الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

صناعة دولة غزة أ-د/ إبراهيم أبراش

2015-01-30 09:31:30 PM
صناعة دولة غزة
أ-د/ إبراهيم أبراش
صورة ارشيفية

 مقدمة

تبوأت غزة [1]مكانة متميزة بين مدن العالم من حيث ورودها في وسائل الإعلام وجذب الاهتمام العالمي ، وإن كان انشداد الأنظار في السنوات القليلة الماضية لغزة يعود إلى ما يشهده قطاع غزة من أحداث وخصوصا العمليات العسكرية الإسرائيلية التي وصلت أوجها في العدوان الاخير في يوليو 2014، بحيث بات مصطلح الحرب أو العدوان على قطاع غزة الأكثر ترددا في وسائل الإعلام العالمي وعلى ألسنة المواطنين والمحللين السياسيين ، إلا ان لغزة تاريخ عريق يضعها ضمن اقدم مدن العالم حيث ورد ذكرها في التوراة وفي وثائق فرعونية قديمة .

حاضر غزة غير منقطع الصلة بتاريخها ، وتميز غزة بشراسة وتكرار العدوان الإسرائيلي إنما يعود لموقعها الجيوسياسي وتكوينها ودورها السسيوثقافي في حمل راية الوطنية الفلسطينية والتصدي للمخططات الإسرائيلية . كانت غزة وستبقى القلعة التي تقف في وجه العدوان الإسرائيلي وتتصدى لكل محاولات الإجهاض على المشروع الوطني كمشروع تحرر وطني .

سنقارب الموضوع من خلال المحاور التالية :

المحور الأول : غزة في سياقها الوطني

المحور الثاني : الانسحاب الإسرائيلي من القطاع بداية محاولة لنزع غزة عن سياقها الوطني 

المحور الثالث : المسار الدموي لصناعة (دولة غزة )

المحور الرابع : مستقبل القضية الوطنية ما بعد عدوان 2014 على غزة

المحور الأول

غزة في سياقها التاريخي الوطني

بالرغم من أن كل مدن وقرى وربوع فلسطين متساوية من حيث الانتماء الوطني والمشاركة في النضال الوطني التحرري ،إلا أن منطقتين استقطبتا الاهتمام المحلي والدولي أكثر من غيرهما من المناطق وكل منهما تميزت برمزيتها وخصوصيتها التاريخية والنضالية . هاتان المنطقتان هما مدينة القدس بما لها من رمزية دينية ولكونها عاصمة دولة فلسطين ، وقطاع غزة لرمزيته الوطنية ولما شهده من أحداث وحالات عدوان لم تشهد مثيلا لها بقية مناطق فلسطين . كان الموقف مما يجري في هاتين المنطقتين بمثابة بارومتر يؤشر على سخونة الأحداث أو هدوئها ، كما كان الموقف العربي والدولي مما يجري في هاتين المنطقتين يُقاس عليه للحكم على الموقف من القضية الوطنية بشكل عام .

تعتبر غزة ثاني اكبر مدن فلسطين بعد مدينة القدس حيث تُذكر غزة في أقدم الوثائق التاريخية الفرعونية التي تعود لأكثر من ثلاثة آلاف عام ، ولا ينفصل صمود غزة وتاريخها النضالي المعاصر عن تاريخها القديم في مواجهة الغزو العبراني الأول ، حيث جاء في أحد الكتب الدينية اليهودية وهو سفر الملوك الأول الذي يعود لعهد سليمان : إن حدود مملكة اليهود تنتهي عند حدود مدينة غزة التي لم تدخل أبدا ضمن مملكة اليهود ، وظلت بعد ذلك ملكا للفلسطينيين . ( الملوك الأول 4 : 24 ) نفس الأمر ورد في سفر القضاة .[2]

غزة تلك المنطقة الصغيرة من جنوب فلسطين والفقيرة بمواردها الطبيعية [3]وشبه الصحراوية لم تتميز فقط من خلال دورها النضالي بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 67 بل كان دورها النضالي قبل الاحتلال لا يقل أهمية عن دورها بعد الاحتلال. فقطاع غزة حافظ على الهوية الوطنية الفلسطينية بعد النكبة وفي سنوات التيه والضياع [4]بعد أن فرضت إسرائيل جنسيتها وقوانينها على فلسطينيي الخط الأخضر، وفرض الأردن جنسيته وقوانينه على فلسطينيي الضفتين ، فيما كان ممنوعا على غالبية فلسطينيي الشتات التعبير بحرية عن هويتهم الوطنية أو ممارسة حقهم بالنضال الوطني. [5]

خلال سنوات التيه والضياع استمر فلسطينيو القطاع في حمل راية الهوية الوطنية والحفاظ على الشخصية الوطنية وخصوصا أن القطاع استقبل حوالي مائتي ألف من لاجئي النكبة مما غير من تركيبته السسيولوجية وأصبح ثلاثة أرباع القطاع من اللاجئين الذين كانت الغربة وحياة اللجوء دافعا قويا عندهم لرفض الواقع والنضال من اجل العودة لأرضهم التي شردوا منها ، ولاجئو القطاع جسدوا وعبروا عن خصوصية كل قرية ومدينة فلسطينية بملابسها ولهجاتها ومأكولاتها وتجاربها النضالية وذاكرتها التاريخية ، وفي قطاع غزة تشكلت أولى خلايا المقاومة الوطنية منذ خمسينيات القرن الماضي ، وأبناء القطاع رفدوا الثورة في الخارج بخيرة القيادات والمقاتلين ، ومن قطاع غزة انطلقت شعلة الانتفاضة الأولى 1987 ، وقطاع غزة احتضن اللبنات الأولى لمؤسسات كان يؤمل منها تجسيد حلم الدولة ولو في إطار تسوية مشكوك بنجاحها ، فكان المطار ومقر الرئاسة (المنتدى) ومقرات وزارية والمجلس التشريعي والبدء بمشروع ميناء غزة ، بالإضافة إلى الممثليات الأجنبية ومشاريع تنموية واعدة الخ .

إن كانت غزة بالنسبة إلى الفلسطينيين تمثل جنوب فلسطين أو منطقة من فلسطين يحبونها كما يحبون فلسطين ، فإنها بالنسبة لأهل غزة تمثل مسقط الرأس أو الوطن الصغير وخصوصا بالنسبة لمن لم ير أية منطقة أخرى من فلسطين. ولكن وطن الذاكرة أو وطن مسقط الرأس مجرد إثبات مكان مولد أو ذكريات جميلة عن مرحلة الطفولة والمراهقة، إنه حب أضافي لفلسطين الوطن الكبير ، كما هو الحال لحب ابن الخليل لمدينته وحب أبن القدس لمدينته وابن يافا لمدينته. لا يمكن لمسقط الرأس أن يشكل وطنا ودولة ، ولا يمكن لأي منطقة تتميز بدور أو بخصوصية  نضالية أن تشكل دولة أو كيانا خاصا ، فلكل مدينة في فلسطين تاريخها النضالي ، ومقابر شهداء فلسطين في الأردن وسوريا ولبنان لا تميز بين شهداء مدينة ومدينة، فالشهداء قضوا في سبيل الله والوطن وليس دفاعا عن مدينة بعينها.

لن نقلل من المعاناة التي يعيشها أهلنا في قطاع غزة منذ حصاره عام 2006 ، ولكن يجب أن لا ننسى أن كل فلسطين محتلة وأن أهلنا في الضفة والقدس وفي مخيمات لبنان واليوم في مخيمات سوريا عاشوا ويعيشون معاناة لا تقل عن معاناة أهل غزة ، وبالتالي فالتميز بقسوة  المعاناة لا يبرر مجرد التفكير بالخروج من الحالة الوطنية من خلال توظيف المعاناة لخدمة تطلعات سلطوية للبعض أو لخدمة أجندة خارجية . وحتى نكون أكثر وضوحا وصراحة ، وبعيدا عن الانتقائية في الحديث عن المعاناة ، فإن أهلنا في الضفة والقدس هم الأكثر معاناة من الاحتلال والمعركة الحقيقية بالمقياس الوطني هي التي تجري هناك ، ويجب أن نحكم ونحاكِم ونُقَيم الوضع في الضفة والقدس ليس من خلال سياسة السلطة وممارساتها بل من خلال معاناة الشعب وما تتعرض له الأرض من استيطان وتهويد.

خلال ست وستون سنة من تَشَكُل قطاع غزة بتركيبته الجغرافية والبشرية الراهنة [6]جرت محاولات ومؤامرات متعددة لنزع القطاع من سياقه الوطني ، وكانت اخطر هذه المحاولات ما أقدمت عليه إسرائيل من انسحاب من القطاع من جانب واحد عام 2005 ، الأمر الذي مهد لاحقا لسيطرة حركة حماس على القطاع ، وبداية الحديث عن مخطط لفصل غزة عن المشروع الوطني والكل الوطني والدفع بها جنوبا نحو مصر ، أو اقتطاع جزء من سيناء وضمه لقطاع غزة لإقامة (دولة غزة) المنسلخة عن تاريخها وسياقها الوطني ، الأمر الذي وضع المشروع الوطني على المحك . وجاءت تطورات الأحداث في قطاع غزة : الحصار ، الانقسام ، والحروب الثلاثة – حرب نهاية 2008 وبداية 2009 ، وحرب 2012 ، وحرب 2014 - التي شنتها إسرائيل على القطاع لتؤكد خطورة ما يُحاك للمشروع الوطني من مؤامرات ليس فقط من إسرائيل بل أيضا من أصحاب مشاريع وأجندات عربية وإقليمية .