تقديم
توفي الفيلسوف الماركسي اللامع، لوي ألتوسير يوم 22 أكتوبر 1990، بعد أن راكم متنا نظريا مهما، بوّأه مقاما، ضمن أهم فلاسفة ومفكري القرن العشرين، الذين أحدثوا نقلة نوعية على مستوى تاريخية المفاهيم. كلنا، يعلم إضافاته الرصينة إلى الأدبيات الماركسية، بعد إعادة القراءة الثاقبة للمتن الماركسي وكذلك التأويلات المنهجية الجديدة التي رافقت هذه القراءة، في أفق إخراج النظرية من عنق زجاجة التمثل الأرثوذوكسي، العقائدي الجامد، كما عانته الماركسية داخل تنظيمات اليسار التقليدي، لا سيما في أوجهها الستالينية، والبحث عن الآفاق الرحبة التي تفتحها المقاربات الإبستمولوجية. مستفيدا من مؤلفات باشلار وفرويد وستراوس ولاكان والبنيوية.
بيد، أنه لا أحد من تلامذة ألتوسير وطلبته وأتباعه وعشاقه، بل خاصة المدرسة الفلسفية الفرنسية، واليسار الفرنسي، قد توقع لوهلة، صيرورة عبقريته الأريبة إلى تلك النهاية المأساوية، بعد الحادث الذي جرى يوم 16 نوفمبر 1980، حينما قتل زوجته إيلين ريتمان داخل شقتهما المتواجدة بالمدرسة العليا للأساتذة بباريس، جراء إصابته بحالة جنون حادة، مما شكل انقلابا في مصير الرجل، لم يكن واردا بتاتا في الحسبان.
يقول: "لقد قمت بخنق زوجتي التي جسدت لديّ كل العالم، إبان أزمة عصبية طارئة، شهر نوفمبر 1980 نتيجة خلل ذهني. زوجتي، التي أحبتني إلى درجة أنها توخت الموت، متى عجزت عن تحقيق ذلك. بلا شك، لحظة جنوني وبممارسة لا واعية ''قدمت لها، هذه الخدمة''، وماتت دون أن تدافع عن نفسها".
حيثيات القضية، سيتطرق إليها، ألتوسير عبر صفحات سيرته الذاتية، التي جاءت تحت عنوان: ''المستقبل يدوم طويلا''، الصادرة عن منشورات ''ستوك" سنة 1992، فترة بعد وفاته...
من خلال هذه الحلقات الطويلة، سنصغي ثانية إلى ألتوسير وهو يروي بدقة متناهية،على لسانه الوقائع التراجيدية، إبان صبيحة ذلك اليوم من أيام بداية سنوات الثمانينات.
الفصل الثالث :
ولدت يوم 16 أكتوبر 1918 في تمام الساعة الرابعة ونصف صباحا، في منزل متواجد وسط "غابة دي بولونيا''، ضاحية بيرماندريس، التي تبعد مسافة خمسة عشر كيلومترا عن الجزائر العاصمة.
أخبروني بأن جدي، بيير بيرجي، ذهب لحظتها راكضا نحو أقاصي المدينة كي يصطحب من هناك طبيبة روسية، تعرفها جدتي؛ صعدت تلك المرأة الفظة، المرحة والمتحمسة، غاية المنزل، لمساعدة أمي على الولادة، وما إن لاحظت رأسي الضخم، صاحت دون تردد: "هذا الطفل،لا يشبه الآخرين!". صفة محوِّلة، ستلاحقني لفترة طويلة. أذكر ابنة عمي الجرمانية وأختي يكرران عن طبيعة شخصيتي، حينما بلغت سن المراهقة: "يجسِّد لوي حالة استثنائية" تختزل الكلمات الثلاث في واحدة.
عند ولادتي، كان أبي غائبا منذ تسعة أشهر: في الجبهة أولا، ثم المكوث ثانيا في فرنسا غاية تسريحه من الجيش. طيلة ستة أشهر، افتقد جوار سريري لأب، وعشت فقط مع أمي، غاية مارس 1919، بصحبة جدي وجدتي لأمي.
انحدر جدي وجدي (لأمي) من أبناء وبنات القرويين الفقراء، المنتمين إلى بلدة فورس، في مقاطعة نيفر. خلال حقبة شبابهما، مع حلول كل يوم أحد، أنشد الاثنان داخل الكنيسة. جدي، الشاب بيير بيرجي، مع فتية القرية، فوق الدكَّة التي تعلو الباب الكبير لدخول الكنيسة المحاذي للحبل الذي يجر الجرس. بينما جدتي، الشابة مادلين نيكتو، تنشد صحبة الفتيات، بجانب الفرقة الموسيقية. تذهب مادلين إلى مدرسة راهبات، فكنَّا سببا في زواجها. أجمعن بأن بيير بيرجي، فتى يتسم بالاستقامة وينشد جيدا. كان جدي متين البنية وقصيرا، منطويا على ذاته إلى حد ما، لكنه يبدو شابا وسيما، من وراء شارب حديث العهد. شاب جميل. ثم، حدث الزواج، لكن دون حكاية، مثلما جرى الشأن في تلك البلدة. فسواء بالنسبة لوالدي جدي، أو جدتي، انعدمت لدى الجميع أرض بإمكانها أن تساعد على استقرار وإعالة الثنائي الشاب. لذلك، ينبغي البحث عن وضعية أخرى في مكان ثان. نتحدث هنا عن فترة حكم جول فيري والحقبة الاستعمارية الفرنسية. جدي، المولود بجوار الغابات ويرفض مغادرة المكان، صار يحلم بمهنة حارس الغابات في مدغشقر! رفضت مادلين مقترحه. لأنها حددت أساسا قبل الزواج، شروطها المبدئية: "طيب، حارس غابة، لا مشكلة، لكن ليس بعيدا عن الجزائر، وإلا فلن أتزوجك أبدا"! تنازل جدي، كانت المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة. جدتي امرأة صعبة المراس، تعرف ما تريد، لكنها دائما هادئة ومتزنة على مستوى قراراتها وكذا أهدافها. لقد شكلت طيلة حياتها، عنصر توازن بالنسبة للثنائي.
هكذا هاجرت عائلة بيرجي صوب الجزائر ومارس جدي مهنة حارس غابة في جبال الجزائر الأكثر انزواء ووحشية، بحيث استعادت ذاكرتي أسماءها، لمَّا صارت سنوات الستينات، ملاجئ ومخابئ بعيدة ثم ساحات حرب للمقاومة الجزائرية.
استنزف جدي صحته جراء دورياته النهارية والليلية على ظهر جواد. أحبه العرب والبربر.تمثلت مهمته في حماية الغابات ضد قطيع الماعز الذي يتسلق الأشجار ويلتهم النباتات الصغيرة، لكن خاصة من أجل التصدي للنيران التي يمكنها أن تلتهم النباتات. أيضا أوكلت له مهمة شق الطرق في مواقع مرتفع صعب، ومراقبة الأشغال. ذات ليلة، غمر الثلج كل مرتفع الشريعة (ولاية البليدة)، ثم ذهب وحده سيرا على قدميه في الجبل لنجدة فريق سويدي مغامر تاه خلال رحلته. استطاع جدي، لا أحد يعلم كيف فعل، العثور على أعضاء الفريق واصطحابهم، بعد ثلاثة أيام مضنية، إلى المنزل الغابوي. هكذا، وُشِّح جراء صنيعه بوسام التفاني: ما زلت أحتفظ به.
خلال كل فترات جولاته ومهامِّه، تبقى جدتي وحيدة، نهارا وليلا، داخل المنزل الغابوي المنعزل وسط الغابات. أركز على هذه النقطة، التي ليست بلا أهمية. لقد وجدا نفسيهما دون تمهيد في ريف تقطنه إثنية مورفان، حيث تسود الألفة القروية التقليدية، وسط الغابات الجزائرية الأكثر انزواء ووحشة، هناك عاش جدي وجدتي زهاء أربعين سنة فعلا وحيدين، حتى مع إنجابهما بعد ذلك لابنتيهما. المجتمع الوحيد الذي أمكنهما الاستئناس به، يقتصر على مجتمع محلي للعرب والأمازيغ، مختلف تماما، وكذا قدوم غير منتظم ل''مدراء'' قطاع الأشجار والغابات الجزائرية، لإجراء مراقبة (مرة كل سنة) من بينهم المدعو السيد ''دو بيرينوف"، الذي خصَّه جدي دائما بحصان جميل وأصيل، يغذيه ويعتني به كي يبقى فقط رهن إشارة هذا الرجل. غير هذا، أستحضر بعض الزيارات النادرة جدا إلى بعض القرى القريبة أو المدن البعيدة. هذا كل ما في الأمر.
جدي، لا يلبث أبدا في مكان معين، دائما قلقا ومضطربا، معبرا عن سخطه باستمرار، لا يتوقف لحظة واحدة، دوما في سباق أو متأهبا. حينما يرحل، غالبا لأيام وليال عدة، تمكث جدتي وحيدة. لقد حدثتني غالبا عن عصيان مارغريت. تبقى وحيدة في البيت الغابوي مع ابنتيها وكذا الجماعات العربية المتأهبة مجازفة بالانتقال إلى الضواحي المجاورة، بالتالي توقع الأسوأ مع هيجانهم، لا سيما نحو الجماعات القادمة من جهة أخرى بعيدة جدا، رغم أن جدي وجدتي أحبَّا أهالي المنطقة. تقضي جدتي ليلة الخطر الأكبر، دون أن يرف لها جفن، بينما ترقد ابنتاها الصغيرتان (صارت إحداهما أمي) بجوارها دون خوف. لكنها ستحتفظ طيلة الليل ببندقية صيد جاهزة على ركبتيها. روت لي: رصاصتان في فوهة البندقية تحسبا لأي اعتداء على ابنتي، وثالثة من أجلي تطويها يدي. يستمر الوضع غاية الصباح. وقد شعرت بأن التمرد ابتعد عن محيطنا.
أستعيد هذه الذكرى- الشاشة التي سمعتها من جدتي، بعد انقضاء زمن بعيد، لأنها ظلت واحدة من أهوال طفولتي.
أحتفظ كذلك بأخرى، مصدرها دائما جدتي، ارتجفت لحظة سماعها. تعود وقائع الحادثة إلى فضاء منزل غابوي آخر، يوجد في جبل زكار،على مسافة بعيدة من البليدة، المدينة الأقرب إليه. أمي المستقبَلِيَة وأختها، تقريبا واحدة تبلغ ست سنوات والثانية في سن الرابعة، تلعبان وسط ساقية كبيرة ينساب فيها الماء سريعا ومتدفقا دون كابح بين ضفتين إسمنتيتين. أبعد قليلا، ينتهي المجرى في عمق بالوعة، فلا يعيد الكرَّة ثانية. لقد سقطت أمي المستقبَلِيَة وسط الماء، جرفها التيار وكادت أن تغرق وسط ذلك المصب، لو لم تسرع جدتي فتمكنت من إنقاذها في اللحظة الأخيرة ملتقطة إياها من ضفائر شعرها.
هكذا اكتشف رأسي وأنا طفل تهديدات الموت، عندما حكت لي جدتي هذه الحلقات المأساوية، المتعلقة بأمي شخصيا، وكذا احتمال موتها. ارتجفت لفترة طويلة، طبعا (على نحو مزدوج) كما لو أني تمنيت ذلك لاشعوريا.
لا أعرف، مع وضعية انعزالهما تلك، كيف استطاعت أمي المستقبَلِيَة التمكن من الدراسة وأختها الصغرى. أتصور بأن جدتي تدبَّرت الأمر. فجأة اندلعت الحرب. فورا، تعبَّأ جدي ثم مع نهاية خدمته سيعينه السيد دو بيريموف في منصب المنزل الغابوي الجميل لغابة "بوا دي بولونيا" التي تطل على الجزائر العاصمة. مكان أكثر ألفة، والعمل أقل مشقة. تواجدت المدينة على بعد خمسة عشر كم، لكن يتحتم قطع مسافة أربع كيلومترات مشيا من أجل الوصول إلى الترامواي (محطة لاكولون-فوارول) قصد الانتقال إلى الساحة الحكومية، وسط المدينة، قريبا جدا من باب الواد، حيث صخب أزقة تعج بأطفال بيض (فرنسيين، إسبانيين، مالطيين، لبنانيين، وآخرين من البحر الأبيض المتوسط، يتكلمون "رطانة"). لكن جدي وجدتي لا يذهبان قط إلى المدينة، سوى خلال حالات نادرة. واحدة من الأختين، تعرفت في مكاتب الغابات المحلية،على موظف صغير، اسمه ألتوسير، ثم زواجهما فيما بعد وإنجاب طفلين، الأكبر شارل ثم لوي.
بدوره انتمى أبي إلى عائلة مهاجرين جدد! لم أعرف الجد من جهة أبي، لكن الجدة نعم، إنها امرأة رائعة وغير لينة في نفس الوقت كمقبض معول، تتحدث بصرامة وصاحبة مزاج حاد. لم ألتقيها إلا نادرا، وأحبها أبي قليلا،على قدر المشاعر التي أضمرتْها إليه بل ونحونا جميعا.
أستحضر مرة أخرى، ذكرى جارحة، اختارت عائلة أبي سنة 1871، فرنسا بعد حرب نابليون الثالث وبسمارك، ومثل أغلب ساكنة الألزاس الذين فضلوا البقاء فرنسيين، تمَّ "إبعادهم" فعليا نحو الجزائر من طرف حكومة تلك الحقبة.
ما إن انتقل بيرجي (جدي من جهة أمي) إلى غابة ''بوا دي بولونيا''، شرعت لوسيان (أمي مستقبلا) رفقة أختها الصغيرة جولييت، في التردد على مدرسة ''لاكولون-فوارول''. كانت أمي تلميذة نموذجية، حكيمة، فاضلة بكيفية استثنائية، وأيضا مهذبة اتجاه أساتذتها مثلما الشأن مع والدتها. في المقابل، تميزت خالتي بكونها العنصر الوحيد النزويّ داخل الأسرة، الرب وحده يعلم علَّة ذلك.
تلتقي عائلتي أبي وأمي، من وقت لآخر، أحيانا يوم الأحد، ''تشد الرحيل"عائلة أبي نحو البيت الغابوي، وفي سياق ذلك يكبر أبناؤهم ويحدث الانسجام قياسا للأعمار (الفتيات أكثر صغرا من الذكور، جزئية سندرك فيما بعد أهميتها) ثم توافق الآباء على زواجهم.
لا أعرف قط سبب زواج لوي، الأصغر، بلوسيان، ثم شارل أخيه الأكبر مع جولييت. أو بالأحرى أدرك جيدا: من أجل احترام علاقات التفاهم التي تجلت حينئذ فورا وفرضت. كان لوي تلميذا جيدا،عاقلا جدا وفي غاية الصفاء، يحب الأدب والشعر، انكب على التهيؤ لمباراة الدخول إلى المدرسة العليا سان كلود. في حين، أخيه الأكبر شارل (أبي)، ما إن حصل على شهادة دراسية حتى أرغمته والدته (جدتي) كي يشتغل ساعيا في إحدى البنوك: لم يكن من حق والده (جدي) إبداء رأيه. في نفس الوقت، انعدمت لديه الموارد الكافية حتى يسدد المصاريف الدراسية لابنيه معا، إضافة إلى كره جدتي لابنها شارل. وحينما أجبرته على العمل، لم يكن عمر يتجاوز الثالثة عشر.
أحتفظ بذكريات عن هذه الجدة غريبة الأطوار. الأولى، بالأحرى مضحكة لكنها مفعمة بالمعنى، تتعلق بأبي الذي أخبرني باستمرار عن حادثة فاشودة. فعند الإعلان عن تهديد اندلاع حربين بين فرنسا وانجلترا نتيجة صراع بينهما على النفوذ في إفريقيا، لم تتردد جدتي مع بداية تداول الخبر، في إرغام أبي كي يركض ويشتري حالا عشرين كيلوغراما من السكر وثلاثين كيلوغراما من الفاصوليا الجافة، التي تعتبر وجبة جيدة فترة المجاعة، يتم تخزينها بعد تنقيتها من حشرة السوس وتُتناول كاللحم. لقد فكرت باستمرار في هذه الفاصوليا الجافة منذ عرفت بأنها تشكل أساس التغذية لدى شعوب البلدان الفقيرة في أمريكا اللاتينية، وعشقت دائما التهام أطباق (مصدر ذلك جدي لأمي في منطقة مورفان)، تلك الفاصوليا الحمراء الإيطالية التي قدمتُ منها طبقا إلى فرانكا، الشابة الصقلية الرائعة التي عشقتها جدا، بعد ذلك، بكل جوارحي، بينما هي أمسكت عن الاعتراف، كي تبقيه بين طيات قلبها.
مرة أخرى، أتحدث عن ذكرى تخصني (ليست مضحكة تماما هذه المرة) أرى الجدة الفظيعة داخل شقة تطل على شارع في الجزائر العاصمة يحاذي شاطئ البحر، حيث تجري مراسيم العرض العسكري الكبير ليوم 14 يوليو تحت أشعة شمس حارقة، وتزين الرايات الفرنسية مختلف السفن الراسية في الميناء. لا أعرف دواعي اختيارنا ذلك المنزل الموحي بأننا أغنياء جدا مقارنة مع واقع الحال. بعد انتهاء استعراض الوحدات العسكرية، بادرت الجدة التي أشمئز من تقبيلها، ما دام هذه المرأة/الرجل، قد أنبتت شاربا تحت أنفها وشَعْرا يملأ كل مساحة وجهها،"يلدغ''، ولا يقدم ملمحا ظريفا، بما في ذلك ابتسامة، فسحبت من زاوية مظلمة مضرب تنس متآكل (هكذا بدأت ألعب التنس داخل الأسرة): شكل ذلك هدية بالنسبة إلي. لم أكن ألاحظ سوى تيبَّس مقبض جدتي وأيضا ترهل مقبض مضرب رديء، أمسكه بين أصابعي. بالتأكيد، اكتسحتني حينئذ فقط مشاعر الاشمئزاز. فلا يمكنني تحمل النساء/الرجال العاجزات عن إبداء أبسط حركة للحب والعطاء.
اندلعت الحرب. أحست أمي بأنها في وضعية أفضل صحبة لوي (ما زالت مراهقة أو تقريبا، حينما التقته، تبلغ سن السادسة عشر، ولم تعرف قبله أي رجل، ولو من باب الصداقة). انصب اهتمامها مثله على الدراسات وكل ما يحتضنه أساسا الرأس، دون اكتراث بالجسد، في إطار منظومة تعليمية وكذا حماية أساتذة جيدين مفعمين بالفضيلة واليقين. على أي أساس يتفاهمان في العمق. حكيمان وصادقان- لاسيما الصفة الأخيرة- بحيث يعيش الواحد مثل الآخر، ضمن نفس عالم التنظيرات وكذا الرؤى الروحية، دون أي انشغال بالجسد، هذا "الشيء'' المحفوف بالمخاطر، فأصبحا سريعين متفقين بخصوص تبادل شغفهما الذاتي وكذا أحلامهما المتسامية عن الأبعاد المادية. فيما بعد، اقتضى المقام التصريح أمام صديق، ونحن بصدد التطرق إلى الموضوع، الجملة التالية:"تكمن المشكلة في حضور الأجساد، بل الأسوأ أيضا، خاصيات جنسية".
اعتبر أفراد العائلة، بأن لوسيان ولوي في وضعية خطوبة، ستصير قريبا رسمية. غادر شارل ولوي صوب جبهة الحرب، التحق الأول بوحدات المدفعية، بينما انضم لوي إلى سلاح الطيران، ومن موقعه تبادل وأمي رسائل لا نهائية شفافة. دائما، أثارت فضولي حزمة رسائل، بقيت في حوزة أمي. بين الفينة والأخرى، يعود الأخوان معا أو تناوبا، لقضاء إجازة. يُظْهر أبي للجميع، واقفا أمام الجميع، صور مدافعه العملاقة بعيدة المدى.
ذات يوم، تقريبا بداية سنة 1917، رجع أبي وحده إلى البيت الغابوي في "دي بولونيا''، وأخبر عائلة بيرجي (جدي) بوفاة أخيه لوي لحظة تحليقه بطائرة في سماء مدينة فيردان، خلال مهمة استطلاعية. ثم أمسك شارل بيد أمي واستدرجها نحو جانب من الحديقة الكبيرة، مقترحا عليها في نهاية المطاف (معطيات روتها لي خالتي جولييت مرات عدة) "أن يشغل لديها المكانة التي حظي بها لوي قبل موته''. كانت أمي جميلة، شابة وجذابة، وأبي أحب حقا أخيه لوي. حتما فقد أضفى على حديثه كل الرقة الممكنة. بالتأكيد، حزنت أمي حين سماعها خبر وفاة لوي، الذي عشقته بعمق على طريقتها، ثم ترددت واضطربت بعد سماعها اقتراح شارل المفاجئ. لكنها امتثلت، بعد ذلك، لأنها مسألة لن تتجاوز في نهاية المطاف، نطاق العائلة، العائلات، وسيتفق الآباء رغم كل شيء. هكذا كانت ومثلما عرفتها، حكيمة، عفيفة، مطيعة، محترمة، دون أفكار أخرى تخصها سوى التي تبادلتها مع لوي.
جرت مراسيم الزواج في الكنيسة شهر فبراير 1918، بمناسبة إجازة لشارل. وقبل سنة عن هذا الموعد، أصبحت أمي معلِّمة في مدرسة ابتدائية بالعاصمة الجزائرية، قريبة من منتزه"دوغالون"، حيث تعرفت هناك بدل لوي، على رجال آخرين أصغت باهتمام لأحاديثهم، وانسجمت معهم ضمن سياق حوارات تتعلق بموضوعات محض نظرية: إنهم أساتذة الحقبة العظيمة، أصحاب ضمائر، يستشعرون ثقل المسؤولية بخصوص مهنتهم ورسالتهم، فاقت أعمارهم سنها كثيرا (بعضهم في مقام أبيها)، مع ذلك احترموا تلك الفتاة الشابة غاية أقصى حد. إذن، تآلفت للمرة الأولى، مع عالم يناسبها، جعلها اكتشافه في غاية السعادة، فارتبطت بأجوائه لكن دائما داخل فضاء المدرسة. رجع أبي ذات يوم من الجبهة، وتم الزواج.
أخفت عني أمي دائما تفاصيل زواجها المريع، لا أحتفظ طبعا شخصيا بأي ذكرى، لولا بعض الروايات، التي التقطتها مع مرور الأيام، بين الفينة والأخرى، من لسان خالتي الأخت الصغرى لأمي. أذهلتني جدا تلك الحكايات المتأخرة، حتما ليس بدون مبرر: اقتضت أن أضفي عليها رعبا خاصا بي حتى أدرجها ضمن السلالة الرتيبة لصدمات عاطفية أخرى من نفس الخاصية ومنطوية على ذات العنف. سنقف عليها قريبا.
مر الاحتفال، قضى أبي أياما قليلة صحبة أمي، قبل رجوعه ثانية إلى الجبهة. يبدو أن أمي، احتفظت من المرحلة، بذكرى فظيعة ثلاثية الأبعاد: اغتصبت جسديا جراء العنف الجنسي لزوجها، ثم أن يختلس منها أثناء ليلة فاخرة، كل مدخرات الفتاة الشابة (التي لم تستوعب بأن أبي، سيعود إلى الجبهة، ربما الرب وحده يدرك هل سيبقى حيا هناك أم لا؟ فقد كان أيضا شخصا شبقا جدا،عاش مغامرات قبل التقائه أمي، مع صبيان – ياللهول !– بل وعشيقة تسمى لويز، سرعان ما تخلى عنها دون رجعة ولا مجرد إشارة واحدة بعد زواجه، شابة مسكينة غامضة أخبرتني عنها خالتي، واعتُبرت شخصية لا ينبغي لأي أحد التلفظ باسمها وسط العائلة). ولكي يضع أبي نهاية لمختلف ما سبق، قرر دون رجعة تخلي أمي فورا عن مهنتها كمدرِّسة، بالتالي مغادرة عالمها المفضل، لأنه سيكون لها أطفال، مما يرغمها على حضورها الدائم داخل المنزل.
عاد أبي ثانية إلى الجبهة، تاركا أمي في حالة هيجان، فقد سرقت واغتصبت، ثم ها هي ممزقة في جسدها، جُرِّدت من بعض النقود التي ادخرتها بأناة ( للاحتراز، بحيث يتداخل هنا الجنس والمال، بكيفية تامة)، وانفصلت كليا عن حياة أحبتها واستأنست بها. إن كشفتُ هذه التفاصيل، فلأنها لعبت حتما دورا بخصوص تشكيل وتكريس صورة داخل لاوعي "فكري"، تعكس أُمَّا شهيدة مضرجة بالدماء مثل جرح. هذه الأم المقترنة بذكريات (عرفتها تِباعا فيما بعد)، حلقات تهديد مبكر للموت (نجت منه بأعجوبة)، ثم صارت تلك الأم المكابدة، المنقطعة لألم ظاهر ومفعم باللوم، تألمت كثيرا في منزلها من طرف زوجها نفسه، فأضحت جل الجروح ممكنة: مازوشية وأيضا سادية جدا في خضم ذلك، سواء نحو أبي الذي احتل مكان لوي (بالتالي يعكس موته)، أو بالنسبة لعلاقتها بي (حتما تضمر رغبة موتي، كما حدث مع لوي، الذي عشقته ثم مات).
حيال هذا الرعب المؤلم، اقتضى الوضع دائما إحساسي بمعاناة نفسية هائلة بلا منتهى، واضطراري لأكرس إليها ذاتي جسدا وروحا، ثم أمضي بنوع من الإيثار نحو نجدتها، حتى أنقذ نفسي من شعور بالذنب يطاردني وأخلصها من معاناتها وزوجها، قناعة مترسخة لدي آمنت معها، بأن ذلك يشكل أساس مهمتي المقدسة والمبرر المثالي لانتمائي إلى هذا العالم.
فضلا عن ما تقدم، ستجد أمي نفسها بسبب زوجها، حبيسة عزلة جديدة، تتقاسمها فقط معي، دون أي ملاذ ثان.
عندما ولدت، لقبوني ب لوي(Luis). اسم استوعبتُ دلالته بما يكفي. استمر أمدا طويل يبعث رغبة تثير الفزع. أجده مقتضبا جدا، يتضمن حرف علة واحد، والأخير (i) ينتهي بنغمة مرتفعة تؤلمني (ثم الهواجس المتأتية من صورة الخازوق). أيضا، يتحدث بالتأكيد كثيرا بدلا عني: نعم (oui)، وأنتفض ضد ''نعم'' التي كانت بمثابة تلبية لرغبة أمي، وليست قناعة شخصية. ثم يعني خاصة: لوي (Lui)، هذا الاسم المحيل على ضمير الغائب، والذي يرن وقعه كنداء على ثالث مجهول، يجردني من كل ذاتية خاصة بي، مستحضرا ذاك الشخص المتواري خلف ظهر: يبقى لوي، تجسيدا لعمي، الرجل الذي عشقته أمي، وليس أنا.
اسم أراده أبي، رثاء لأخيه لوي الذي قتل على متن طائرته في سماء فيردان،لكن خاصة تشبثت به أمي، حتى يستمر حضور لوي(عمي) في قلب ذاكرتها،الرجل الذي أحبته، ولم تتوقف عن ذلك طيلة حياتها.
المصدر:
لوي ألتوسير: يدوم المستقبل طويلا، منشورات ستوك، 1992،ص:34 / 26
http://saidboukhlet.comHYPERLINK "http://saidboukhlet.com/"/