الحدث فكر ونقد
ساهمت مجموعة من العوامل والمتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية، والتي جاءت جميعا مخالفة لمصالح الفلسطينيين في إعلان خطة ترامب للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بعض تلك العوامل خارج عن الإرادة الفلسطينية، فيما بعضها الآخر من الممكن تجاوزه، والتغلب عليه.
ساهم ارتقاء قوى اليمين الصهيوني، والإنجيليين الصهاينة، إلى مراكز صنع القرار، في الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، في نشر الخطة الأمريكية بشكلها المنفصل عن الواقع، والحقيقة، والقانون والإجماع الدوليين، تعادي تلك القوى العرب والمسلمين، والفلسطينيين بشكل خاص، وتعتبرهم معوقا لتحقيق مشيئة الرب بعودة المسيح، نتيجة معركة " هارمجدون"، التي يتطلب حدوثها سيطرة يهودية على الحرم الشريف، وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى، واعتقادهم أن كل ما يرتكب من فظائع وجرائم إبادة جماعية في سبيل تحقيق ذلك هو " أضرار هامشية " لا تستحق الالتفات لها في سبيل تحقيق نبوءتهم التوراتية الأسطورية، تنظر تلك القوى لكل ما هو عربي ومشرقي وحضاري وتقدمي ومغاير لرؤيتها المعادية للآخر كونه مصدر تهديد للثقافة والقيم المسيحية الغربية، وهي مسكونة بنظرية " صراع الحضارات"، واستخدام العنف، وإراقة الدماء، والتوسع الاستيطاني، وسفك الدماء، وإشعال الحرائق في مختلف دول المنطقة، تقوم تلك الرؤية على قراءة أسطورية للعهد القديم، وتغذيها آلاف وسائل الإعلام، ومليارات الدولارات، وروايات مشوهة للدين المسيحي، نجحت في اختراق الطبقة الأمريكية الوسطى، تحت شعار "حماية القيم الأخلاقية"، تبث تلك القوى أن الوقوف ضد إسرائيل هو عداء للرب، وأن الرب يجازي كل أمة بناء على كيفية تعاملها مع إسرائيل"، تلك الأساطير التي ارتكبت تحت غطائها أفظع جرائم الإبادة الجماعية في الولايات المتحدة الأمريكية بحق سكان الأرض الأصليين، وأبيدت أمة، ومئات الشعوب تحت شعار إقامة قدس الله الجديدة، الاسم الذي أطلقه المستعمرون الأوروبيون على " الولايات المتحدة الأمريكية " عند استعمارها، بعد أن أطلقوا على أنفسهم لقب" شعب الله المختار"، وعلى سكان الأرض الأصليين " الكنعانيون الجدد" و"الهنود الحمر"، لتغليف مجازرهم بحق النساء والأطفال والشيوخ بطابع ديني، ومنح قدسية على مجازر الإبادة الجماعية ضد السكان الأصليين في الولايات المتحدة الأمريكية، الذين ارتكب بحقهم إبادات جماعية، وثقافية، وجنسية، وحضارية.
لم يعد أصحاب تلك الأساطير من أمثال الرئيس الأمريكي " ترامب" ونائبه مايك بنس ، ووزير خارجيته مايك بومبيو، بالإضافة إلى سفيره في إسرائيل فريدمان، وصهره كوشنير، والذين هم امتداد للرئيس الأمريكي الأول " جورج واشنطن " الذي وهب الأراضي، والأوسمة، والأموال لمن يأتي بفروة رأس مواطن من سكان الأرض الأصليين، تحت شعار تحقيق نبوءة الرب، بحاجة إلى التأثير في القرار الأمريكي، والسياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، كما حاول أفواج من الأصوليين الإنجيليين الصهاينة من أمثال وليام بلاكستون، وجيري فالويل، وبات روبرتسون وتيم لاهاي، وإدوارد ماكتير، وروبرت ماكفرلين، عبر وسائل الإعلام، واستثمار مئات الملايين لفرض روايتهم التلمودية الأسطورية، إذ أن أصحاب تلك الأفكار اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية، هم من يصنع القرار، ويرسمه، ويقرره، كما مهد وجود اليمين الديني في الحكم في إسرائيل الأجواء نحو تقديم خطة ترامب القائمة على أساطير وأكاذيب وأوهام تلمودية لا تستند سوى للوهم والخرافة
نجحت إدارة ترامب في استغلال المخاوف العربية تجاه النفوذ الإيراني في المنطقة، من خلال استنزاف ونهب ميزانيات مختلف دول الخليج العربي، وأثبتت سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه تلك الأنظمة " لا حماية لعروشكم إلا بدفع الثمن " فعاليتها في ضخ المليارات العربية للاقتصاد الأمريكي، كما ساهمت السياسة الخارجية الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان واليمن في تكريس ذلك، مما جعل من استمرار التلويح بالخطر الإيراني، وفتح أبواب الفتنة الطائفية على مصراعيه، سلاح فاعل للغاية ومدر للأرباح، وهو الأمر الذي تلقفه نتنياهو مبكرا، ونجح من خلاله باختراق عدد من دول الخليج، والتطبيع العلني معها، بعد أن ظل لعقود سرا وفي أورقة الأجهزة الأمنية، تحت مبرر تشكيل جبهة سنية موحدة ضد إيران، بالتحالف مع إسرائيل، والولايات المتحدة الأمريكية.
يضاف إلى ذلك ماَلات الربيع العربي، والأوضاع الهشة، والحروب الأهلية في مختلف دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بدءا من سوريا، والعراق، والسودان، وليبيا، واليمن، ولبنان، وفتح جبهات جديدة لدول المركز كما هو الحال في مصر التي تحارب الإرهاب في سيناء، مما جعل العربي مثقل بهمومه الداخلية، على حساب القضية الفلسطينية، والتي كانت لعقود طويلة القضية المركزية الأساسية للعرب والمسلمين.
يضاف إلى ذلك تنامي القوى الشعبوية اليمينية في أوروبا، وأمريكا اللاتينية، وتراجع تأثير القوى التقدمية والتحررية في إفريقيا، لصالح حكومات ليبرالية، براغماتية، تبني تحالفاتها الجديدة على قاعدة المصالح، والنفوذ، تلك القاعدة التي تتقنها إسرائيل جيدا، وتعلم كيف تحيك خيوطها، كما فعلت مؤخرا مع الهند، والصين، واليونان، والعديد من الدول الإفريقية، التي نجحت إسرائيل في التسلل لها عبر التكنولوجيا فائقة التطور، والصناعات الأمنية والعسكرية، والزراعية، وفي مجالات المياه والطاقة، وغيرها، فيما ساهم تراجع قوة الأحزاب الاشتراكية، والاشتراكية الديمقراطية والشيوعية، والتي نسجت الثورة الفلسطينية علاقات وثيقة بها في الماضي، قامت على قيم الحرية والتضامن، وحق الشعب بتقرير مصيرها في هذا الرد الهافت دوليا تجاه خطة ترامب.
نجح الاحتلال في تحويل قارات بأكملها إلى ساحات "خرساء" أمام لغة المصالح، إذ أن إفريقيا وأمريكا اللاتينية، واسيا، والتي كانت تشكل حليفا تاريخيا لشعبنا أضحت اليوم لاعبا محايدا في أفضل الظروف، وربما يتحول سلوكها التصويتي في الأمم المتحدة في المدى المتوسط إلى سلوك براغماتي نفعي، إن لم تراجع الدبلوماسية الفلسطينية، بشقيها الرسمي والشعبي سياساتها تجاه تلك الدول، إذ أن التركيز على الساحتين الأوروبية والأمريكية على أهميته يجب أن لا يهمل الساحات العالمية الأخرى، حيث يشكل الوزن التصويتي لإفريقيا في الأمم المتحدة ما يقارب ثلث الوزن التصويت للعالم أجمع.
يسيطر اليمين الإسرائيلي بشقيه القومي برئاسة " بني غانتس " والديني برئاسة بنيامين نتنياهو على المجتمع الإسرائيلي بشكل غير مسبوق، ويكاد معسكر "اليسار" الإسرائيلي يتلاشى في المشهد السياسي، إذ يترنح حزب العمل الإسرائيلي، ويفقد هويته الاشتراكية في محاولاته البائسة لمحاكاة مواقف اليمين في القضايا السياسية، إذ تشير معظم الاستطلاعات أن تحالفه مع ميرتس لن يتخطى حاجز التسعة مقاعد في الانتخابات المرتقبة في آذار من العام الجاري 2020، هذا النزوع الذي ترجم مؤخرا بتبني مجموعة من القرارات الإسرائيلية العنصرية غير المسبوقة، منها " قانون القومية "، وقانون خصم مخصصات رواتب الشهداء والأسرى ، وقانون منع تقليص فترات سجن الأسرى الفلسطينيين، وقانون سحب الإقامة الدائمة عن سكان القدس والجولان، وقانون احتجاز جثامين الشهداء، وقانون أساس القدس عاصمة دولة إسرائيل الموحدة، وغيرها العشرات من القوانين العنصرية التمييزية ضد الفلسطينيين، بحيث شكل هذا النزوع غير المسبوق نحو اليمين والفاشية والتطرف، واستحضار رواية دينية تلمودية تقوم على الأساطير والحق اليهودي في الضفة الغربية والقدس، لا سيما في ظل حكومة ليكودية تناغمت مع شراهة اليمين الصهيوني المتطرف في الولايات المتحدة الأمريكية، أحد أبرز العوامل التي ساهمت إعلان الخطة وفقا للرؤية الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، وصمت قوى اليسار الإسرائيلي سوى بعض الأصوات التي لا تكاد تسمع.
لا يشكل الانقسام الفلسطيني _ الفلسطيني، أحد الظاهر المستجدة في النظام السياسي الفلسطيني، إذ أن جذوره تمتد لما قبل النكبة الفلسطينية، عبر انقسام الحركة الوطنية الفلسطينية بين المعارضة والموالاة، والتي تم تغذيتها من قبل الانتداب البريطاني، حينما لتكون أحد أسباب كارثة النكبة بشكل أو بآخر، إلا أن خطورة الانقسام المعاصر الأفقي والعمود والمؤسسي، والمستمر لما يزيد عن أثنا عشر عاما، توقيته القاتل لشعبنا، وغياب أية أفق واقعي لوضع حد له في ظل اجترار ذات الآليات التي أثبتت عقمها خلال العقد الماضي، هذا الانقسام الذي هو بمثابة الهدية الأثمن للاحتلال، والجرح الذي نجح في تعميقه في الجسد الفلسطيني، بل إن إدارة الانقسام بدلا من إنهائه قد تحول إلى ساحة لتسلق المنافقين، والمنتفعين والطحالب، التي تعتاش على هذا الوجع، وترى فيه فرصة للاستثمار، لا تحتاج إلى تضحيات كبرى، كما هو الحال في ساحة المقاومة والمواجهة مع الاحتلال، وكم صنع الانقسام من ظواهر صوتية، وأبطال من ورق أبدعوا في الحروب البينية، والمعارك الوهمية، وتصدروا المشهد، وحصدوا المنافع الشخصية، على جثة الوطن، وحساب القضية الأساسية، والتناقض الأساسي مع الاحتلال الصهيوني .
إن إنهاء الانقسام، عبر التوصل إلى برنامج وطني شامل، يرتكز على الثوابت الوطنية الفلسطينية، والمقاومة المثمرة، هو مسار إجباري لمواجهة التحديات التي تحيق بالقضية الوطنية الفلسطينية، كما أنه حان الوقت للاتفاق بشكل مفصل وواضح ودقيق للمقصود بالمصطلحات، وعدم تركها لاجتهاد كل طرف، فعند الاتفاق على " تمكين الحكومة" يجب أن يكون واضحا دون لبس أو ضبابية ماذا يعني ذلك من رئيس الوزراء إلى أدنى موظف في السلك الوظيفي، وعند الاتفاق على المقاومة، يجب تحديد أشكالها، وأدواتها، وبرامجها، كما يجب الإجابة على سؤال هام وفاعل، إن كانت الانتخابات طريق فعلي لإنهاء الانقسام، أم أن العكس هو الصحيح، أي أن الوحدة الوطنية هي التي تمهد لمسار ديمقراطي اَمن، يوحد النظام السياسي الفلسطيني، تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، دون ذلك لن يكون من الممكن أن تسير سفينة الوطن نحو شواطئ الدولة المستقلة، بل إننا مرشحون اليوم أكثر من أي وقت مضى لأن نخسر ما تبقى من الضفة الغربية أمام شراهة المحتل وعنصريته.
من الأخطاء الفلسطينية القاتلة، التعويل غير المبرر على الولايات المتحدة الأمريكية، وقبولها وسيطا وحيدا للعملية التفاوضية خلال العقود الماضية، فالولايات المتحدة الأمريكية التي لم تتوانى في إجهاض أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، والتي رفعت الفيتو لما يزيد عن أربعن مرة إما لحماية دولة الاحتلال من النقد أو الإدانة، أو لتوفير بيئة لها لكي تمارس جرائمها ضد الشعب الفلسطيني، لم، ولن، ولا تستطيع سوى أن تكون شريكا للاحتلال، وحليفا دائما له، ووسيطا منحازا في أفضل الظروف معه، كما كانت في فترة باراك أوباما، إن لم تكن شريكا لعنصريته كما هو الحال اليوم، لقد كان تعويلنا الطويل على الولايات المتحدة الأمريكية، وانتظار نتائج انتخاباتها الرئاسية – عل الله يغير إدارة بأخرى تشفق على شعبنا وتمنحه دولة مستقلة- أحد الأخطاء الجسيمة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وقد أحسن الرئيس الفلسطيني محمود عباس بدعوته لمرجعية متعددة للعملية التفاوضية، والتحرر من المرجعية الأحادية للولايات المتحدة الأمريكية، مع العلم أن هذا الشرط كان يجب أن يكون أحد شروط الدخول في العملية التفاوضية قبل ما يربو عن الثلاثة عقود.
يجب التفريق بين قبول إسرائيل بمبادئ صفقة القرن كأساس لعملية تفاوضية تستمر لأربع سنوات كحد أدنى، وقد تستمر لعشرات السنوات، ستكون كفيلة بقضم ما تبقى من أرض فلسطينية، وقبولها بصفقة القرن كحل نهائي للصراع، إذ أن موقف الحكومة الإسرائيلية اليمينية، وأي حكومة مرتقبة خلال السنوات القادمة، يتمثل بالموافقة على الجلوس على طاولة التفاوض، بعد أن يتم إخراج القدس، وحق العودة، والمستوطنات الكبرى، وغور الأردن من منها، ومن ثم التفاوض على ما يتبقى من الأرض، في مشهد يعيد للذاكرة مفاوضات الهنود الحمر مع المستعمرين الأوروبيين، والتي قادت نحو إبادتهم، وسرقة أرضهم، ومسح تراثهم وحضارتهم التي كانت تفوق حضارة وثقافة المستعمرين، فالإستراتيجية الصهيونية على المدى القريب تقوم على أرض أكثر وعرب أقل، ومن ثم أرض بلا عرب، نحو التوسع إلى إقامة الحلم الصهيوني " بدولة يهودية من النيل إلى الفرات "، وهو الأمر الذي قد يبدو اليوم للقارئ مزعجا ومستحيلا، إلا أن عودة للأمس القريب، تذكرنا أن احتلال اللد وحيفا وعكا وصفد كان مستحيلا، وضربا من الخيال، والسلبية، والتشاؤم بعيون أهلها قبل النكبة بعدة سنوات، فالاحتلال يخطط لعشرات السنوات، ويستغل الأوقات المناسبة للانقضاض، مستخدما سلاح الدين، والأساطير التلمودية، والتكنولوجيا، وهوليود، وضعفنا، وطائرات ال F35، وأسطورة شعب الله المختار، والهيكل المزعوم، والتكنولوجيا فائقة الجودة، وجمال الطماطم المصنعة في الدفيئات، وجهلنا، وتخاذل أشقائنا، وقصر ذاكرتنا، وتعويلنا على أمريكا، وانشغال العالم بفايروس " كورونا" لتحقيق أهدافه طويلة الأمد.
ختاما، أمريكا ليست قدرنا، وترامب ليس الها، والفلسطينيون أصحاب الأرض، وسدنتها وحراس سياجها، وأداؤهم العام، شعبا، وقيادة، وأحزابا، هو الذي يحدد الغد .