نتحدث عن التكنولوجيا المالية بالعالم ومدى حظوظ نجاحها في فلسطين، سيما وأنها نجحت في اقتصادات مماثلة. البعض يدعي بأن إصدار العملة له علاقة بالسيادة وبالتالي بنجاح الـ Fintech كما تسمى، ونحن نقول بأن ثماني دول بالعالم ليس لديها عملة وطنية، وتستعمل عملات دول أخرى كما نحن نفعل ونجحت، فهذه فرصه فلسطين الذهبية لرقمنة العملة والولوج بالتكنولوجيا المالية إلى اقتصاد آمن ومستقر يشمل النسبة الأكبر من فئات المجتمع. البداية بالتفكير خارج الصندوق وبطريقة استباق الحدث وليس بردة فعل أو نسخ بطريقة سطحية، بتفكير مبني على الاستماع للآخر والتفاعل مع الشريحة الأكبر في مجتمعنا، شريحة تشكل 65% ما زالت تنتظر شمولها بالخدمات المالية حسب الأرقام الرسمية.
إن التغيير الذي طرأ في طريقة حياتنا والنهج المجتمعي لطريقة إدارتنا لأموالنا في الأعوام الخمسة الأخيرة، كلها مشاهدات يفرزها طلب متزايد للتغيير نحو الاستقلالية من شريحة معرضة –من خلال إنترنت الأشياء- لما هو جديد بالتكنولوجيا. فالحل هو الابتكار وليس النسخ، بما يلبي حاجاتنا ويفيد/يخدم رؤيتنا في الاستقرار والشمول المالي، بدءا من التثقيف على المستوى الوطني بالتكنولوجيا المالية كحل للشمول المالي ووصولا للاستقرار المالي المرجو وبدون شعارات أضحت مبتذلة بمعزل عن حراك جدي من المنظم وهنا مربط الفرس… فمن أين نبدأ، كما أسلفت في مقالي السابق.
البدء من رؤية وطنية موحدة بنهج مالي عصري آمن وسهل في متناول يد الجميع. نهج مقبول لا بل مرغوب فيه، يحفز من قبل أكبر شريحة في المجتمع تلك المهمشة - لأكثر من سبب - والتي تضم الشباب أيضا حسب إحصاءات الاستراتيجية الوطنية للشمول المالي. تتسم هذه الشريحة -المعرضة للتطورات بشكل مستمر- بالديناميكية بمعرفتها وولائها لما تريد، وبالتالي أصبحت المحرك والملهم للمستثمر بالتكنولوجيا المالية بعيدا عن كلاسيكيات التعاملات المالية من خلال المصارف فقط.
إن تركيز هذه الشريحة بطلبها اللحوح للحلول المالية التي تلبي تطلعاتها بالاستقلال المالي "الشمول المالي من وجهة نظر البعض" هو البوصلة الدقيقة لما يجب عمله، بطريقة ستضمن أساس نجاح وديمومة التكنولوجيا المالية في فلسطين كبديل ذي صلة مباشرة بطريقة تفكير هذه الشريحة، وتؤثر في وتعزز من اختراق التكنولوجيا المالية لمجتمعنا بشقيه العام والخاص من خلال اضطراب مالي "بالمعنى الإيجابي" يقوم على شمول أكبر شريحة بالمنظومة المالية تعزز من استقرار السوق وسلامته.
أنا من مدرسة تشجيع الريادة في التعامل مع التكنولوجيا المالية والتعاطي بحذر ولكن ليس بخوف، أي بردة فعل التشريع وليس استباقيته كإجراء وقائي مما سيحصل! إن الدروس في هذا المضمار كثيرة، فقبل قرابة العقد من الزمان، أطلقت سلطة النقد الفلسطينية مبدأ "الائتمان العادل" وتقاسمت التشريع مع هيئة سوق رأس المال الفلسطينية "المنظم للمؤسسات المالية غير المصرفية" الدور في رعاية نشوء وتطور التأجير التمويلي والرهن العقاري "لغايات الإقراض السكني" في ظل غياب تشريع/قانون، مما حدا بالمنظمين إعطاء مساحة كافية لضمان استمرار تلك الشركات بدون إثقالها بتشريعات لو وجدت إبان تأسيسها لما استمرت بنفس القوة والديناميكية في خلق سوق كان منتظرا، كامنا في طيات دوائر التسهيلات بالمصارف والتي لم تر في هذا الإقراض المتخصص قيمة نظرا لضيق الهامش… والأفق أيضا! هنا قامت هيئة سوق رأس المال "المنظم" بضبط الإيقاع وضمان فتح السوق لهذا النوع من الإقراض بعيدا عن المتطلبات الكلاسيكية. وهذا ما حصل، أثبتت شركات التأجير التمويلي نجاحها وبأقل التعليمات الناظمة وأيضا في تطور الإقراض بضمان رهن الأصول غير المنقولة، ونجاح مبهر للإقراض السكني وبالأخص بعد الأزمة المالية العالمية والمحددات التي تبعت والتي لم نر أي تأثير سلبي على قطاع الرهن العقاري الفلسطيني مثلا، بل كان نجاحا مبهرا أدى لنشوء "ضواحي سكنية جديد"، لا بل مدن بأكملها مثل مدينة روابي. هنا أثبت المنظم "سلطة النقد الفلسطينية وهيئة سوق رأس المال" بنجاح تعاونهم لتنظيم قطاع مشترك أو ما يعرف بالتنظيم الترجيحي وبتبادل الأدوار، مما أضاف قيمة كبيرة في سوق رأس المال والخدمات المالية بوجه عام، ولم نر أي إساءة استعمال من أي طرف. المثال الثاني هو إعطاء المجال لأحد البنوك بتأسيس شركة مدفوعات قبل رسم أي تشريع أو قانون أو ترخيص واستمر ذلك قرابة العشر سنوات، وكانت كفيلة لوضع أسس ترخيص شركات المدفوعات وعمل استراتيجية للتكنولوجيا المالية. فهل نتعظ من الماضي القريب المشرق؟ أم نغرق بهواجس من مستقبل مظلم؟
ما نريد قوله، هو أن التنظيم الترجيحي كان أساسا نجاحنا في الماضي وهو المطلوب لتحريك المياه الراكدة. الآن ونحن ندرك بأن أسلم الطرق للرقمنة هو الاستفادة من خبراتنا بالتواصل أولا فيما بين مؤسساتنا والتعلم من الدروس بدون استيراد التشريع للتكنولوجيا المالية، فنحن قادرون ولدينا من الكفاءات ما يكفي ولكن نفتقر لمظلة تنفيذية. فاللجنة الوطنية للشمول المالي ترسم ولا تنفذ وهنا برأيي يكمن الحل، فالمنظم للقطاعين المصرفي والمالي قادر على تقاسم الكعكة لتكبيرها وجعلها شاملة لأكبر شريحة. اليوم فلسطين متأخره ثماني سنوات عن أقدم محفظة رقمية ذكية لخدمات المدفوعات، المطلوب فتح السوق ومتابعته عن بعد بدل إصدار تشريع ووضع محددات كافية لوأد الإبداع. فلنجرب التنظيم الترجيحي مرة ثانيه سيما وأن اختراق التكنولوجيا المالية قد وصل لخدمات التأمين أيضا Insure-tech وهو في صلب عمل الشمول والاستقرار الماليين. الكرة في ملعب المنظم… ونحن بانتظار الدخان الأبيض.