كيف يمكن للشخص، إدراك أعظم مستويات تحقيق الكائن المعرفي؟ هل بالقراءة؟ وما نوع القراءة المتوخاة بهذا الخصوص؟ أم بالكتابة؟ أم التأمل؟ أم نتيجة ذلك كله، وحيثيات أخرى، مع تجلي قدرة التوفيق المنتج بين منتهى القراءة، وممكنات الكتابة، ثم مستويات حضور التأمل واشتغاله سواء في القراءة أو الكتابة.
بالتأكيد، المعرفة خلق وتأسيس وإعادة صياغة لمنظومة المفاهيم الجارية، بحيث ترتكز على جدلية السؤال اللامتناهي. لذلك، ارتبطت المعرفة في ذهنية الدهماء والنمطيين، بالعته والحمق، ما دام القارئ يتكلم لغة غير متداولة لدى السياق العام، وبأنها لغة مرتابة ومتيقظة وجسورة، تقطع مع اللغة المؤسِّسة.
دائما أخاطب نفسي بتساؤلات من قبيل: ما معنى الخوض في تجربة المعرفة؟ ما الغاية من ذلك؟ هل المعرفة بمثابة اختيار حر أم مصير ضروري؟ ما معنى أن تكون مثقفا أو عارفا؟ ما هي المعايير الوجودية، التي يمكننا من خلالها تحديد هوية المعرفي؛ ثم غير المعرفي.
هل تكفي المعرفة، أن تنعت نفسك بهذه الصفة، انطلاقا من تقسيم مجتمعي للوظائف؟ هل يكفي المعرفة، الانتماء إلى مجال يدعي لنفسه حق إنتاج الفكرة؟ هل يكفي المعرفة، ترسيخ رأسمال رمزي، ثم يتداول الناس اسمك باعتبارك ''عارفا''؟ هل يكفي المعرفة، أن نترك لهؤلاء الناس، أفكارا مبثوثة هنا وهناك، بين صفحات كتب ومنشورات، إلخ؟ هل يكفي المعرفة، احتواء غرفتك لحيز يقل مداه أو يتسع، لعناوين كتب إما نقرأها حقا، أو فقط نتجمَّل بها رياء أمام الزوار، وربما دثرنا بعناوينها فقط اعوجاجات فجوات هندسية!
في زمننا الحالي، مع تحولات الثورة الجذرية لمنظومة التواصل الاجتماعي، يمكننا أن نضيف أيضا، على سبيل التمثيل لا الحصر، الاستثمار ''الفيسبوكي'' للانتساب المعرفي، وقد أضحى حقا متحررا كليا في متناول الجميع، من المكابِد اليومي فعلا إلى المدعي زورا وبهتانا، مرورا بالمتباهي تبجحا، لحاجات أخرى في نفس يعقوب. سياق راديكالي، اخترق كليا قانون التصنيف الرمزي الجاري به العمل، وقلب مفاهيمه رأسا على عقب.
لماذا ننخرط في طريق المعرفة؟ هل لانتشال ذواتنا من هذه الحياة، بأقل الخسائر الممكنة، ما دامت المعرفة تمنح الترياق الذي يتحول معه الماء المالح إلى آخر عذب، والسموم تغدو عسلا؟ فلولا المعرفة، لاقتصر وجود العالم على لحظة واحدة لا غير.
المعرفة خلاص وجودي، تعيدنا وجهة كنه وجوهر ذاتنا، بحيث لا يمكننا فهم مصيرنا وبدايتنا ونهايتنا، دون السؤال المعرفي. وحدها المعرفة، تضفي على الحياة معنى، وإلا يبقى وجودنا مجرد دوران لانهائي في فلك العبث.
وأنت تسبر أغوار المعرفة، تحس بتحرر صوفي لذيذ غريب، يشعرك أخيرا بأنك إنسان حقا، استعدت هويتك الأصيلة وأضحيت قادرا على التسامي بلا توقف فوق الأفخاخ الصغيرة، التي حولتك فيما سبق، قبل لحظة: الوجود/ المعرفة؛ الوجود/ بالمعرفة؛ معرفة/ الوجود؛ وجود/ المعرفة. فهل يعني ذلك، أن العارف يعتبر كائنا "سعيدا''، بالضرورة ما دام قد عثر أخيرا،على المسلك الأقرب إلى حقيقته، دون غيره التائهين دائما حتى اللحظة عن شفرة السحر العجيب للمعرفة. تزداد حظوظ العالم للنجاة من مستنقعه، كلما فطنت ساكنته إلى ملاذ المعرفة، ثم العكس بالعكس؛ كلما تضاءل وزن العالم معرفيا، صار مرتعا لشتى تجليات الحمق.
لقد تعددت الأوصاف الناعتة للمثقف، حسب المرجعيات والسياقات والمحددات التاريخية. إنه إله ورسول وراهب وكاهن وقائد وملهم ومبشر وقائد ومنقذ وذاكرة وضمير ومحرض…، حسب مستويات اشتغاله بالهاجس المعرفي. أيضا، تباينت البورتريهات اللائقة بالمثقف المناسبة لوضعيته الرمزية: قد يكون سعيدا؛ شقيا؛ مفرحا؛ مبكيا؛ نموذجيا أو شاذا… بناء على كيفيات تفعيله لهاجسه المعرفي.
عموما، وبغض النظر عن شتى التفاصيل؛ أظن بأن الصفة الأمثل بالنسبة للمثقف تتمثل في دأبه اللانهائي على تكريسه وصف إنسان، الذي يلغي مختلف ماسبق ويطوي جل ما سيأتي. ثم بعد ذلك، ليس لازما أن يعكس تصنيفا سيكولوجيا محنطا؛ بل المهم انسجامه مع ذاته معرفيا وبالمعرفة.