عرفتُ بيرزيت كطالبة بعد توقيع اتفاقية أوسلو في 1994. وأذكر تماما حالة الاستقطاب لدى الطلبة والمجلس بين مؤيد لأوسلو وذاك الرافض لها. كم تمنيت لو عرفت بيرزيت قبل ذلك، فقد كنت قد عرفت تاريخها النضالي مما قرأته وسمعته عنها. ولكني الآن لن أكتب عن أمجاد الجامعة، لأن لا مجد لأمة تتغنى بماضيها فقط. بل سأكتب عن جامعة بيرزيت اليوم٬ وعما اصطلح عليه مؤخرا بـ"أزمة" جامعة بيرزيت٬ وبعد فتح أسوار الجامعة ولضرورة استمرار الحوار الجاد.
وربما يجب أن نبدأ من النقطة التي جعلتنا نقف عند هذه الأزمة. نبدأ من أوسلو التي لن يختلف اثنان على أنها قد غيرت من بنية المجتمع الفلسطيني ومن شكل علاقات القوة، وامتدت هذه التغييرات لتطال الفضاء العام، فقد تخلقت مساحات جديدة مع أوسلو وانطوت أخرى وتبلورت أخريات. أوسلو فتحت الباب على مصراعيه لسؤال الهوية الجمعية.
بيرزيت ليست شاذة ولا بمنأى عن هذه التحولات بل هي في صلبها. فدور الجامعات هو فهم التغيرات الخارجية عنها والمحيطة بها ووضعها في سياقها المحلي للانطلاق إلى التحليل ثم إلى ما يسمى في العلوم الاجتماعية، الاستنتاج. لقد طرأ تغيير على هوية جامعة بيرزيت في خضم أوسلو ولأسباب عدة أيضا تشتت الرسالة التعليمية رسالة الأكاديميا ولم تعد المرجعيات السياسية والأخلاقية واضحة.
ولم تجب جامعة بيرزيت بوضوح عن موقعها في ضمن هذه الأسئلة التي أنتجتها أوسلو. ولا سيما أن هذه الإجابات ستقترن فيها علاقات الهوية بالمعارف. فمن نحن؟ وأي نوع معرفة نريد؟ ما الذي نريد إنتاجه معرفيا وما هو نوع التكوين الهوياتي الذي نريده لدى طلبتنا؟ ما هي رسالة الجامعة بعد أوسلو وفي عصر العولمة والليبرالية الجديدة؟
إن لدى جامعة بيرزيت طاقما من القدرات المتميز الذي يستطيع خلق إجابات هوياتية ورؤيوية ولكنه ليس دائما يستخدم لجعل هذه الجامعة "جامعة الوطن". إن الجامعة تبقى جامعة الوطن عندما تستوعب المستجدات وتناقشها لتخرج بالجديد الذي يوازي المتغيرات الخارجية ويعطي لها معنى وتفسيرا. إن بيرزيت اليوم مدعوة لوقفة جادة حول فلسفتها التعليمية وتحديد دورها كمؤسسة كان دوما لزاما عليها أن تعلم وأن تنتج معرفة تحت الاستعمار. على الجامعة اليوم وقبل فوات الأوان أن تأخذ هذه الأزمة وهذا الكادر الكبير بجدية أكبر وتفتح حوارا مع مختلف مكونات الجامعة وربما مع بعض مكونات المجتمع المدني المهتمة وتحدد الأولويات لتظل بالفعل مستقلة القرار، ولتصبح بالفعل جامعة الوطن التي تنتج المعرفة ولا تستهلكها تقدم الحلول السياسية والاقتصادية للمجتمع ولا تستجديها. تندرج تحت هـذا الحوار قضايا عدة؛ مثلا حول نشاطات الطلاب ونوعها ودورها وما هو دور مجلس الطلبة الآن، وأي نوع إدارة نريد للجامعة في الوقت الحالي، وما هي أدوار نقابة العاملين والأساتذة في هـذه المرحلة.
والسؤال الشاغل هنا هو لماذا تبقى الجامعة خارج إطار الأسئلة والإجابات عن المتغيرات التي أحدثتها أوسلو في المجتمع الفلسطيني؛ والإجابة الواضحة هي أن الجامعة هي جزء من المجتمع ذاته التي حدثت فيه كل هذه المتغيرات وأن كل جلها انعكس في محاولة الصمود والبقاء، و"إطفاء" الحرائق الصغيرة؛ وقد تجسد أساس الصراع بشكل عام حول القضايا والأزمات المالية السنوية للجامعة.
إن ما يسمى "الأزمة المالية" للجامعة قد دفعنا جميعا لأن نقبل التعايش مع واقع لا يتعاطى مع الأسئلة لكي يتفادى الإجابات. وقد دفعت جامعة بيرزيت في هذا الخندق نتيجة عدم التزام السلطة بمخصصات التعليم الجامعي. لقد حددت السلطة الفلسطينية منذ نشأتها، وبظروف نشأتها، أولوياتها. قُذف بالتعليم إلى آخر مصاف الأولويات ليأخذ موضوع الأمن المكان والمكانة من التعليم، وليصبح السؤال لجامعاتنا ولنا ولمجلس الطلبة وللعملية التعليمية برمتها معلوما مخفيا في نفس الآن، لنتفادى سؤال ماذا نفعل إزاء هذا الاستهتار بالمكان والمكانة؟ ما دورنا إزاء تهميش التعليم؟ وهل نحن بالتالي لا ندرك بأن تحررًا وطنيًا لن يحصل بدون مستوى من المعرفة والتحليل وإنتاج المعرفة المحلية المشروطة بحقيقة الاحتلال؟ هل فعلا أفلسنا عن الإجابة عن سؤال الدور والمعرفة؟ هل فعلا ليست لدينا كوادر وقدرات لمواجهة هذه الأزمة؟ هل فعلا استخدمنا كل طاقاتنا الغائبة وعقدنا العزم على أن نجعل بيرزيت تتحول "لسوق" كجامعات كثيرة بالعالم؟
ولأن مجتمع الجامعة يشمل بالضرورة مجلس الطلبة، تأتي ضرورة معرفة أين يقع الطلبة دورًا ومعرفةً من كل هذه السياقات. ولا شك أننا سنرى أن عماد هذه الجامعة هو قوة مجلس طلبتها الـذي ظل دوما حرا مستقلا بقراره وهذا يشرفنا ويشرف أي شعب تحت الاحتلال يطمح يوما ليرى الحرية. وكما أن على الجامعة دورا جسيما بعد أوسلو فإن على المجلس دورا أكبر وتحديات أكثر.
إن مجلس الطلبة قبل أوسلو يختلف عنه ما بعد أوسلو. المؤسسة والحركة الطلابية "المستنيرة" عليها أن تقرأ المتغيرات الكبيرة والأحداث المحلية وتخضعها للنقاش ومن ثم تقرر أولوياتها وفلسفتها ورسالتها، وعلى مجلس الطلبة أن يحدد رسالته اليوم ويحدد أولوياته المعتمدة بالأساس٬ تاريخيا وعالميا، على أهم مكمن قوة لديه وهو العمل النقابي. إن مجلس الطلبة له تاريخ، وأثبت أنه يستطيع التوحد عندما يحس بتهديد على هويته، وهو قادر على أن يحمل رسالة الوحدة هذه لمصلحة الطلبة جميعًا ودائما، والأحرى به أن يتذكر ذلك ودوما وأن لا يترك المجال للمصالح الفئوية والحزبية والأخطر للمصالح الشخصية والتي هي أصغر بكثير من الفئوية من أن تحدد الطريق.
إن على مجلس الطلبة أن يعرف أن عالم ما بعد بعد أوسلو وعالم ما بعد الانقسام وعالم الليبرالية الجديدة هي عوالم مختلفة عما قبل ١٩٩٤، وأن التحديات عظيمة وأن البلد مسكينة وأن الجامعة هي المكان الوحيد في هذا العالم الذي يستطيع الطالب فيه أن ينمو ويكبر ويحلل ويتعلم فقط بمساحات لن يجدها خارجها. وأن هـذه المساحات يمكن أن تكون هي المساحات المستقلة الوحيدة المتبقية في هـذا الوطن. إن مجلس الطلبة اليوم مسؤول أكثر من أي وقت مضى عن جامعة بيرزيت ومجتمع الجامعة ورسالة الجامعة ومصلحة الطلبة. فأي مجلس طلبة نريد؟ وأي جامعة وطن نريد؟ وأي وطن نريد؟ هي أسئلة علينا جميعا الإجابة عنها وبدونها تصبح "أزمات" جامعة بيرزيت مزمنة ومفتوحة إلى أجل غير مسمى...