الحدث.
قبل أن يهتديَ عقلي لمسار الإدراك، وقلبي لرحيق الامتلاك، وبصري لمصفوفة التمييز، رأيتُها جسداً تتزاحم فيه جروح الزمن.. قدماها ساكنتان، عيناها دامعتان، يداها مرتعشتان، بينما لسانها فلا يهدأ ذكراً واستغفاراً لله... عندما كان عمري يشق السادسة رافقتها لشراء البرتقال والبطيخ، وصاحبتها نحو بيادر القمح وكروم العنب والزيتون، وتعلقتُ بتلابيب ثوبها المطرز لتعزية مكلوم أو تهنئة سعيد..
لم تسجل ذاكرتي الطفولية مشهداً لعتابٍ أو سلوكاً لتعزير؛ بل ما أتذكره فيضاً من حنان، ومداداً من ودٍّ.. عندما كنتُ أنظر في عينيها أجد فضاءً معطّراً بالأمومة، وحقلاً مخصباً بعبق الشوق .. بظلِّها " تدثرتُ" برداء الرعاية المتدفقة باعتباري" عنقود العائلة"...كثيراً ما كان لسانها يذوب بدعاءٍ لي يسبَح في ماء التوفيق والحفظ من كل بغيضٍ وشرٍّ مستطير.. وعندما كنتُ أغادر البيت سرعان ما يسكنها القلق الذي لم تُطفئه إلا عودتي ..
وما أن تفتَّحتْ براعمي السبعة إلاّ وانطفأت قدرتها المشهودة بفعل خطأٍ طبي أودعها فراش السكون لأكثر من ثلاثة عقود.. في تلك الفترة تغيَّرتْ معالم الدنيا وتبدلت خرائط الزمن.. قبل ذلك كانت مختزنة بذكرياتٍ لجسدٍ قوي، وإرادةٍ لا تفلّ، وعملٍ لا يجهض، أما بعد ذلك فغدت رهينةً للضعف والعجز، ومسكونةً بالألم والبكاء، ومتحسرةً على ماضٍ كانت فيه تشقُّ عباب الحصاد قبل أن تنهزم خيوط الليل أمام الشمس وتشققها الخلاب..
ليس سهلاً على امرأةٍ كانت تقطع بضعة كيلومترات مشياً على قدميها، فتجد جسدها بعد أيام قليلة لا يقوى على قضاء أبسط ضروراتها الخاصة.. ليس هيّناً على امرأةٍ كانت تُسابق الزمن نحو أداء الواجب الديني والاجتماعي لتغدو ذات عينين تغزوهما الدموع، وقلب يتفطر على ذكرياتٍ جميلة قضتها تحت أشجار التين والرمان والبرقوق في أراضي "اللية" وكروم العنب في "الطيبة"، تلك المنطقتين التي كانت تتداول بهما موسم الصيف، لتنسج مع ثلّة من النّسوة حكايات الوطن المعذب بِنِصال المستعمر وسياط التفتيت..
رغم أنّ جسدها كان فاقداً لأيّ حراك؛ إلاّأن قلبها كان متخماً بكل الحنان والإيمان... تعبتْ كثيراً في أعمال الفِلاحة دون أن تتذمر أو تضعف... تعاركت مع حياتها القاسية فلم تيأس أو تقنط.. واجهتْ مرضها بصبرِ المؤمن المحتسب فلم تسخط أو تشكو إلاّ لله.. لم تتعاطَمع إعاقتها الدائمة من منطلق الركون إلى العجز والاستسلام لبواعث السكون الجسدي؛ بل آمنتْ بقضاء ربِّها دون أن تجزع من زمنٍ أصبحتْ فيه طاحوناً يهضم سعادتها بحدة وقسوة..
جسدها يتعطش للحركة بينما روحها متخمة بالارتواء.. تُصلِّي دون القدرة على الصيام.. تزكّي دون الاستطاعة على أداء الحج أو العمرة.. دائمة الاستماع لكلام الله بصوت القرّاء السديس والبدير والمعيقلي.. قليلاً ما تفوتها نشرات الأخبار الرئيسة لقناتَيْ فلسطين والجزيرة.. ذاكرتها مجمرة بحكايات الماضي الحزينة منها والجميلة.. لسانها دائم السؤال عن الأحبّة والخلاّن.. أُمنيتُها أن تحتضن ابنها الأسير "أبا تامر" الذي كثيراً ما تُقبّل صورته وتبكي..
بيتُها معمورٌ بعائلتها الممتدة،إذْلا تمرّ بضع ساعات إلاّ والمحبّون يتهافتون على زيارتها، فأحياناً تبادلهم الحديث، وحيناً آخر يغزوها الإرهاق فتصمت وتسمع.. رفيقتها في حياتها ابنتها "نعيمة" التي رفضت الزواج مراراً حتى تعتنيَ بوالدتها.. إنّها نِعم الابنة البارّة التي بذلت عمرها كي تخفف عن أمها لهيب المرض وسوط الألم..
إنّها المرأة التي لم تُتقن كتابة اسمها لكنّها أتقنتْ تربية وتعليم أبنائها... إنها أمي التي غذّتني بالحبِّ والتصميم قبل أن تسقيَني حليب الحنان ونهر الحكايات المحفورة في جوف الوطن الذي ينتظر تحرير التراب وحرية الشعب.. إنها قصتي مع امرأةٍ ناطح عمرها الثمانين دون أن ينطحها قرن اليأس أو يتلبّسها رداء الغضب... إنها أمي التي بقيت ــ وستبقى ــ روحها مورقةً بالأمل،وقلبها محلّى بالحب، وذاكرتها معلقة بيقينِالصبر والمواجهة، بينما عقلها مُضاء بنور الجبل والكرمة والينبوع والمحبّين...