ما أن فاز ترامب في الانتخابات الأمريكية حتى أخذ يترجم مواقفه المنحازة للمشروع الصهيوني، ويتنكر لحقوق الفلسطينين والعرب مسلمين ومسيحيين. بدأت هذه الإجراءات بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ومن ثم الاعتراف بضم اسرائيل لهضبة الجولان السورية، ثم جاء تصريح وزير خارجيته "بومبيو" بأن المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية لا تتعارض مع القانون الدولي، وكان كل ذلك تمهيداً لإعلانه عن خطته المسماة بصفقة القرن، وقد جاء هذا الإعلان لترامب في مؤتمره الصحفي المشترك مع نتنياهو من خلال صفقته كإعلان للحرب على الشعب الفلسطيني والأمة العربية، حيث اتضح بأنها عبارة عن إملاءات مجحفة ومهينة تتنكر للقوانين والاتفاقيات الدولية، كما تتنكر لأبسط حقوق الإنسان، فقد أعطت الصفقة كل ما تبقى من فلسطين للإسرائيليين(القدس والأغوار والمستوطنات ومناطق أخرى استراتيجية)، وأبقت الفلسطينين في مناطق معزولة متناثرة تربطها جحور وأنفاق مع سيطرة إسرائيلية على الأمن والمياه والغلاف الجوي والمعابر، بل ولها السيادة الكاملة على الفلسطينين في دولتهم المزعومة والتي لا تشكل نصف مساحة الضفة الغربية، بالإضافة لما تضمنته من إمعان في إهانة الفلسطينين بمطالبتهم بضرورة الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية، وهذا يعني مشاركة الفلسطينين في تشييع جنازة تاريخهم وهويتهم وتراثهم.
إن خطة ترامب ليست اعتداءاً على حقوق الفلسطينين والعرب فحسب، بل تعكس الاستخفاف الكبير بالأسرة الدولية وقرارات الأمم المتحدة التي من رحمها ولدت دولة إسرائيل، وقد شكل الانحياز الأمريكي للمشروع الصهيوني والذي تجلي في صفقة القرن تجاوزاً لأحلام بعض الأحزاب الإسرائيلية، حيث اعتبر بعض الإسرائيليين أن هذه الصفقة لا تؤسس للسلام في المنطقة، بل ستؤدي إلى نظام عنصري ومزيد من الحروب و سفك الدماء للأجيال القادمة.
ولعل ما لم يدركه بعض ممثلي الدول - الذين صفقوا لترامب أثناء عرضه لما جاء في الصفقة- هو أن نجاح هذه الخطة هو بداية لتنفيذ خطة أكبر وأوسع ستطال بلدانهم لا محالة، وستؤدي لتقسيمها على أساس طائفي أو تحت أية حجج أخرى انسجاماً مع الفوضى الخلاقة التي تؤسس لسايكس بيكو جديدة، والتي بدأت مع انتهاء الحرب الباردة والعدوان الأمريكي على العراق 1991، ومما لا شك فيه أن هذه الخطة الأمريكية ما كان لها أن تكون لو أدرك العرب المخاطر التي تواجههم، ووعوا مخاطر وجود المشروع الصهيوني في قلب منطقتهم.
ولعل الرئيس ترامب اعتقد بأن خطته ومؤامرته قدر على الشعب الفلسطيني، وخيل له بأن الشعب الفلسطيني الذي تعرض منذ وعد بلفور 1917 حتى اليوم لأبشع المؤامرات والقتل والتشريد قد أصابه الوهن واليأس والإحباط، وليس أمامه سوى الاستسلام والقبول بالأمر الواقع، بل والعيش على هامش الأمم، لكن ما لا يعلمه ترامب هو أن النكبة وما سبقها وما تلاها من مؤامرات عديدة قد نحتت في حياة الفلسطينيين الإرادة والصلابة والعزيمة القوية وروح التحدي والتضحية، ما مكنهم من القتال والمواجهة بكل شجاعة وبسالة وقهر للاحتلال الإسرائيلي رغم كل أشكال الدعم الأمريكي، واستطاع هذا الشعب الفلسطيني الجبار الذي يتنكر ترامب لحقوقه- ورغم ما لحق به من نكبات- الحفاظ على هويته وتاريخه واستعادة كيانيته بل وساهم في بناء الحضارة الإنسانية علمياً وثقافياً، الأمر الذي نال إعجاب العالم ومؤسساته الدولية.
إن هذا الشعب ذو تاريخ طويل وجذوره ضاربة في أعماق التاريخ، ليس شعباً ينسج له تاريخاً قائماً على الأساطير والخرافات، وإذا توهمت إسرائيل بأنها استطاعت ترويض الفلسطينين بعد اتفاق أوسلو، وخدعتهم بمساعدة الولايات المتحدة على مفاوضات عبثية لا طائل منها، عليها أن تدرك بأن هذا الإتفاق وبنوده لن يبقى يحكم العلاقة بينها وبين الفلسطينين، فما أقدم عليه ترامب بكل غطرسة سيؤدي حتماً إلى مراجعات لدى الفلسطينين ستؤدي لتغيير في المفاهيم التي سادت خلال مرحلة ما بعد اتفاق أوسلو.
لقد أدرك الشعب الفلسطيني وقيادته وفصائله الوطنية والإسلامية قبل غيرهم بأن هذه الصفقة ما كان لها أن تكون لو لم يكن هناك انقساماً وتشظياً في الساحة الفلسطينية، وعليه توجه الرئيس محمود عباس في كلمته التي أعقبت الإعلان عن الصفقة بضرورة إنهاء الانقسام فوراً وتجاوز الصغائر، واستعادة الوحدة الوطنية، هذه الوحدة التي يجب إعادة صياغتها على أسس ثابتة وفق برنامج سياسي واضح ومتفق عليه، وخطة لبناء المؤسسات الوطنية وإعادة الاعتبار للنظام السياسي الفلسطيني وفصل السلطات، مما سيؤدي إلى استعادة ثقة الشعب بتوجهات قيادته وفصائله، الأمر الذي يعزز من دور شعبنا وانخراطه بكل أطيافه للمشاركة في المقاومة الشعبية الذى يجب ألا تتوقف، فبقدر ما تكون صلابة الموقف الفلسطيني المدعوم بموقف شعبي قوي تكون الإنجازات.
إن ثبات الموقف الفلسطيني المدعوم شعبياً يمنع التدخلات التي تثير الريبة في الشأن الفلسطيني، وتدفع بالعرب للوقوف عند مسؤولياتهم القومية تجاه فلسطين، وإعادة تبني مبادرة السلام العربية باعتبارها مرجعية لعملية السلام القائمة على قرارات الشرعية الدولية، والتنويه لذاك ضرورياً بعدما رأينا وبكل أسف بعض المواقف العربية الرسمية التي تؤيد خطة ترامب باعتبارها فرصة للسلام، مما يضعف الموقف الفلسطيني ويساهم في ضياع فلسطين والمسجد الأقصى، كما يتوجب على القوى والنخب الفلسطينية التحرك باتجاه المثقفين والنقابات والأحزاب العربية لإحياء جبهة المساندة العربية والتي تشكلت بعد حرب حزيران كي تكون داعماً ومسانداً للقضية الفلسطينية، وتشكل مانعاً قوياً في وجه النظام العربي الرسمي الذي يحاول الانجرار وراء السياسة الأمريكية ويهرول باتجاه التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، هذا إضافة إلى التحرك على الساحة الدولية لأجل الاعتراف بدولة فلسطين كاملة العضوية في الأمم المتحدة.
إن هذه المؤامرة وتداعياتها تتطلب من الفلسطينين التحرك السريع واتخاذ خطوات عملية تمنع الاحتلال من السيطرة على الأرض لاسيما الأغوار والقدس، وترتيب أوضاعهم الداخلية قبل فوات الآوان وإلا فقطار التآمر لن يتوقف.