الحدث- علا عطالله
لا تزال بثينة مسعود (64 عاما) تذكر جيدا تفاصيل صراخها وخوفها وهي تشاهد لأول مرة برفقة والدها وشقيقتها عرضا لأحد الأفلام المصرية داخل سينما النصر، وسط مدينة غزة، في مطلع ستينيات القرن الماضي.
فيومها ظنّت مسعود التي لم تكن تتجاوز التاسعة من عمرها، أن سيارة الفنانة شادية وهي تغني "سوق على مهلك"، في فيلم "بشرة خير" (أنتج عام 1952) ستتجاوز شاشة العرض، وتصيب الجالسين في سينما "النصر" بسوء.
هذه السينما التي لم يبقَ منها سوى لافتة تشير إلى اسمها، وجدران سوداء مهجورة منذ عقود من الزمن، كانت كما تقول مسعود، كانت من أكبر دور السينما في قطاع غزة.
وقُدر لمسعود أن تكون ضمن جيل عاصر دور السينما، فأبناؤها، وأحفادها كبروا ولم يدخلوا دارا واحدة للسينما.
وقبل نحو 28 عاما، منذ بداية الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وما تبعها من أوضاع أمنية غير مستقرة في قطاع غزة، توقفت دور السينما عن فتح "أبوابها".
ويحلم الشاب أنور شاهين المغرّم بمتابعة الأفلام السينمائية، بدخول دار للسينما، وهو يحمل معه كما علبة كرتونية ملونة وبداخلها "فُشار".
ويضيف شاهين (23 عاما):" أقوم بتنزيل الأفلام عبر مواقع التحميل على الإنترنت، أو شرائها عبر الأقراص المُدمجة، لكن كل هذا لا يُعوضّنا عن مشاهدة فيلم في دور السينما، وأن تحجز تذكرة للفيلم الذي تود مشاهدته، وتجلس في أجواء سينمائية خالصة".
ويؤكد شاهين أن السينما تلعب دورا في التخفيف عن معاناة الشباب، في ظل الحصار الإسرائيلي الخانق المفروض على القطاع منذ أكثر من 7 سنوات، وتساهم، وفق قوله، بالتخفيف من الضغوط النفسية التي تواجههم.
ويستدرك متسائلا: "ما العيب في وجود دور للسينما، واقتناء الأفلام المفيدة، هناك أفلام عالمية تستحق المتابعة، ولا أظن أن مدينة في العالم لا يوجد بها في هذا الوقت دار للسينما".
وعرفت فلسطين العروض السينمائية منذ بداية القرن الماضي؛ حيث تشير الكتابات التاريخية إلى أن أول دار عرض سينمائي ظهرت في فلسطين هي "أوراكل"، وذلك في مدينة القدس عام 1908. وفي عهد الانتداب البريطاني، شهدت فلسطين زيادة ملحوظة في ظهور دور العرض السينمائي بالتزامن مع صدور القانون الخاص بالأشرطة السينمائية عام 1927.
وفي الثلاثينيات، انتشرت في المدن الفلسطينية الرئيسية مجموعة من صلات السينما المجهزة التي كانت تعرض الأفلام التجارية المصرية بشكل خاص على الجمهور، حيث عرضت أفلاماً عربية وأجنبية، ناطقة وصامتة.
وفي أعقاب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، تعطلّت دور العرض السينمائي في كافة المدن الفلسطينية كما يقول المؤرخ الفلسطيني سليم المبيض.
ووفق المبيض، فإن تاريخ السينما في غزة، يعود إلى أربعينيات القرن الماضي، إذ أسس "رشاد الشوا" رئيس البلدية آنذاك، أول دار للسينما عرفت باسم "سينما السامر" (عام 1944).
وتوالى افتتاح دور السينما في غزة في سبعينيات القرن الماضي، وكان من أشهرها سينما "النصر" و"السامر" و"الجلاء"، "وعامر" و"السلام" و"صابرين" وكان يعرض فيها أفلام معظمها مصرية.
وأوضح المبيض أن دور السينما ومنذ افتتاحها، في قطاع غزة، كانت تفصل بين أماكن الرجال والنساء، إضافة لتميزها بتخصيص أماكن للعائلات.
ويقول المخرج الفلسطيني أشرف المشهراوي، أن طبيعة الأحداث التي مرت على قطاع غزة منذ الثمانينيات، كان لها بالغ الأثر في إغلاق دور السينما وعدم الاكتراث لوجودها.
ويُضيف المشهراوي، أنه في الوقت الحالي، وفي ظل الحصار، والأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يمر بها سكان قطاع غزة (أكثر من 1.8 مليون فلسطيني)، لا يمكن الحديث عن إعادة افتتاح لدور السينما.
ووفق المشهراوي، فقد تجاوز سكان القطاع النظرة السلبية للسينما، وعدم تقبلهم لها، نظرا للحراك الثقافي، والانفتاح التي شهدته غزة، في ظل التطور التكنولوجي، إضافة إلى تنوع الأفلام وإمكانية عرض الجيد منها وبصورة كبيرة.
وتابع: "هناك وعي كبير، وتعطش لدى كثير من الفئات بإحياء دور السينما، لكن هناك عوائق اقتصادية، تفرضها طبيعة غزة، وما تعانيه من هم يومي".
وتتمثل العقبات بحسب المشهراوي، في مواجهة المستثمرين لمشكلة تعويض شراء الأفلام السينمائية وحقوق بثها بشكل قانوني.
ويستدرك بالقول:" في ظل الفقر والبطالة، وتوالي الأزمات لن يقوم أي شخص بدفع تذكرة لمشاهدة فيلم، وقد يعتبر ذلك نوعا من الترف والكماليات، وبالتالي أي مستثمر أمام فكرة شراء الأفلام وعرضها في دار السينما سيجد خسارة كبيرة لمشروعه أمام هذا الوضع".
وفي حال تحويله إلى مشروع وطني، وشراء تذاكر بأسعار رمزية، يقول المشهراوي أن هذه الفكرة قد تجد صعوبة في قطاع غزة، نظرا لما وصفه بخروج أصوات ترفض هذه الفكرة أمام مشاريع قد ترى أنها أهم وأكثر إلحاحا.
ولم تفلح الحكومات المتعاقبة على قطاع غزة، بافتتاح أي دار للسينما في ظل الحصار الإسرائيلي، وما شهدته الأراضي الفلسطينية من انقسام سياسي.
ولا ينكر المشهراوي أهمية، وجود دور للسينما في غزة في ظل ما شهدته من حراك ثقافي مؤخرأ، وصناعة أفلام حازت على جوائز دولية، إلى جانب ما يتمتع به عرض الفيلم داخل "دار السينما"، من جودة عالية ودقة في الصورة.
وتابع: "نحن اليوم في عصر ثقافة الصورة، وأي فيلم تشاهده على شاشة الحاسوب أو التلفاز لا يغني عن مشاهدته في السينما التي تعرض تفاصيل لا يمكن لأي وسيلة أخرى أن تقوم بدورها".
ويتمنى المشهراوي، أن يتكفل الوقت والأيام القادمة، بإعادة الحياة لدور السينما التي بات أغلبها أماكن مهجورة، ولم يبقَ منها سوى "اسمها".