قبل قرابة أربعة عقود، أطلقت المناضلة الكاريبية آودري لورد مقولة إنه "لا يمكن لأدوات السيِّد أن تهدم منزلَه، أبداً." وقد لا نجد أبلغ من هذه المقولة ملاءمةً للحالة الفلسطينية التي لن تجدي فيها "الأدوات" الاستعمارية للتحرر من "بيت" الاستعمار الصهيوني، وبخاصة، الانتخابات التي يجري التداول بشأنها مؤخراً، وإمكانية ترشُّح القائد الوطني الأسير مروان البرغوثي للرئاسة الفلسطينية، وقيادة قائمة حركة فتح للمجلس التشريعي، ما سيجعله، ربما، المرشح الأول في التاريخ الذي لن يسمح له بالتصويت في انتخابات بلاده. وعلى ذلك، فإن دعايته، ستكون محض دعاية، غير انتخابية.
كيف يمكن تحويل هذا النفق السياسي إلى أفق تاريخي، عبر هدمه؟
ليس ثمة من يشك في أن اتفاقية أوسلو لم تكن بيتاً ليتم هدمه، اللهم لمن يعيش فيه انتفاعاً، بل كانت، ولا تزال، نفقاً تراجيدياً دخله الفلسطينيون، ولا يزال النضال للخروج منه مستمراً. لكن التحدي الآني الذي ينبغي أن يـُمنح الأولوية، على طريق المواجهة الاستراتيجية مع دولة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني-إسرائيل، هو تحدٍ مفاهيمي يتعلق بالإجابة على سؤال: كيف يمكن تحويل هذا النفق السياسي إلى أفق تاريخي، عبر هدمه؟ ولعل الإجابة على هذا السؤال، فيما يتعلق بجزئية الانتخابات حصرياً، هي خطيَّة وبسيطة، ومؤدَّاها: أن يتم تحويلها إلى حملة دعاية شاملة ضد إسرائيل، وبشكل خاص لصالح قضية الأسرى الفلسطينيين، بحيث يشكِّل الفلسطينيون مادتها؛ والصهاينة ماكينتها؛ وبقية العالم جمهورها المستهدف.
الانتخابات بحاجة إلى راسم منمنمات للخارطة الانتخابية، قبل أن تكون بحاجة إلى مرسوم رئاسي بروتوكولي
إذا، وفقط إذا، أجريت الانتخابات، مع أن معظم المؤشرات تفيد غير ذلك، يتوجب على الفلسطينيين أن يعرفوا جيداً أنها جزء من "لعبة ديمقراطية" لم يضعوا هم قواعدها، بل هي ديمقراطية "السادة" التي صُممت لتنظيم شؤون، جزء من، "العبيد"، في "منزل" لن يتمكنوا من هدمه، وهم بالكاد يعيشون تحت سقفه ضمن شروط "أمنية" واقتصادية وإيديولوجية صاغها العدو. بمعنى أن الانتخابات محكومة، جغرافياً وديمغرافياً وثقافياً، بالسقف الذي أحالته الواقعية السياسية المفرطة للرسمية الفلسطينية إلى قَدَرٍ من خمسة أحرف: "أوسلو"، تركَ الفلسطينيين بلا تعريف للوطن، ولا الوطنية، ولا المواطنة. وإذا أضيفت للجغرافيات/الديمغرافيات الحرام في الانتخابات (الشتات الفلسطيني، وفلسطين المحتلة في العام 1948، والأسرى في السجون الصهيونية)، الجغرافيا غير المحسوم أمرها (القدس "الشرقية")، والجغرافيا التي يتهدد الانقسام/التقاسم مصيرها عموماً، لا الديمقراطي وحسب، (غزة)... فإن الانتخابات بحاجة إلى راسم منمنمات للخارطة الانتخابية، قبل أن تكون بحاجة إلى مرسوم رئاسي بروتوكولي، لا سيادة فيه لأحد.
في هكذا سياق، وفي حال تغلَّبت حركة فتح على نفسها ديمقراطياً (وهذا مستبعد أيضاً، و"بطبيعة الحال")، ورشَّحت مروان البرغوثي للرئاسة، ولقيادة قائمتها الانتخابية للمجلس التشريعي... فإن على الفلسطينيين أن يتذكروا جيداً أن مروان البرغوثي هو أسير اتفاق سياسي لم يؤمِّن له الحصانة من الاعتقال، وأن انتخابات أوسلو لن تتمكن من تحريره من الأسر، كما لن تحرره، حملات العلاقات العامة لصفقة التبادل، اللهم إن نجحت، ونجحت الصفقة. غير أن ذلك لا يعني، عدم "استثمار" محصِّلات الواقعية السياسية عبر "طرح" نقيضها (الذي لن يكون بالضرورة الالتزام الإيديولوجي المبدئي بميثاق العام 1968 وهو البرنامج الذي ينبغي أن يظل برنامج النضال الفلسطيني الاستراتيجي)، وهو برنامج محدد جداً صاغه مروان البرغوثي في بندين: "وثيقة الأسرى" للنضال السياسي، و"المقاومة الشاملة" للنضال الشعبي. ولعل من شأن هذا البرنامج أن يلاشي الفروق بين زنزانة رقم 28 في السجن الأصغر-هداريم، وزنزانة القيادة الفلسطينية في السجن الأكبر-رام الله، بحيث يمكن للأدب الفلسطيني المعاصر أن يتَّسع لمقولة كنفانية أخرى: "زنزانة عن زنزانة تفرق."
ومع أنه من المستبعد أن تسمح إسرائيل بإجراء الانتخابات، وبخاصة أن نتائجها لن تحقق لها ما هو أفضل من شروط "الوضع القائم" حالياً، إلا أنه إن تجرَّأت الرسمية الفلسطينية على إجرائها، ووجدت بعض التغطية الدولية لها، فسوف تجنِّد إسرائيل ماكنتها الإعلامية بكاملها لمحاربتها. لن يكون ذلك لشيطنة المرشح-"الأيقوني"-الأسير مروان البرغوثي وحسب، بل و"العملية الانتخابية" بأسرها كخطوة من طرف واحد، سبق وأن تحلل رأس هرمها السياسي، رسمياً، من الاتفاقية التي بموجبها ستجرى الانتخابات (على الرغم من فرجوية ذلك التحلل، وكاريكاتورية اللجنة التي شُكِّلت لغرض إنفاذه). في هذه الحالة، فإن إسرائيل، ستقدم مثالاً جديداً للنبوءة المحققة لذاتها التي أطلقها محمود درويش ساخراً، أن: إسرائيل يمكن أن تكون وزارة إعلامنا نحن، كفلسطينيين.
كيف سيكون رد فعل أجهزة الأمن الصهيونية حين يكون المرشح الرئاسي ورئيس القائمة البرلمانية لفتح هو، "المخرِّب مروان البرغوثي؟"
وعلى سبيل المثال، فقد شهدت الدورتان الانتخابيتان الأخيرتان للكنيست الإسرائيلي، تصعيداً تأليبياً غير مسبوق على الأسرى الفلسطينيين، وشيطنةً لقيادات الحركة الفلسطينية الأسيرة، في حملة طالت حتى الرئيس الفلسطيني في رام الله. وقد قام على هذه الحملات رؤساء سابقون لأجهزة "الأمن" الصهيونية. فكيف سيكون رد فعلهم حين يكون المرشح الرئاسي ورئيس القائمة البرلمانية لفتح هو، "المخرِّب مروان البرغوثي؟" هنا، يمكن لإسرائيل أن تلعب دوراً هاماً في أن تكون وزارة دعاية حقيقية لقضية الأسرى الفلسطينيين، حين تعيد الزنزانة الصهيونية إلى حيز الجغرافيا السياسية الفلسطينية من جديد، وتعيدها إلى مركز الاهتمام العالمي، كما أشار درويش.
في فلم جان-لوك غودار "موسيقانا" (2004)، ودون الخوض في تفاصيل سياقية كثيرة، غمز درويش قناة سارة آدلر، المراسلة والمنتجة الإسرائيلية-الفرنسية، بالقول: "هل تعلمين لماذا نحن الفلسطينيين مشهورون؟ لأنكم أنتم أعداؤنا. إن الاهتمام بنا نابع من الاهتمام بالمسألة اليهودية، نعم الاهتمام بك أنت،ِ وليس بي أنا. إذن: نحن قليلو الحظ في أن تكون إسرائيل هي عدونا، لأنها تحظى بمؤيدين لا حدَّ لهم في العالم. ونحن، أيضاً، محظوظون لأن تكون إسرائيل عدونا، لأن اليهود هم مركز اهتمام العالم. لذلك، فقد ألحقتم بنا الهزيمة وأعطيتمونا الشهرة. لقد ألحقتم بنا الهزيمة، ولكن منحتمونا الشهرة. نعم، أنتم وزارة دعايتنا، لأن العالم يهتم بكم أكثر مما يهتم بنا، وليست لدي أيَّة أوهام حول هذا الأمر."
مجرد طرح، إمكانية ترشُّح القائد الوطني الأسير مروان البرغوثي للرئاسة الفلسطينية أن يخلخل الكثير مما هو قارٌّ في الوعي الفلسطيني، والصهيوني، والعالمي
وعليه، فقبالة هذه "الثنائية"، غير المتكافئة فلسطينياً وصهيونياً، قد لا نحتاج إلى عناء كبير في توقُّع ما ستحدِثه الحملة الدعائية لترشُّح مروان البرغوثي عالمياً. ستعمل الماكينة الإعلامية الصهيونية، ومناصروها في المركز الاستعماري الغربي، على شيطنة البرغوثي ورفاقه في الحركة الفلسطينية الأسيرة، لكنَّ تلك الحملة يمكن احتواؤها لصالح قضية الأسرى عبر فضح الممارسات الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني بأسره وأسراه. ولعل الاستثمار الهائل الذي كرَّسته "الحملة الشعبية لإطلاق سراح القائد مروان البرغوثي وكافة الأسرى" في إطلاق "الحملة الدولية لحرية مروان البرغوثي وكافة الأسرى الفلسطينيين" في العام 2013 من زنزانة الزعيم الجنوب-إفريقي نيلسون مانديلا في "روبين آيلند"، يكون نموذجاً لما يمكن البناء عليه في إجهاض الحملة الصهيونية للنيل من الأسرى وحقوقهم السياسية، ولفضح التدخلات الاستعمارية في "ديمقراطيات" المستعمَرين من كابرال إلى مانديلا.
إن من شأن طرح، مجرد طرح، إمكانية ترشُّح القائد الوطني الأسير مروان البرغوثي للرئاسة الفلسطينية أن يخلخل الكثير مما هو قارٌّ في الوعي الفلسطيني، والصهيوني، والعالمي. فـ "الزمن الموازي" للأسرى الفلسطينيين في السجن الصغير، بتعبير المناضل وليد دقَّة، يمكن أن يلتقي بـ "الزمن الاجتماعي" للفلسطينيين في السجن الكبير، وذلك عبر تحويل الدعاية الانتخابية إلى "دعاية" لمظلومية الأسرى. ليس ثمة من شك في أن لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي، وحركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية، لن تتمكن، منفردة ولا مجتمعة، من استصدار "تصريح خاص" لمرشح الرئاسة مروان البرغوثي كي يدلي بصوته في انتخابات بلاده. ولن تتمكن، كذلك، من إرسال صناديق انتخابية لمراكز الأَسْر ليشارك "جنودها السابقون" في الانتخابات، كما تفعل الدول السيِّدة مع جنودها ورعاياها "خارج" البلاد... لكنها، بلا شك، قادرة على فرض تصريح زيارة جماعي لوعي الفلسطينيين، وأنصار الحرية في العالم إلى زنزانة رقم (28) في سجن هداريم الرهيب، وأشباهِهِ، حيث يقيم خيرة قادة الحركة الوطنية الفلسطينية، وجنودها.