من الناحية القانونية لا تعني صفقة القرن شيئا، فهي تشكل اعتراف دولة (الولايات المتحدة الأمريكية) بالشكل الذي سيكون عليه شكل كيان آخر (الكيان الاستعماري الصهيوني) مستقبلا، فتحدد له عاصمته وحدوده، فلا الولايات المتحدة تملك الحق في رسم أي صورة خارج حدودها ولا تملك الحق في إلحاق أراض إضافية لهذا الكيان، هذا واضح حتى بلغة القانون الدولي.
لكن، ولغياب القانون الدولي عن الصورة أصلا، ولأن القانون هو قانون القوي؛ ستقوم "دولة المركز" الاستعماري بفرض إرادتها وقنونة هذه الإرادة بحيث تصبح قانونا ملزما للعالم. ألم يكن هذا هو الحال مع وعد بلفور؟ فلا بريطانيا تملك ولا الكيان يستحق، ومع ذلك أصبح وعد بلفور متضمنا بصك الانتداب البريطاني على فلسطين الذي صدر باسم عصبة الأمم حينها، وأصبح شكله القانوني يعني أن بريطانيا أصبحت "ملزمة" بحكم صك الانتداب بالعمل على إنشاء ما يسمى بـ "وطن قومي لليهود في فلسطين"، وهذا ما تم. بمعنى ما، فما يتم هو تمديد للإرادة الاستعمارية في ساحة القانون لتصبح هذه الإرادة قانونا! الأمثلة كثيرة على ذلك ومنها أن اتفاقية سايكس- بيكو بما تمثله من تلاقي إرادات استعمارية قد قسمت الوطن العربي إلى دويلات لا تزال حتى وقتنا هذا ومضى عليها ما يزيد عن المئة عام، وقد أصبحت هذه الدويلات أعضاء بالأمم المتحدة ودولا معترف بها!
من سخرية الأقدار، أن الوطن العربي لم يتحسن وضعه طوال المئة عام التي خلت، فبرغم بعض التقدم الذي حصل في بعض البلدان وبرغم استقلال الدول العربية اسما، إلا أن مجمل الوضع العربي قد سجل قهقرياً مدويا ملغياً لكافة الإنجازات التي حققتها الحقبة الناصرية وما تلاها، فقبل مئة عام كانت المنطقة العربية ترزح تحت الاستعمار البريطاني والفرنسي والطلياني، وكان الملك عبد العزيز ابن سعود من يتحدث باسم العرب والمسلمين، فقد وافق على خطة بريطانيا بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، اليوم، يعيد الزمن نفسه، فبعد تحطيم كل القوى العربية التي كان يمكن لها قيادة الشأن العربي، العراق، سوريا، مصر، الجزائر، وحتى الدول التي كان يمكن لها أن تعيق مثل ليبيا واليمن، أصبحت البيئة مؤاتية للرهان
على السعودية لإعادة دورها في تسهيل الوعد الجديد، وليبارك وعد ترمب، وليوظف قوة المال العربي ضد المصلحة العربية.
إن بوادر توظيف قوة الولايات المتحدة المكثف بغرض قنونة الوعد بانت في أكثر من مناسبة، فترمب وكوشنير يقومان بالاتصال شخصيا بزعماء دول العالم للضغط عليهم في سبيل عدم التصويت لصالح حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، وهو بالمناسبة من أهم قرارات الأمم المتحدة على الإطلاق، هذا لأن هذا القرار يلغي مسبقا أي تنازل أو بيع أو تجاهل للحقوق الفلسطينية على امتداد الزمن وموازين القوى المتغيرة. وبالطبع قاموا بالتدخل مرارا ولا يزالون لتثبيت وضع الكيان وإطلاق يده في فلسطين.
لكن، بالمقابل، فإن العالم ليس هو نفسه الذي كان في حقبة وعد بلفور، والشعب العربي - ومن ضمنه الفلسطيني - ليس نفس الشعب الذي كان، والإعلام ليس نفسه، وعلى الشعب أن يتأنى قبل إقدامه على أي خطوة، وعليه أن يعيد النظر في عداوات ليس لها معنى مع دول وشعوب إسلامية وغير إسلامية، بمعنى توسيع دائرة الأصدقاء وتضييق دائرة الأعداء؛ ليس لنا أي مصلحة بالتحريض على الصين بحجة الإيغور ولا إيران بحجة المذهب، لا يمكننا أن نحيل وعد ترمب إلى مجرد ورق وحبر اذا ناصبنا العالم العداء، وليس أقل أهمية من ذلك، علينا أن نحترم قوة الشعب والإرادة الشعبية وقوة الأمة العربية؛ بالطبع ان عدم مناصبة الدول الصديقة العداء لا تعني استمرار مجاملة أي بلد أو زعيم عربي يبدي تساوقا مع وعد ترمب، فهم يحيون بهذه المجاملة وهذا السكوت، ويفشلون عندما يهب الشعب العربي بتحريض من الشعب الفلسطيني هاتفا ضد هذا النظام أو ذاك الملك أو الزعيم، إن عزل هذا النظام كنظام عار وككيان معاد للأمة وتطلعها للنهضة أصبح من أولى أولويات العرب والفلسطينيين كضرورة للإطاحة بصفقة ترمب وبداية للبعث العربي، وعلى الشعب الفلسطيني والعربي أن يفعل كل شيء في سبيل منعه من الانخراط بهذه المؤامرة الدنيئة.
واخيراً، فإن المتشابه الآخر بين وعدي بلفور وترمب هو أن شرط النجاح لهما كان دائما ضرورة تهميش قضية الشعب الفلسطيني واختلاق اولويات أخرى للمنطقة وللعالم ليتراجع اهتمام العالم بها، وقد بات واضحاً الآن للجميع أن استعداء إيران تحت أي ستار كان، سيُفهَم على انه ترويج لوعد ترمب، لأن الحوار بقصد استعداء إيران يعني بالضرورة أن العدو ليس إسرائيل، وأن القضية الفلسطينية ليست هي الأولوية، على شعبنا وأمتنا أن يُفهِموا(بضم الياء وكسر الهاء) العالم أن قضية الشعب الفلسطيني ليست هامشية، وأنها قادرة على الحضور المضاعف والخطير اذا لم يحصل شعبنا على حقوقه كاملة.
سيكون من المفيد فيما لو فكرت القيادة الفلسطينية بتقديم مبادرة مضادة لوعد ترمب، يقوم بموجبها المجلس الوطني الفلسطيني بحل الحكومة الفلسطينية فوراً، والإعلان عن أن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير هي الحكومة المؤقتة لدولة فلسطين، ويكون هذا القرار استناداً لقرار 67/19 الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة. ومن الآن فصاعداً، فقد زودنا ترمب بغبائه بمادة هامة وهي أنه يمكننا الطلب من مجلس الأمن استبعاد الولايات المتحدة من أي نقاش يخص القضية الفلسطينية ومن الحق في التصويت على القرارات المتعلقة بها بحكم كونها طرفاً في النزاع بعد اعترافها بالقدس عاصمة ل"إسرائيل" ونقل سفارتها اليها، واتخاذها مواقف واجراءات عملية من خلال وعد ترمب من شأنها إضعاف الإرادة الدولية ومقاربتها لحل الصراع، هذا سيكون طلباً مشروعاً كون قرار التقسيم قد نص على وضع القدس تحت وضع دولي خاص ( Corpus Separatum) وطالب جميع الدول بالامتناع عن اي عمل مخالف لنصوص القرار، بالإضافة لقرارات الأمم المتحدة مجتمعة والتي تخالفها صفقة ترمب بشكل سافر.
سيكون من المفهوم سياسياً وقانونياً، أن الحكومة المؤقتة ستكون مرجعيتها قرار التقسيم خلافاً لسلطة مرجعيتها أوسلو والقانون الأساسي. بالطبع، يتطلب الأمر منظومة من الإجراءات لتثبيت وضع الحكومة المؤقتة مكان السلطة، وبالتأكيد سيتم تغطية هذا الانتقال عبر منظومة من التشريعات التي تحدد ولاية الحكومة المؤقتة وطريقة عملها ومرجعياتها.
في الحالة هذه، نكون قد أسسنا لحقبة الانتقال السلس من حالة قانونية تم تحديدها عبر اتفاقية ثنائية (أوسلو) إلى أخرى تم تحديدها من خلال قرار دولي، وبذات الوقت نقدم بديلاً محرجا للعالم مقابل وعد ترامب، وهذا الأمر بحاجة للتغطية بقرار دولي، والأخير سيكون الغطاء القانوني لمنظومة التشريعات ومسألتي الولاية القانونية والمرجعية القانونية لعمل الحكومة المؤقتة.
لحسن الحظ، يمكن الاعتماد على ما جاء في ديباجة القرار رقم A/RES/67/19 الذي نص على ترقية مكانة فلسطين من كيان غير عضو الى دولة غير عضو في الأمم المتحدة، حيث جاء في الديباجة "أن الجمعية العمومية، إذ تضع في اعتبارها ان اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أنيطت بها، وفقاً لقرار المجلس الوطني الفلسطيني، سلطات ومسؤوليات الحكومة المؤقتة لدولة فلسطين (A/43/928 )...؛ وكما جاء في الديباجة: " وإذ تشير (الجمعية العمومية) الى قرارها 181 (د2) المؤرخ 29/تشرين الثاني/ نوفمبر 1947....".
يوفر هذا القرار الغطاء الأولي لقرار تاريخي يتخذه المجلس الوطني عبر الإعلان عن استعداد الطرف العربي للوفاء بالالتزامات التي نص عليها قرار التقسيم، وعطفاَ على ذلك يصار لقصر الصفات/الحالات القانونية للأجسام التمثيلية الفلسطينية على جسمين فقط هما منظمة التحرير كإطار واسع لتمثيل الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، والحكومة المؤقتة للدولة العربية في فلسطين، وبهذا يصبح هذين الجسمين جزءاً من التزام دولي للشعب الفلسطيني، ويتم خلال الفترة وضع تعريف للوضع القانوني للسلطة الفلسطينية وأجهزتها ومؤسساتها عبر إعلانها وتصنيفها على أنها جهاز تنفيذي للحكومة المؤقتة داخل الوطن، ويتم إلغاء صلاحيات جميع الوزراء ومنح صلاحياتهم لأعضاء اللجنة التنفيذية الذين يشكلون الحكومة المؤقتة، والذين تشمل صلاحياتهم جميع الملفات الخاصة بالشعب العربي الفلسطيني في الوطن والشتات، أما المجلس التشريعي فيتم حله بسبب تبدل الحالة القانونية التي كان يمثلها كمشرع لسلطة الحكم الذاتي (يشار هنا الى القرار القاضي بحل المجلس التشريعي الحالي الصادر بتاريخ 22/12/2018 ، بينما هنا نشير في هذه الورقة الى إنهاء وجود المجلس التشريعي نهائياً)، التي لم تعد قائمة حيث وافق العالم بقرار دولي على منح صفة الدولة للكيان الفلسطيني بولاية قانونية مستحقة جديدة ومختلفة مما يوجب عملية الاستبدال.(ملاحظة: حل المجلس التشريعي يتعلق بإنهاء الشخصية القانونية لهذا الجسم، ولكن ذلك لا يمنع من بقاء أعضائه أعضاءً في المجلس الوطني ، وهنا تصبح مكانتهم الدستورية مشتقة من عضويتهم بالمجلس الوطني لا غير).
أرى أن يتم هذا التحول بخطى منسقة يواكبها حالة اشتباك دبلوماسي خارجي توحد الشعب الفلسطيني، يشعر الشعب من خلالها أنه بصدد إضافة قيمة حقيقية على نضاله وحضوره وحضور قضيته؛ بحيث يرتبط الوضعان الداخلي والخارجي بمرشد نظري واحد يعنون المرحلة المقبلة، وفق خطة تتناغم فيها التغييرات الداخلية مع الخطاب السياسي العام للشعب، سيكون المفهوم الرئيسي المهيمن على الخطة ومحتوياتها هو نقل قرار التقسيم (قرار الجمعية العمومية رقم 181 لعام 1947) من حالة التقادم والتجاهل الى أفاق الإعمال و التطبيق. نقول قرار التقسيم كونه القرار الوحيد الذي أعطى شهادة الميلاد لإنشاء اسرائيل بينما احتوى على نفس الشهادة لقيام دولة عربية لم تنشأ بعد. من المهم الإشارة الى ان القرار رقم (273) بتاريخ 1/5/ 1949 القاضي بقبول اسرائيل عضوا في الأمم المتحدة هو قرار مبني على القرار 181.
المقصود من هذه الخطوة هو تغيير الصفة القانونية التي يتسم بها الجسم التمثيلي الفلسطيني تغييراً حقيقياً على الأرض، ومن ثم التوجه للمحكمة الدولية والحصول على قرارات منها بحيث تشكل هذه القرارات إعمالاً وتطبيقاً للقرار 181، ويمكن البدء بقضيتين حيويتين بعد الحصول على قرار بأن قرار التقسيم هو قراراً واجب النفاذ بموجب القانون الدولي، وهما قضيتي غاز المتوسط وأرصدة الجنيه الفلسطيني، وهذا بحد ذاته سابقة ستجبر إسرائيل على التفاوض مع فلسطين بخصوص استخراج الغاز وإلا فمن الممكن متابعة الأمر قانونيا لعمل حظر على الغاز المستخرج والدولة المنتجة. ملاحظة: يدور الحديث عن حقلين عملاقين – على الأقل- الأول يحتوي على 9 ترليون متر مكعب "حقل تمار" والثاني يحتوي على 16 ترليون متر مكعب "حقل ليفياثان" وتعززا باكتشافات أخرى أكثر أهمية ستحدد على نحو استراتيجي موقع الكيان الاسرائيلي في معادلة الطاقة الدولية. (لقد ثبت بأن مواقع الغاز الطبيعي في المتوسط تعود للدولة العربية حسب قرار التقسيم كونه يقع داخل حدود "المياه الاقتصادية البحرية" للدولة العربية في فلسطين التي تعرفها اتفاقية أعالي البحار بأنها تمتد لمسافة 200 ميل بحري عن شاطىء الدولة المعنية).
هناك قضية أخرى بنفس الأهمية يمكن رفعها لدى المحكمة الدولية وهي حقوق فلسطين في الأموال المنقولة وغير المنقولة التي كانت تحت إدارة دولة الانتداب (بريطانيا) بما في ذلك أرصدة الجنيه الاسترليني التي كانت تستعمل غطاء للجنيه الفلسطيني قبل عام 1948. هذا الأمر متضمن أيضا في قرار التقسيم!
النتائج المتوخاة من هذه المبادرة هي – في أسوأ حالاتها – واعدة بتثبيت فلسطين كدولة وكحق وكطرف سياسي ليس من السهل بعد الآن تجاهله، وتنطوي على تغيير هام وجوهري في قواعد اللعبة السياسية التي سادت حتى الآن، وتضمن تحوطاً معقولاً إزاء المخاطر الكبرى التي تحدثنا عنها، ويكون هذا التحوط مقترنا بحركة دبلوماسية كبرى، إن قوام الحركة الدبلوماسية الفلسطينية يجب ان يسعى دائما الى نقل الوضع الراهن الى وضع يمتاز بمضامين ذات معنى وذات وظيفة لا تتوفر حالياً، بهذا السياق سيكون للحركة معنى يفضى الى التغيير!