لا يختلف اثنان على أن أخطر ما يواجه شعبنا الفلسطيني وقضيته هو استمرار التوسع الاستيطاني الكولونيالي في الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس، والذي يتناقض جذريا مع أمل ومحاولات تحقيق الحلم الفلسطيني بالتحرر وإقامة الدولة. وقد أدى تكريس هذه الحقائق الكولونيالية وترهل الأداء الفلسطيني وغرق المحيط العربي بمحرقة "الربيع العربي"، إلى تنامي قبول المجتمع الدولي بفكرة تضمين أي حل للقضية الفلسطينية أفكار التعايش مع استمرار بقاء الكتل الاستيطانية والمستعمرات الإسرائيلية في الضفة الغربية تحت السيادة الإسرائيلية. ولذلك فإنني أعتبر أي محاولة لمواجهة النشاط الاستيطاني وتعزيز صمود وهوية كل سنتميتر من الأراضي الفلسطينية جهداً مقدسا يستحق التبني والدعم والمؤازرة. وإن الانخراط في أي عمل يعزز المقاطعة الشاملة للنشاط الاستيطاني ومكافحة وحظر العلاقات الاقتصادية والتجارية معها ومنع العمل فيها، يعتبر واجبا قوميا مقدسا، وجهاداً أعظم في مسيرة التحرر والبناء.
لكل ما سبق، وفي ذروة المنخفضات المناخية والسياسية المتوالية في سماء فلسطين، فإن إطلاق مبادرة "عالأرض" قبل أيام، للمساهمة، مهما كانت متواضعة، في صون الهوية الوطنية للأراضي الفلسطينية المهددة بالمصادرة، يمثل ضوءا ساطعاً في عتمة المرحلة التي نعيشها، وخطوة ملهمة في هذا المضمار.
وفقا لما ورد في إعلان ولادتها قبل أيام، تهدف مبادرة "عالأرض" إلى تعزيز قدرة المواطن على الصمود فوق أرضه المهددة بالنشاط الاستيطاني، إضافة إلى "دعم أفكار خلاقة تمكن المواطن من توطيد علاقته التاريخية بالأرض، وتبرز للعالم المخاطر الجسيمة للمشروع الاستيطاني على حياة الشعب الفلسطيني".
في سياق الجهود الرامية إلى الحد من الأثر المدمر لتغول النشاط الاستيطاني على تواضعها، فإن المبادرة آنفة الذكر ليست جديدة تماما، ولكنها جديدة ورائدة من حيث كونها مبادرة مجتمعية مستقلة وغير معتمدة على تمويل أو دعم أو قبول أو تنظيم السلطة بمؤسساتها أو أي كيان سياسي أو تنموي إقليمي أو دولي، وتأتي من وحي وتنظيم وتمويل مطلقيها، إضافة لطبيعتها من حيث كونها مبادرة دفاعية تستهدف تحصين الهوية الفلسطينية للأراضي الفلسطينية المهددة بالمصادرة، بعكس المبادرات الهجومية التي قامت بها السلطة وفشلت/أُفشِلت في مجال "حظر ومكافحة منتجات المستوطنات".
برأيي، فإن فرص نجاح هذه المبادرة وانتشارها واعدة ووافرة، ولا أبالغ في توقعي بأن تظهر مبادرات أخرى مكملة أو منافسة لها في المدى المنظور، أو أن تتوسع ذات المبادرة بمشاركة آخرين من شركات ومؤسسات فلسطينية وعربية ودولية، لا بل وأفراد أيضا. وأتطلع لإمكانية مأسسة مثل هكذا مبادرات بإنشاء صندوق غير ربحي يمول من أبناء شعبنا وشركاته ومؤسسات في الوطن والشتات، تكرس موارده لتمويل مبادرات ونشاطات واستثمارات تستهدف محاصرة النشاط الاستيطاني وحقائقه المدمرة لطموحنا السياسي بالحرية والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية على ترابنا الوطني.
تاريخيا، وفي سياق المبادرات الهجومية التي قامت بها السلطة، فقد أصدر مجلس الوزراء قراره الأول بشأن حظر ومكافحة منتجات المستوطنات في ربيع عام 2004 والذي بقي في حينه حبرا على ورق. عاد مجلس الوزراء وأصدر قراراً مشابها في حزيران 2009 ولم يجد طريقه للتنفيذ لأسباب معلومة للمتابعين. ومن ثم أطلقت مبادرة إنشاء صندوق لتمويل جهود مكافحة منتجات المستوطنات في تشرين الثاني 2009، والتي توجت في كانون الثاني من عام 2010 بإنشاء "صندوق الكرامة الوطنية لتمويل التمكين الذاتي ومكافحة وحظر منتجات المستوطنات" أو ما بات يعرف ب "صندوق الكرامة"، الذي تم تبنيه وتمويله بالكامل من القطاع الخاص بحوالي 945 ألف دولار. ولاحقا أصدر الرئيس أبو مازن قراراً بقانون رقم (4) لسنة 2010م بشأن حظر ومكافحة منتجات المستوطنات في شهر نيسان 2010 بناء على تنسيب مجلس الوزراء. وقد قام الصندوق بنشاطات ترويجية شاملة ومفصلية لمكافحة منتجات المستوطنات بدعم ومؤازرة السلطة ومختلف قطاعات المجتمع المحلي والمدني وفصائل العمل الوطني، وجند الصندوق آلاف المتطوعين للوصول إلى كل منزل أو منشأة فلسطينية للتوعية من مخاطر التعامل مع المستوطنات. إلا أنه تمت تصفية الصندوق في بحر عام 2012 لأسباب أجهلها.
إن المبادرة المذكورة، تستحق التبني الشعبي والرسمي، وتمثل تحديا للقطاع الخاص ممثلا بشركاته وأفراده، ليأت بمثلها أو يكملها، أو ينضم إليها جهدا وتمويلا. وأتمنى على القائمين عليها فتح الباب لمساهمة الأفراد في تمويلها من مالهم الخاص، كل بقدر استطاعته، حيث إن هدفها سام ومقدس، ومتجذر في قلب كل مواطن حر وشريف.
ختاماً، وللتاريخ أيضا، فإن لمطلق المبادرة، تجارب سابقة في مسيرة مقاطعة المستوطنات ومنتجاتها، فهو الوحيد تقريبا الذي ألزم ويلزم جميع الموردين ومقدمي الخدمات للشركات التي يديرها، بتوقيع تعهد خطي شامل ومفصل في مجال عدم استخدام أي مواد أو خدمات مصدرها المستوطنات في تنفيذ عقودهم، وقد التزام رسميا بعد إنشاء "صندوق الكرامة" باستيعاب أي عامل أو فني ممن يعملون في المستوطنات في مشاريعه، بشرط الامتناع التام عن العودة للعمل فيها في أي فترة لاحقة، بما في ذلك الاستعداد للمساهمة في تمويل أي شراكات مع فنيين ينقطعون عن العمل فيها.
إن فلسطين بحاجة ماسة لأطنان من المبادرات الخاصة بتكريس الهوية الوطنية وبعث الأمل في المستقبل بغض النظر عن مصدرها ومبدعها، خاصة في ظل تكالب الأصدقاء قبل الأعداء على طي صفحة القضية الفلسطينية ومركزيتها في الأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي، وإنني لعلى ثقة من واقع تجربتي المتواضعة بأن هذه المبادرة وغيرها من جهود تثبيت هوية المكان، خلقت لتعيش وتنمو وتتفرع وتسهم في عودة الأمل بوطن حر أبي، شاء من شاء وأبى من أبى.
فهل رجال وسيدات الأعمال وشركات ومؤسسات القطاع الخاص على قدر التحدي؟... هذا ما ستكشفه الأيام.