الحدث الثقافي- آيات يغمور
فريدًا بتجربته، افترش كرسيًا نحيلًا وبابتسامة خاطفة جلس يروي بحماس، لا يعلم نفسه ما إذا كان لديه من الأحداث ما يحكيه، لكنه حتمًا كان سعيدًا ربما بوجود اهتمام فلسطيني محلي بأعمال وصلت العالمية، فأعماله جمهورها غربي أو عالمي أكثر منه عربي أو محلي، مجرد واحد وثلاثين عامًا، لم نعتد على سن صغيرة تصل بصاحبها بعيدًا ليحمل فلسطين واسمها عاليًا، لا يشاركنا الممثل إياد حوراني الرأي، فببساطة يعتقد أنه في بداية طريق خطرة وعرة ومعدل المخاطرة فيها أعلى من أي مهنة قد تكون، فهو يخاطر بعائلته وصداقاته، بعمر سيقضيه متنقلًا مترحلًا أينما تأخذه شخصيته يكون، هند أو صين، رومانيا، دول أوروبية، جبال أو صحراء صيف أو ربما عواصف شتاء، هو سيرتدي شخصياته فيكون هي وتكون هو فيمتزجان لحد يصبح فيه حوراني ماضيًا كان، ويحتاج نجاحات متتالية وانتصارات مسجلة وثقة كبيرة وطاقة جديدة ليعود حوراني حيث كان شابًا كأعوامه الآن، قادرًا على بناء حاضنة فن، مؤسسًا لأحد دور الإنتاج، فيدخل صناعة السينما ويأخذ بأيدي شباب حلموا طويلًا بوجود مرشد يعطيهم بعضًا مما احتاجه هو أيام كان تائهًا في حيرة من اختياراته يود لو يطور مهاراته ليخبر العالم بصوت خالٍ من التردد مليء بالثقة التي تقول: سأمتهن هواية التمثيل وسأختارها بقرار واعٍ.
خرجت من يده سيجارة تمنى لو لم يدخنها وفي هذه الأثناء، استمرت الأسئلة بفرض نفسها على الحوراني، فكان يجيب بكل جزء من جسده، فتحدثت يداه، ووافقت لسانه عيناه، حتى أصبح المكان مشحونًا بكهرباء ساكنة لا أدري إن كان مصدرها إياد، أم أنه الشتاء.
لا أعلم ما الذي يمنعنا عن تسليط بقعة ضوء على شخصيات شابة واعدة حالمة، وصلت أو ربما في طريقها إلى هناك، إياد حتمًا في طريقه إلى مكان يطمح الوصول هو إليه على الأقل، ولأنه ابن فلسطين الذي لا بد وأن نفخر به لنكون جزءًا من الطريق الصعب فلا يحق لنا أن نكون جزءًا من النجاح إن لم نكن رفيقًا جيدًا في طريق وعرة نحو نجاح غير مضمون. لماذا اعتدنا تمجيد شخصياتنا بعد موتها أو بعد وصولها لآخر الطريق، نجاح كان أم مأساة، نحن دومًا في آخر النفق، ننتظر النتيجة التي ستكون، غير مبالين بالعقبات، غير مدركين لدور لو كنا فعلناه ربما كنا سنكون جزءًا من يد لو امتدت لسهلت أو اختصرت عقبة أو اثنتين لأزاحت همًا أو ثلاثة، لأعادت للبعض سنة أو عقدًا من حياتهم، ربما وربما ولكن المهم، لا مانع من لقاء شابٍّ حيوي في بداياته، يمكن أن نلتقط بعضًا من طاقاته، يمكن أن يكون نموذجًا لشاب فلسطيني يعشق الفن، فمن تجربته التي ما زال يعيشها بنجاحاتها وبحفرها العديدة يمكن لغيره أن يتجنب ما يستطيع، يسترشد بطاقة حية معاصرة لم يمر زمن طويل عليها فتصبح التجربة قيمة ذات أهمية أسمى فهي لا تزال طازجة!
أن تهوى الفن لا يشبه امتهانه، أن تكون ممثلًا ها هنا في فلسطين ليس بالأمر السهل، هو أقرب إلى العادي عن النجومية، لا تزال فلسطين وما زلنا تحت احتلال، وما زلنا نعيش واقعًا مضغوطًا محصورًا مجبورًا عيش أحداث تجعل الفن ثانويًا، لكن ربما فقط عندما ندرك أهميته قيمته، عندها فقط يصبح الفن وسيلة لنقل الأحداث لعكس المعاش لمواجهة أنفسنا، تلك هي فلسفة الحوراني، فهو يدرك جيدًا أن الفلسطينيين يشاهدون الأفلام ويحبون الفن كمتلقين، وليس كحاضنين، ربما نسبة ضئيلة فقط لا تتجاوز الـ 10 بالمئة هي من ترى الفن بطريقة حديثة تعكس همومهم وتلامس روحهم.
ابن مدينة الخليل الجنوبية، دخل عالم الفن من أبوابه العالمية، انطلق منفردًا ينوي امتهان الفن الذي يهوى، فأصبح يومًا طارقا الفلسطيني الأصيل الشغوف للحرية في فيلم عمر، وكان رامزًا في مسلسل خيال علمي تم تصويره في رومانيا، الذي جسد من خلاله شخصية العربي الشهم الكريم. وكان مؤخرًا رجل عصابات سيئ لا ضحية، لعب دور الشرير باحترافية في دور بطولي إلى جانب الممثل الصيني الشهير الذي لطالما أبهرتنا أفلامه جاكي شان. وعن تجربته الأخيرة تحدث: تجربة عالمية، جعلتني سعيدًا، لقد تتلمذت على يد النجم الأسطوري الرائد لمدرسة الآكشن، اكتسبت الكثير من هذه التجربة، هناك جهد أكبر في موقع التصوير، التصوير يبقى متواصلًا لـ 12 ساعة، لثلاثة أشهر بين دبي والهند والصين، حضارات وشعوب ومجتمعات جميعها تغذي تجاربنا فتصقلنا، لست إيادًا واحدًا بأفكاره، لست محافظًا ولست منفتحًا أنا مجموعة من الأفكار كل منها جاءت من حضارة لأصبح من هو أنا الجالس أمامكم الآن.
بصوت خفيض وعينين لامعتين أدعي صدقهما أخبرنا حوراني: أبحث عنها فلا أجدها، وإن وجدت أجزاء منها فهي أجزاء حزينة وحيدة خالية مقاعدها إلا ما ندر، الأفلام الفلسطينية موجودة على الساحة العالمية وما زالت ترشح لجوائز عالمية تتنافس وأحيانًا كثيرة تفوز، لكن ذلك لا يعني أن الاحتلال لم يجعل الظروف أكثر صعوبة، مخاطرة كبيرة أن تفكر في أن تصبح ممثلًا وأنت هنا في فلسطين، تحت الاحتلال، تضييق على الحدود والمعابر، مشاكل أمنية جعلت التفكير في الحياة الاجتماعية أمرًا جانبيًا كغيرها من القضايا المؤجلة بحجة الاحتلال أو بسببه. معيقات عديدة تواجه السينما هنا أولها الاعتماد على التمويل ورأس المال، وثانيها الاحتلال وتضييقاته التي تحول دون مجيء فنانين وخروج آخرين لتبادل الخبرات والانفتاح على الثقافات واكتساب المهارات وتطويرها، وثالثها الثقافة التي ربما ضعفت مع الزمن ولن أقول تلاشت، نعم نشاهد الأفلام العالمية لكنا ناقدون شرسون أمام السينما وأفلامها المحلية والأدوار التي تمثلها. يقول حوراني أكثر تحديدًا وتوضيحًا: المجتمع الفلسطيني يطالب دائما برؤية الفلسطيني بصورة البطل الفدائي الضحية، ولا يمكن الحديث عن مشاكلنا الاجتماعية الأخرى، لكن مهمة الفن أن يكون جريئًا يطرق الباب ويعكس صورًا مجتمعية ربما لا نود رؤيتها ولا يسعدنا ملامسة آثارها ولا نستطيع بعد مجابهتها، لكن علينا عكسها وتمثيلها وأحيانًا إبرازها، لنخبرك عزيزي انتبه: هذا أنت وهذه مشاكلك وعليك الآن أن تجلس إلى جانبي لنوجد حلولًا، حلولًا، وما زلنا نعم تحت الاحتلال.. لابد من التغلب على هذا التعارض المتفهم بين التنبه لمشاكلنا الأخرى التي قد تبدو ثانوية إلى جانب احتلال ينتفع من كوننا ننهدم من الداخل.
من الانتقادات التي واجهت الحوراني إلى جانب زملائه الممثلين في فيلم عمر مثلًا كانت في الصدمة التي تلقاها الفلسطيني عندما أدرك قدرة المنظومة المخابراتية الصهيونية على تغيير المجتمع وآلية تفكير مجتمع بأكمله. وفي مسلسل جن الذي رفض جملة وتفصيلًا فلم يكن مقبولا أبدًا والانتقادات انهالت عليه واتهم بإساءته لعاداتنا وتقاليدنا خاصة في مكان عرضه في الأردن، كونه يحوي مشاهد جريئة موجودة ومعاشة حسب ما رواه إياد ويجب تسليط الضوء عليها: أقوم بتمثيل أدوار جريئة عندما يتطلب المشهد، الجرأة هي تمثيل الدور بكامل أبعاده وأن تذهب بمشاعرك وأدائك لآخر مراحله. لكن حوراني يؤكد أنه لا يقف مع الجرأة التي تصل حد الاستخفاف بالمجتمع وتعالج مشاكله بسذاجة. ولكن نعم، يمكن أن أقوم بأدوار تزعج المجتمع يؤكد الحوراني مجددًا وعيناه أيضًا توافقان.
جزء من أحلامي التي ربما سأحققها في مرحلة بعيدة لكن ليس الآن، الرجوع إلى الوطن لبناء شركة إنتاج أو مؤسسة لاختيار الممثلين، في محاولة لإيجاد وخلق ما فقدته، لمساعدة الشباب الراغب في امتهان التمثيل. فلم أجد مرشدًا لي بعد جوليانو، بعد مقتله في مسرح الحرية الذي تدربت وعملت فيه لمدة ثلاثة أعوام في جنين، من بعده وجدت نفسي ضائعًا، لا يوجد حولي من يمكن أن يأخذ بيدي ويرشدني في هذا العالم الواسع.
الخطة هي الاستمرار في المحاولة، التسويق مهم جدًا كممثل، وهناك سلسلة من الخطوات عليك فعلها لتجد أدوارًا جديدة ومناسبة. يقول الحوراني ببعض من الجدية والحزن ولكنه حتمًا يروي بواقعية: لدي وكالة في لندن أنا زبون لديها، تجد لي أفلامًا وأدوارًا جديدة لأقوم بتجارب الأداء، لكن الجمهور العربي ليس من ضمن جمهورها المستقطب. وعن مهاراته أخبرنا الحوراني أنه يحاول تطوير مهارات معينة للانطلاق بمهنة الفن والاستمرار بالمشاركة بأفلام عالمية، على رأسها اللغة الإنجليزية ومحاولة إتقانها كلغة أم ليستطيع تلبّس الدور وتمثيله باحترافية. من المهارات أيضًا التي استوجب العمل على تطويرها، هي الرياضة التي ليست جزءًا من ثقافتنا المجتمعية والتي يحاول حوراني ممارستها يوميًا، ليكون لائقًا لأي دور مستقبلي بحاجة إلى خفة رشاقة أو هيئة بطولية.
ولم يشعر الحوراني بحرج من إطلاعنا على شعوره بالغيرة من التزام الممثلين في الغرب بنظام غذائي صحي إلى جانب انضباطهم الشديد بمواعيد النوم والاستيقاظ في ساعات محددة، ويتمنى الحوراني أخيرًا الإقلاع عن التدخين.
الحوراني اختار لندن لتكون محطته القادمة، فهي الأنسب حاليًا كما يرى من ناحية خيارات عمل وتجارب أداء ووسط فني. يعلق الحوراني قائلًا: عندما تكون في الوطن العربي تجد نفسك بعيدًا جدًا عن كل ذلك. ويسترسل: حاولت دخول مصر، تم رفض الفيزا ويبدو أن مصر تحتاج منا نحن الفلسطينيين سببًا، كنت قد وددت مرارًا السفر إليها علّي أدخل عالم السينما من وسطه العربي، لأتعرف على شركات إنتاج، ووفقًا لسؤال حول محاولته التوجه لطلب المساعدة، أجاب الحوراني: ليس بوسع وزراة الثقافة إعطاء الفنانين والممثلين تسهيلات، هي تريد لكن الأمر خارج قدراتها.
أنا قريب من والدتي وصديق لأخواتي، أحاول ممارسة الرياضة وأتمنى الالتزام بالأكل الصحي، في كل زيارة يحاول والدي إقناعي بالبقاء، لكن وبعد أن يرى تأثير طاقات البلاد وإحاباطاتها يتراجع سريعًا ويخبرني أن أعود لزيارة قريبة.
الطريق ليس سهلًا، يحمل مفاجآت عديدة لكني قررت منذ أن كنت في المدرسة أن أستمر ولا يمكنني العودة بعد النجاح الذي لقيته في طريق مبكرة ولا يمكنني العودة الآن، سأبقى رحاّلًا وسأعيش خياراتي بفرحها وحزنها بنجاحاتها وبإخفاقاتها وأعتقد أن العام الجديد وبعد مشاركتي بدور البطولة الأخير "فانجارد" الذي سيعرض في دور السينما الصينية في 25 من يناير ليكون العام 2020 بداية جديدة تفتح ربما أبوابًا جديدة وتحديات ما زلت أجهلها لكني حتمًا في انتظارها.