''، ويبذل مجهودات يائسة قصد فهم وتفسير المبررات، الدانية أو القاصية، التي تهم حادثا مأساويا اقترفه القاتل تحت سطوة تامة للاوعي والهذيان. حينما سيغادر المستشفى (إن تحقق له ذلك) فلن يتمكن هذا الجمهور أيضا من متابعة مستجدات وضعيته، ثم مبررات حريته المسترجعة، وكذا فترة ''التحول'' المرعبة التي ينبغي له تحمل أعباء مواجهتها، وحده في أغلب الأحيان، وإن لم يكن معزولا، وكذا التطورات البطيئة والمؤلمة، التي تهتدي به رويدا رويدا، نحو عتبة البقاء والحياة.
أتكلم عن الرأي العام (أي الحمولة الأيديولوجية) وكذا الجمهور: لا ينطوي ربما المفهومان على ذات المحتوى. لكن لا يهم هنا كثيرا. نادرا الجمهور الذي ينجو من مفعول عدوى الرأي العام، أي هيمنة إيديولوجية بعينها تسود قضاياها الجريمة والموت والاختفاء وكذا الانبعاث الغريب: إيديولوجية توظف جهازا بأكمله طبيا-قانونيا وجنائيا، وكذا مؤسساتها ومبادئها.
أتوخى أيضا التكلم عن الأهل، والأقرباء والأصدقاء، ومن خلالهم، حينما يتعلق الأمر، بعلاقات مع رفاق. عندما يختبر الأهل على طريقتهم، مأساة تظل بالنسبة إليهم دون تعليل، وقد خلخلت كيانهم، تراهم ممزقين بين واقعة مأساة فظيعة ثم التأويل الذي تستخلصه صحافة معينة، تبيع الفضيحة. ومن جهة ثانية، يجدر بهم إبداء مشاعر التعاطف نحو القاتل، الذي يعرفونه جيدا ويحبونه في الغالب (ليس دائما). يعيشون وضعية تمزق، بحيث يجدون صعوبة في المماثلة بين صورة أبيهم أو صديقهم مع وجه هذا الرجل نفسه الذي أصبح قاتلا. بدورهم يكابدون حيرة، يبحثون عن تفسير لايشفي حرقتهم أو قد يبدو لهم زهيدا حينما يتجرأ طبيب على الإقرار أمامهم بفرضية، تبقى مجرد: "كلمات وكلمات'' ! فمن بوسع هؤلاء الالتجاء إليه حقا، سوى الأطباء المعالجين كي ينسجوا خيوط فرضية أولى عن الوضع الغامض؟ مما يجعلهم منقادين خلف رمز "اكتشاف معطيات الطب النفسي والعقلي''، والذي يضاعفه السر المهني، من لدن أشخاص متمسكين بصمت واجبات المهنة، لا يظهرون غالبا ثقتهم بأنفسهم إلا حين تغلبهم على ترددهم الذاتي، بل جزعهم، كي يكبحوا عبر الآخر مفعولات انزعاجهم الشخصي (هكذا يجري الأمر غالبا) .
غالبا جدا، يبدأ ''جدل"في التبلور بين ضجر المريض، والذي يستميل بشكل سريع جدا، في خضم سياق الأوضاع الأكثر جسامة وزخما، وثقلا إضافة إلى تهديدات وتبعات الحدث (كما الأمر مع حالتي)، الطبيب والممرضات، ثم من جانب آخر نلاحظ قلق الأهل. بالنسبة للطبيب، يلزمه الحفاظ على ''رباطة جأشه'' سواء ضد مشاعر قلقه الخاص و''الفريق المعالِج'' وكذا الأقرباء. لكنه موقف لا يتم التستر عليه بسهولة: لا شيء أكثر طمأنينة بالنسبة للمريض والأقرباء غير هذا الصراع الحساس جدا والملموس الذي يخوضه الطبيب ضد، من ربما مثلوا له في أغلب الأحيان، مصيرا ممكنا يأخذ بعدا واحدا. نعم، حسب منظور فكر الطبيب وترقب الأقرباء يرتسم أيضا،لكن لأسباب أخرى، مصير اعتقال أبدي للمريض.
أن تبعث الحياة ثانية بالمريض، فيظهر إلى الوجود مرة أخرى، مقابل مجهودات هائلة ترتبط بذاته وكذا مختلف العوائق الحقيقية أو الاستفهامية التي تشكل عائقا له، رغم الدعم الفعلي للأقارب، باستمرار، ودائما (كما الشأن معي)، إن ذلك لا يحول بينهم و أن يعيشوا نفس الهمّ: هل بوسعه الخروج ذات يوم من هذه الوضعية؟ يحدث له أحيانا الاعتقاد بحتمية ذلك. وإذا أمكنه، العلاج في المستشفى،' 'البدء ثانية"؟ ربما يقتل، على الرغم من إجراءات الحماية، لكن خاصة السقوط ثانية بين مخالب المرض؟ وإذا وجب العودة به من جديد إلى المستشفى كي يواجه انتكاسة جراء تكرار نوبة أزمة حادة، فهل سيغادره مرة أخرى؟ وإذا استطاع الصمود رغم كل شيء، فبأي ثمن؟ ألن يتأثر إلى الأبد بعواقب مأساته؟ هل سيظل دائما شخصا منهكا (أعلم الكثير بهذا الخصوص !) أو سيسرع وفق هوس متلهف نحو الحشد بمبادرات محفوفة بالمخاطر، غير قابلة للردع سواء من طرفه أو شخص آخر؟.
أيضا، وبكيفية أكثر جسامة، كيف يمكنه التوفيق بين التأويلات التي يدلي بها كل طرف حسب دلوه (تأويلات تقارب عدد الأقارب؛ ثم كل شخص في ذاته ''بأثر رجعي" قصد فهم واستيعاب اللامحتمل) كي تتوضح لهم بمزيد من التجلي تراجيديا قتل امرأة لم يعرفوها من قبل جيدا، وكانوا يراهنون- مجبرين فعلا-على بعض المؤشرات السطحية ومعطيات المزاج، كي يختلقوا تصورا خاصا بهم، ليس دائما ملائما (قتل صديقة صديق، لا يمكن دائما استساغته)، كيف إذن نوفق بين الأفكار التي لديهم حول المأساة ثم ''تعليلات'' صديقهم (القاتل) التي يتبناها ويطرحها عليهم. أفكار شخصية، غير موضوعية، تعكس في غالب الأحيان، آراء مشوشة تبحث عموما بشكل عشوائي، في ليل ''الجنون''، عن وضوح مستحيل؟
هاهم أصدقاء القتيل، في وضعية استثنائية جدا. خلال الحقبة التي سبقت المأساة ثم الزمان اللانهائي للاستشفاء، يحتفظون غالبا بملاحظات وتفاصيل نسيها المريض الذي يستغرقه فقدان عميق للذاكرة يحميه ويشكل له آلية دفاعية للنسيان. يعرفون الكثير قياس إلى صديقهم القاتل، بخصوص، وقائع مراحل أخرى لاحقة، سوى ما يتعلق بلحظة الفاجعة نفسها. ويترددون في الإفصاح له عن معلوماتهم، خوفا من أن يوقظوا لديه فظاعة رعب الفاجعة وتبعاتها، أساسا التلميحات الماكرة لبعض الصحافة (لاسيما إذا تعلق الأمر بشخص ''مشهور'')، ثم ردود فعل هذا أو ذاك، وربما خاصة صمت البعض، مع أنهم ينتمون إلى صفوة القريبين جدا من دائرة ''القاتل''. يعلمون تمام العلم، أن كل واحد منهم تطلع بطريقته، أو فعل كل مابوسعه كي ينسى (هذه التجربة المستحيلة) وتجازف تصريحاتهم، بحكم ردة فعل صديقهم، بأن تؤثر سلبا على رابطتهم الأخوية: ليس فقط الأخوة التي تجمعهم مع صديقهم، بل أيضا فيما بينهم. تحدث المجازفة، جراء مواقفهم تلك، ليس فقط بمصير صديقهم، لكن أيضا، ربما، بل حتما بمصير صداقتهم.
نظرا لذلك، عقدت العزم كي أوضح للعموم خبايا ماجرى، مادام الجميع قد تحدث باسمي، ولأن الإجراء القضائي منعني من كل تفسير عمومي.
إنها مبادرة، من أجل أصدقائي أولا، ولأجلي إن استطعت: كي أزيح هذه الصخرة الثقيلة وشاهدة القبر الجاثمة على أنفاسي. نعم، كي أتحرر من الواقعة معتمدا على نفسي، دون نصيحة ولا استشارة أحد. نعم، كي أنتشل ذاتي من وضع انتهيت إليه، بسبب جسامة حالة وضعيتي الصحية (لقد اعتقد الأطباء بموتي الفيزيائي خلال مناسبتين)، أتخلص من اغتيالي، ثم أساسا،ا لنتائج الملتبسة لوصفة إسقاط الدعوى التي استفدت منها، دون أن أتمكن سواء عمليا ولا قانونيا، كي أعترض على إجراء من هذا القبيل. هكذا التزمت بأن أبقى حيا والاعتياد على يومياتي، خلف لافتته شاهدة القبر لبطلان الدعوى، والصمت وكذا الموت العلني.
تلك بعض النتائج المشؤومة للتحفظ على القضية ثم سبب اتخاذي قرار أن أوضح للملأ المأساة التي عشتها. لا أتوخى من هذا شيئا آخر غير إزاحة شاهدة القبر التي وضعني تحت وطأتها إجراء إسقاط الدعوى، وأن أبقى إلى الأبد متواريا عن الأنظار، لا أكشف عن حيثيات المعلومات التي أمتلكها.
بالتأكيد، لقد أسدوا لي من خلال ذلك معروفا، بحيث سأتدخل تبعا لأقصى مستويات البعد الإنساني من الضمانات الموضوعية: بالتالي لا أقصد أبدا أن أفشي للعموم العناصر الوحيدة لما يرتبط بذاتي. هكذا استشرت، لفترة طويلة وبانتباه، كل الأطباء الذين عالجوني، ليس فقط فترة احتجازي، لكن قبل ذلك. أيضا، استمعت باهتمام إلى العديد من أصدقائي الذين تابعوا عن قرب تفاصيل الواقعة، كذلك سواء إبان احتجازي أو قبل ذلك (اثنان منهما دوَّنا يوميات ابتداء من تاريخ يونيو 1980 غاية يوليوز1982 ). أيضا، رجعت إلى بعض المختصين في علم الأدوية والبيولوجية الطبية، حول بعض القضايا المهمة. ثم بالتأكيد قرأت ثانية جل المقالات الصحفية الصادرة خلال فترة قتلي لزوجتي، ليس فقط داخل فرنسا لكن في بلدان أجنبية عديدة، تعرف اسمي. هكذا أمكنني ملاحظة، أن الصحافة باستثناء حالات نادرة جدا (ذات استلهام سياسي واضح) ميزها "انضباط" كبير. وفعلت غاية الآن، ما لم يفعله شخص آخر، إما عجزا أو جراء انتفاء الرغبة: لقد جمعتُ كل ''التوثيق ''الأساسي، وقارنته، كما لو يتعلق الأمر بطرف ثالث، على ضوء ماعشته أو العكس. ثم قررتُ بكل نفاذ بصيرة ومسؤولية في نهاية المطاف أن أتناول الكلام أخيرا.
تجنبت قصدا كل سجال. أتناول الآن الكلمة: بالطبع، ينبغي لهم الإيمان جيدا بأن القضية تتعلق بي فقط.
قالوا لي: ''ستعمل على إثارة كل القضية من جديد. يستحسن أن تلتزم الصمت ولا تحدث أمواجا".
قالوا لي: ''ليس هناك من حل، الصمت والتخلي، ما دام رسوخ ثقل المجتمع، يجعل كلامك بدون جدوى ولايمكنه أن يغير شيئا بخصوص مجرى الأمور".
لم أومن قط بهذه التنبيهات، أو بأن ''تفسيراتي'' ستنعش السجال حول قضيتي. بالعكس، اعتقدت، أني خبرت تجربة، تقتضي ليس فقط التحدث بجلاء عن ذاتي، لكن أيضا تحريض الآخرين كي يتأملوا قضية واقعية، أفرزت ''اعترافا'' نقديا، غير مسبوق (باستثناء الاعتراف الرائع ل بيير ريفيير الذي أصدره ميشيل فوكو، وبالتأكيد آخرين،غير أن جل الناشرين، رفضوا تبني تلك النصوص لأسباب فلسفية أو سياسية) تجربة تبلورت من خلال الصيغ الأكثر قسوة و فظاعة، تجاوزتني بالتأكيد، لأنها طرحت عددا من الأسئلة القانونية والجزائية والطبية والتحليلية والمؤسساتية، وفي المجمل إيديولوجية ومجتمعية، ولكي أصرح بكل شيء عن أجهزة تهم ربما بعض معاصرينا، يمكن أن تساعدهم كي يتمثلوها بوضوح أكثر في السجالات الكبرى الحديثة حول القانون الجنائي، التحليل النفسي، وطب الأمراض النفسية والعقلية ثم الاحتجاز المتعلق بالأمراض النفسية والعقلية، وعلاقاتها غاية وعي الأطباء الذين تهيمن عليهم شروط وتأثيرات المؤسسات الاجتماعية بشتى أنواعها.
للأسف، لست جان جاك روسو. لكن وأنا بصدد تبيُّن ملامح هذا المشروع للكتابة عني والمأساة التي عشتها ومازلت كذلك، فكرت باستمرار في جرأته الخارقة. لم أطمح أبدا إلى تكرار قولته الواردة بين طيات مقدمة ''الاعترافات'': "أتبنى مشروعا فريدا من نوعه''.
لكني أؤمن صدقا في إمكانية وضع إمضائي على إقراره: "أقول جهارا: هذا ما قمت به، وما فكرت فيه، وما كنت عليه''. ثم أضيف ببساطة: "ما فهمته أو أظنني كذلك، المآل الذي انتهيت إليه، بحيث لم أعد حقا أستاذا".
أود إثارة الانتباه: المتن الوارد ليس بيوميات، أو مذكرات، أو سيرة ذاتية. توخيت فقط، أكثر من أي هاجس ثان، الاحتفاظ بالأثر الحاسم للمؤثرات الانفعالية التي طبعت وجودي ومنحته صيغته: التي أدركت عبرها ذاتي، ويمكن حسب ظني التعرف علي من خلالها.
أحيانا، يقتفي هذا البيان إثر نظام الزمان، تارة التوقع ومرة أخرى ما تستدعيه الذاكرة: ليس بهدف الخلط بين اللحظات، لكن على العكس بغية إبراز عبر ملاقاة الأزمنة مارتَّب على الدوام الصلات الأساسية والمتميزة للمؤثرات التي تشكَّلتُ على ضوئها.
جاءتني هذه المنهجية بكيفية طبيعية: كل واحد سيحكم على نتائجها. مثلما بوسعه أن يقيِّم من خلال آثارها تلك، قوة بعض التشكَّلات العنيفة في حياتي، أسميتُها منذ فترة بالأجهزة الإيديولوجية للدولة بحيث عجزت عن إلغائها، بغية استيعاب ماحدث لي، مما فاجأني.
المصدر:
لوي ألتوسير: يدوم المستقبل طويلا، منشورات ستوك،1992،ص:25 /14