أعتقدُ أن الكثيرين مثلي، كان يهمهم أن يكون الخطاب الذي ألقاهُ الرئيس محمود عباس، في مجلسِ الأمن، غير قابلٍ للشماتة؛ ليس لأن الخطاب "عاطفي" يلقى من رجلٌ لا يُريدُ أن يختمَ حياته السياسية كخائنٍ كما قال؛ وإنما لأنه عادةً ما يسقطُ في فخ المقارنةِ مع الخطابِ الذي يلقيهِ عدونا مباشرةً. مقارنةُ خطابِ الضحيةِ بخطابِ الجلاد، من حيثِ قوة المنطقِ وعقلانية الحجةِ؛ ومقارنةُ عمليةِ استدعاء المؤثرات البصريةِ (رفع خريطة الجيوب الفلسطينية) بتلك التي يستخدمها الجلادُ حين رفع نتنياهو خلال خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة خرائط لأماكن يدعي أنها مواقع سرية تخفي فيها إيران مواد ومعدات نووية.
إن البدايات التي تبدو علنيةً للتأسيسِ للنهاياتِ، عادةً ما يُغضُ النظرُ عنها، أو اعتبارُ أنها لم تحدث، أو لم يأت موعدها بعد، وأنها ما زالت قابلة للتأجيل، تُحيطها هالةٌ من الاهتمامِ الصامت المضمرِ، أو إضفاء طابعٍ طقوسي عليها كخروج المسيرات المؤيدة للرئيس أو إطلاقِ بعض بالونات الاختبارِ المدروسةِ التي تُلمحُ للعدو تلميحاً بإمكانيةِ تفجرُ الوضع ميدانياً على الأرض، أو تلك المسيراتُ الرافضة لصفقة القرن منذ أن تم الإعلان عن الصفقة حتى خطاب اليوم، لتبدو جميعها كأنها طوقُ نجاةِ غريقٍ، أو مرساةُ المحطةِ الأخيرةِ قبلَ النزول نحو برٍ لا يعودُ عندهُ التلويحُ بغصن الأملِ قابلاً للغرس.
واليوم، كانت البدايةُ نحو النهاية: تنحي الرئيس عباس؛ فالخطابان المتتابعان، للرئيس عباس، ولداني دانون ممثل دولةِ الاحتلال في مجلس الأمن، لا يمكنُ أن يُقرأ أحدهما بمعزلٍ عن الآخر، لأنهما كانا عبارة عن ردين متضادين حولَ نفس الموضوع؛ يُزيحُ أحدهما الآخر، بحسبِ قوةِ الدفع الأقوى، التي تُعينُ الأقوى.
إن الرئيس، البراغماتي، عليهِ أن يكون براغماتياً أكثر من اللازم كما طلبَ منه دانون: إما أن يكون براغماتياً أو أن يتحنى.
لأن هنالك مقاربةً جديدة قديمةً لمفهوم الفلسطيني وسيادتِهِ ورئيسهِ ورئاسته، تشبهُ تاريخاً غير بعيد يتكرر، وهي المقاربةُ التي استدعت محاصرة الرئيس عرفات واغتيالهِ. لقد كان دانون واضحاً أن السلام لن يتحقق طالما بقي الرئيس عباس في منصبه.
لذلك، كان خطابُ اليوم ترجمة لما يُصارعُ الفلسطيني من أجله، وكيف ستصرعنا إسرائيل قسمةً ورفضاً، باعتبار كل ما يتم التعبيرُ عنه في لغةِ الضحيةِ حديثاً فارغاً غير ذي قيمةٍ، خطاباً لا يمتلكُ الحقيقة ولا يمكنُ أن يكونَ محط ثقة.
خطاب الرئيس كان خطاب الرغبةِ في أن ننجو، وخطابُ العدو كان خطاب التأكيدِ على استعدادِ الجميعِ لأكلِ الفلسطيني كقربانٍ، يؤكلُ كلما أُكِل من لحمِ رؤسائه، وكلما طُلب منهم التنحي عن المشهدِ، في مشهديةٍ يكونُ فيها الجميعُ مصغينِ ومنتبهين للخطوةِ القادمة، لكنهم، بمن فيهم نحن، نبدعُ، جميعاً، في إخراجِ النص من سياقِهِ واستبدالهِ بنص مصطنع لا يمتُ للواقع بصلةٍ، عبر مشهديةٍ مضادةٍ، في سياقِ الأهازيج والصور والأغاني والبوسترات والمظاهرات في توديع الرئيس وعند رحلةِ عودتهِ، والتي لا تغني من فقر الإخلاص ولا تُسمن من جوعِ السطوة المنافقة، حتى تُزيحَ القوةُ ما شُبهِ لنا، بأنه دولةٌ ورئاسةٌ ورئيسٌ، بمسودةٍ مؤقتةٍ أخرى عن حالِ الفلسطيني التعيس.
إن الجنون الذي عبر عنه دانون بكلمات أينشتاين، والمتمثلِ في تكرار الخطأ نفسه وتوقع نتائج معاكسة، هو ما يحدثُ اليوم، نكررُ الخطأ الذي ارتكبناه في نهايةِ مرحلةِ الرئيس عرفاتِ، والتي ستُشبِهها نهاية مرحلة الرئيس عباس، فهل من مبدع لطريقة لا نكرر فيها نفس الخطأ.