جاء اغتيال سليماني (قائد فيلق القدس في الحرس الثوري) ومندوب ومنسق العلاقات الإيرانية مع القوى المتحالفة مع إيران في المنطقة، في وقت يتأرجح فيه النظام العراقي بسبب ما تمر به البلاد من أزمات داخلية أعمقها وأهمها المظاهرات الشعبية التي انطلقت منذ الأول من تشرين أول أكتوبر الماضي، والتي أخذت شكل ثورة شعبية لها برنامجها الواضح والصريح، وقد عبر المتظاهرون من خلال شعاراتهم عن رفض الطائفية والفساد المستشري بأشكاله المختلفة، الأمر الذي بدا وكأن مرحلة جديدة لرسم عراق جديد بعيداً عن المحاصصة الطائفية ورفضاً للهيمنة الخارجية أياً كان مصدرها.
من هنا فقد استفزت الفئات المستفيدة من حالة الشرذمة والطائفية التي يعاني منها العراق، ولجأت إلى استخدام سياسة الاغتيالات بحق الشخصيات الوازنة والمؤثرة في هذه المظاهرات (الثورة)، وكان واضحاً للشعب العراقي بأن الجماعات الموالية لإيران قد اتخذت قرارها بإنهاء ثورة الشعب العراقي، الأمر الذي حدا بالمتظاهرين إلى مهاجمة المصالح الإيرانية في المناطق العراقية المختلفة، وكان الأخطر على إيران ظهور حالة من التصدع والانشقاق في الشارع الشيعي العراقي، حيث عبرت المرجعيات الشيعية العراقية عن تأييدها لمطالب المتظاهرين ورفضها للتدخل الإيراني في الشؤون الداخلية العراقية.
فإيران التي تمكنت من الهيمنة على النظام من خلال تشكيل مجموعات في العراق ترتبط بها عقائدياً وسياسياً وعسكرياً، وأضحت مستفيدة من حالة التفكك والمحاصصة الطائفية، نظراً لهيمنة الشيعة على موارد العراق، مما مكنها من تمويل ما يعرف بالمحور الشيعي الممتد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق.
ولم تنزعج الولايات المتحدة الأمريكية المهيمنة على معظم آبار النفط في العراق كثيراً من سياسات إيران في العراق، والتي امتدت لأكثر من عقد من الزمن، وكأن هناك اتفاقا لتقاسم النفوذ والمصالح بين الطرفين.
وبقي النظام العراقي الرسمي يتماهي مع هذه الحالة، إلى أن تفاجأ بقوة المتظاهرين وصلابتهم وتضحياتهم، وبينما تدارك النظام خطورة الأوضاع التي قد تؤدي إلى تقسيم العراق، حاول أن يبحث عن مقاربة متوازنة للحد من تفاقم الأوضاع في محاولة لاستيعاب المتظاهرين وقيادتهم، جاء اغتيال سليماني على الأراضي العراقية ليزيد الطين بلة، وليجعل العراق ساحة لتصفية الحسابات بين الأطراف المتصارعة والمتنافسة على الهيمنة على العراق والمنطقة بأسرها.
وقد سبق هذا الاغتيال ضرب الولايات المتحدة قواعد المجموعات العراقية في غرب العراق والتي أوقعت فيها خسائر بشرية كبيرة، فأقدمت عناصر هذه المجموعات على مهاجمة السفارة الأمريكية في بغداد، وهنا اعتبرت الولايات المتحدة بأن قادة إيران قد تجاوزوا حالة اللاسلم واللاحرب القائمة لأكثر من عشر سنوات والتي تقاسما خلالها النفوذ والمصالح بشكل لا يؤدي إلى تفجير الأوضاع.
ولم يستطع قادة إيران استيعاب اغتيال سليماني، واعتبروها رسالة من العيار الثقيل، يصعب أن تمر دون رد يحفظ لهم وللمحور الشيعي ماء الوجه أمام أولئك الذين يعتقدون بقدرة إيران وصلابتها، وإلا انهارت الصورة المتخيلة في ذهن اتباعها في محور المقاومة كما يسمونه.
وقد اعتبر القادة الإيرانيون الاجتماع الذي عقده مجلس النواب العراقي من الشيعة في غياب السنة والأكراد جزءاً من الرد على عملية الاغتيال، وأكملوا هذا الرد لتعزيز الموقف الذي اتخذه النواب الشيعة بضربات ركيكة على قاعدتين أمريكيتين، هذا في الوقت الذي وجد فيه النظام العراقي نفسه بين المطرقة والسندان، كما اتضح بأن ممثلي الطائفة الشيعية الذين أتوا بالقوات الأمريكية وتحالفوا معها ضد صدام حسين لم يعودوا بحاجة لهذه القوات وأن ولاءهم للمشروع الإيراني وليس لعراق واحد مستقل.
مما سبق يتضح بأن إيران ليس لديها القدرة أو الرغبة في الوصول إلى مواجهة مباشرة تؤدي إلى تفجير الأوضاع، فرغم أنها تعاني بسبب الحصار المفروض عليها، إلا أنها لا تسعى لتدهور الأوضاع باتجاه حرب شاملة قد تؤدي إلى نهاية أحلامها وإنجازاتها، لذلك أقدمت على رد مدروس ومحسوب بعناية لا يورطها في ما لا يكن في الحسبان.
وقد كان لكل هذا تداعياته على العراق وشعبه، فقد وجد العراقيون بأن بلادهم مستباحة، بين من يريد أن يبني قاعدة شعبية طائفية على حساب مستقبلهم وامتدادهم العروبي، وبين من يهيمن على آبار نفطهم ويقول "نحن نحميكم فيجب أن تدافعوا"، إضافة إلى كل ذلك فإن حالة التفكك والفوضى والتدخلات الخارجية في الشأن العراقي قد تمخض عنها طبقة سياسية فاسدة لا ترى من العراق إلا مصالحها وملء جيوبها دون أدنى اهتمام بمصالح وحياة الشعب العراقي بمختلف طوائفه وانتماءاته.
إن كل ما سبق ذكره يدعونا إلى عدم ترك العراق وشعبه وحيداً في مواجهة هذه التداعيات، فالعراق المنهوب والمستباح بحاجة إلى دعم عربي على المستويين الرسمي والشعبي، للخروج من حالة الضياع، واستعادة مكانته كي يعود ويشكل رافعة للأمن القومي العربي. إن بقاء العراق ذو العمق التاريخي والحضاري والعروبي ساحة هشة متداعية قابلة للانفجار في كل لحظة، لن تقتصر تداعياته على الساحة العراقية وحدها بل ستبلغ شظاياه دول الجوار العربي، وسيمتد حراك الشعب العراقي إلى الجوار العربي بشكل يختلف عما عرف بثورات الربيع العربي، فالشعوب العربية لم تعد تحتمل حالة التبعية والقهر والفقر.
إن النظام العربي الرسمي اليوم مطالب بإعادة حساباته وتقييم تحالفاته وعلاقاته مع الدول الغربية التي تسعى لإبقاء العرب في حالة من الضعف والتخلف، ومن يعتقد بأن الولايات المتحدة الأمريكية تضمن أمنه القومي فهو واهم، فدور الولايات المتحدة لم ولن يخرج عن دورها التقليدي المتمثل في تأجيج الصراعات الطائفية لضمان عدم الاستقرار في المنطقة ضماناً لمصالحها وحفاظاً على أمن إسرائيل، ونذكر هنا ما قاله برايمرز حاكم العراق بعد سقوط بغداد "إننا بإسقاط نظام صدام قد قضينا على حكم السنة للعراق الذي استمر لألف عام".
إن أمن المنطقة واستقرارها لن تحققه الولايات المتحدة الأمريكية، إنما يبدأ ببناء قاعدة داخلية صلبة من خلال سياسات وقوانين تعزز البنية الاجتماعية والعدالة والديمقراطية وصولاً إلى مجتمع متماسك وشريك في بناء مستقبله.