الحدث-تونس-أيمن جملي
"أسأل من أنا؟ المغادر أم المحتجز؟ التفت التفاتة أخيرة إلى سجني .. سارق الأشياء الجميلة وبقية من حلمي.. وأمضي''.
للوهلة الأولى تحسبه مشهدا سينمائيا متكامل الأجزاء، سجين يبكي أطلال سجن قضى فيه مدة لا بأس بها ولكنها في حقيقة الأمر، آخر جملة وآخر مشهد واقعي بعد 17 سنة قضاها الناشط السياسي البشير الخلفي بين قضبان زمن الاستبداد.
كتاب ''دراڤة'' مزيج وخليط متجانس بين السرد والحوار والمقامة والشعر الملحون (باللهجة العامية التونسية) يتخلله تأريخ لزمن "انتهكت فيه أعراض الناس داخل سجون الاستبداد في تونس في حكم بن علي" يعرف الخلفي الكتاب (54 عاما) في حديث للأناضول.
المعنى الأول لكلمة ''دراڤة'' هو الستار الذي عادة ما يستخدم داخل الزنزانة لفصل أسِرة السجناء، وهي كما يعرفها الكتاب، "الجزء الفاصل بين الموت والحياة" حيث يقول في الكتاب "ستار داكن اللون يوضع على حافة السرير السفلي ليحجب الرؤية عما يحويه في باطنه.. أما دراڤة الكتاب فإنها تحوي بداخلها الانتهاكات التي تعرض لها شعبنا الكريم ووطننا العزيز منذ نصف قرن أو أكثر. ربما سلم بعض الأفراد ولكنه تأذى في نسيجه العائلي في مكان ما يقينا".
الكتاب صدر عن دار ''ميارة" هذا الشهر، وهو "مراوحة بين هواجس الحرية والانعتاق، ومعايشة حقيقة الزنزانة وساكنيها بدء من السجناء وصولا إلى أصغر الحشرات التي تسكن الشقوق والتجاويف المظلمة و'المسجونة دون حُكم".
يتحول بك الكاتب عبر ردهات الكتاب بسرد أبرز المحطات النضالية في تاريخ تونس المعاصر، والحصار الضيق الذي ضربه الرئيس السابق زين العابدين بن علي، على معارضيه، إلى حوارات سريالية تجمعه بالجلاد الذي لا يزال يبحث في مكان في جسده لم تلحقه آثار التعذيب، إلى استنطاقه لعصى الجلاد، في جدلية مثيرة يخلص منها إلى لقاء ونقاش مستفيض مع الجرذان والقمل والبوفراش (البعوض) والنمل والناموس.
ويمضي الكاتب ذو الخلفية الإسلامية، "الحشرات تقيم معنا بلا حكم صادر فيها واخترت توظيف حوارات بينها لأن هذا الجنس الأدبي جديد ولأن صراعاتها تجسد إلى حد ما الصراع القائم بين الإنسان الباحث عن الحرية وبين الجلاد المستبد".
المؤلف يحاول من خلال الكتاب، الكشف عن خفايا التعذيب في تفاصيله ويوجه دعوة للأجيال القادمة للوعي بما عايشه آبائهم وأجدادهم، ويحذرهم من "إمكانية رجوع الاستبداد واردة ولذلك من المهم ترسيخ ثقافة النضال وتأصيله لدى الأجيال القادمة.. عندما تدرك وتعي التعذيب أفضل من أن تجهله ويقع عليك".
ويرفض الخلفي تصنيف كتابه ضمن أدب السجون، لأن كتاباته حسب رأيه "شكل من أشكال النضال والنضال خصال جيدة ومفخرة تربى عليه الناشئة ولا يجب أن تكون من قبيل البكائيات".
ويتابع المؤلف "ربما يشعر القارئ وهو يمر من فصل لفصل، بنوع من الحزن العميق يصل إلى التقزز الذي يحول دون مواصلة القراءة لبشاعة المشاهد وفظاعتها وانتهاكها للحد الأدنى من الإنسانية، لكن هذا الوجع يحمل في طياته محفزات تدفع تلقائيا لمواصلة الجمل والوقوف على كل تفصيل وكلمة، خصوصا في الفقرة الأخيرة من محور (الاعتقال.. التحقيق..التعذيب / مثلث.. كاتم النبض).
*الاناضول