كل من تابع احتفالات إسرائيل بالذكرى الخامسة والسبعين لتحرير مُعتقل أوشفيتز في بولندا بعد المجازر التي ارتكبت بحق اليهود و غيرهم من الأمم أبان الحرب العالمية الثانية، لا بد وأن لاحظ أن إسرائيل و بمكونها اليهودي طبعاً تعيش حالة من الايفوريا "أي النشوة"، وذلك بما أنجزته من تعاطف وتأييد دولي لم تحلم به مُنذ تأسيسها.
إن الإنجاز الاستراتيجي والأهم للحركة الصهيونية منذ تأسيسها وحتى اليوم، تمخض بنجاحها في تحويل مجموعات من مشارب أثنية وقومية مختلفة يجمعها الدين إلى شعب يهودي واحد موحد عائد إلى أرض آبائهِ وأجدادهِ بعد آلاف السنين من الضياع والعذاب والقتل، ولهذا فالعالم لن يقبل بتكرار مأساة هذا الشعب وبات بقاؤه على أرض فلسطين مسؤولية استراتيجية وأخلاقية لغالبية الدول العظمى.
لقد كان للنشاط الصهيوني المُنظم طيلة العقود الماضية وخاصة في الأعوام الأخيرة؛ إنجازات هائلة أهمها انتزاع قرارات أوروبية لأول مرة تربط معاداة الصهيونية بمعاداة السامية، وبهذا فقد تحولت الحركة الصهيونية من حركة عنصرية إلى حركة تحررية إنسانية وأصبح كل من ينتقد الحركة الصهيونية مُعاديا للسامية خارجا عن القانون حسب ما أقر برلمان الاتحاد الأوروبي مؤخراً .
واستكمالاً لهذا الإنجاز، فقد كان الاحتفال قبل أيام في متحف الكارثة والبطولة بالقدس عبارة عن أكبر تجمع لزعماء دول العالم دعماً لإسرائيل مُنذ تأسيسها.
إن الكلمات التي أُلقيت من مجموعة من الزعماء في هذه الذكرى، لم تكن عادية أو تقليدية؛ فالرئيس بوتين مثلاً أكد على متانة العلاقة الاستراتيجية بين روسيا وإسرائيل، مؤكداً على شُكرهِ لإسرائيل التي اعترفت بالدور الأهم للجيش الأحمر في الانتصار على النازية وتحرير من تبقى من اليهود في معسكرات الاعتقال النازية، وهنا فقد أصبحت إسرائيل من الدول القليلة المُهمة بالعالم والتي ترتبط بعلاقات استراتيجية متوازنة مع الولايات المتحدة و روسيا.
أما الرئيس الألماني والذي بدأ كلمته ولمدة لا تقل عن ثلاث دقائق من الحديث باللغة العبرية القديمة "الايديش" طالباً الغفران بعد ثلاثة أرباع القرن عما اقترفتهُ بلاده أبان الحقبة النازية باليهود، مؤكداً على استمرار دفع التعويضات وكل وسائل الدعم لتبقى إسرائيل الملاذ الآمن لليهود. وهكذا مع الرئيس الفرنسي وولي العهد البريطاني وطبعاً وأولاً نائب الرئيس الأمريكي. الخلاصة هنا أن إسرائيل بعد هذا الاحتفال التاريخي الهام انتزعت الاعتراف الشرعي بكونها موطناً لليهود وبأنها جزء من الحضارة الأوروبية والغربية وهي بحاجة لكل الدعم للبقاء والاستمرار بيتا وملاذا وحيداً وآمناً لليهود. ولهذا وبعد كل هذا الانتصار يذهب نتنياهو إلى واشنطن لاستلام وعد ترامب الجديد بشرعية دولة الشعب اليهودي على أرض إسرائيل التاريخية بعاصمتها أورشليم الموحدة وحدود آمنة وقوية ومعالجة القضايا الإنسانية والحياتية للقبائل العربية المُنتشرة على هذهِ الأرض.
لقد كان من المسؤولية أن نستفيد نحن الفلسطينيين من هذا الحدث وخاصة من القادة الثلاثة الذين زارونا في رام الله وبيت لحم.
وكان مهماً مثلاً أن نستعرض، ولو سريعاً، الجيتو الفلسطيني في غزة والضفة أيضاً وإظهار الوجه الحضاري للمجتمع الفلسطيني قبل 1948 على الصعيد العلمي والاقتصادي والتعليمي والاجتماعي والثقافي، وخاصة في يافا وحيفا والقدس، داحضين الرواية الصهيونية بأنها أرض بلا شعب وحضارة فنحن نفتقر إلى أبسط أساليب العمل الدعائي والسياسي والديبلوماسي ، وربما كان من المهم طباعة رسالة الكاتب اليهودي جدعون ليفي لوحدها وإيصالها إلى أكبر عدد ممكن من الزعماء لتظهر حقيقة الهولوكوست الفلسطيني الممارس من الناجين من الهولوكوست الألماني.
بطبيعة الحال فإن هذا الإنجاز المُتمثل بالوعد الترامبي، لم يأتِ إلا بعد عمل وجهد منظمين… على مر العقود لليهود والحركة الصهيونية.
أما ونحن ننتظر ما يُخطط لنا، فقد فشلنا فشلاً ذريعاً في المحافظة على الدعم والتضامن الدولي الرسمي والشعبي مع قضيتنا العادلة في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي، كل ما نفعلهُ الآن هو الشجب والإدانة وكأننا نصرخ في الصحراء وأكثر ما يُحزن ويُبكي الدعوات الآتية من إمارة غزة للقاء مصالحة من أجل مواجهة وعد ترامب وذلك بعد فوات الأوان.
إن الفجوة كبيرة جداً على كل الأصعدة بيننا وبين الاحتلال، ولكن هل نستسلم أم نُعيد الولادة والانطلاق من جديد؟ لن نبقى نجلد أنفسنا وإلا سنندثر إلى الأبد، ما نحتاجهُ الآن بالتحديد هو الاعتراف بالفشل والأخطاء وإعطاء مجال للشباب الواعي المُنتمي لأخذ دوره على كل الأصعدة وإعادة صياغة الرواية لشعبنا وللعالم وإطلاق الطاقات الشابة في الداخل والخارج والكف عن تكرار جُمل وشعارات بالية عفى عليها الزمن.
نحن بحاجة لحركات شابة واعدة وواعية تأخذ على عاتقها تحمل مسؤولية إعادة رسم الصورة من جديد لعلها تُعطينا أملاً بالمستقبل.