الثلاثاء  26 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

صفحة أُخرى… سوداء!/ بقلم: الدكتور سامر العاصي

2020-02-12 10:01:13 AM
صفحة أُخرى… سوداء!/ بقلم: الدكتور سامر العاصي
الدكتور سامر العاصي

 

 في تاريخ الأمم، هنالك صفحةٌ، أو صفحات سوداء، لا تريد الشعوب العودة إليها، أو حتى تَذَكُرها. وقد تكون "المكارتية"، هي أكثر الصفحات سوادا في تاريخ الشعب الأميركي، التي نصت، أولى صفحات دستوره، على ضمان حرية الرأي، والكلمة لكل مواطن، حتى سميت أميركا، بدولة الحرية والديمقراطية، و"بزعيمة العالم الحر".

لم  تشهد الولايات المتحدة في تاريخها كله، اضطهادا فكريا وتنكيلا لحرية الرأي، كما شهدته "حقبة المكارتية"، التي كانت بدايتها فور انتهاء الحرب العالمية الثانية، حين ألقى رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرتشل، يوم 5 آذار 1946، خطابا تاريخيا، أطلق فيه اسم الستار الحديدي، على دول المعسكر الشيوعي. ويعتبر ذلك الخطاب التاريخي، بداية "للحرب الباردة"، بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي.

وفي التاسع من شهر شباط عام 1950، فاجأ الخصم العنيد للشيوعية، السيناتور الجمهوري "جوزيف مكارتي"، الصحافة الأميركية والعالم كله، بإعلانه الجريء، الذي أثار جدلا واسعا في البيت الأبيض، وفي كل بيت من بيوت أميركا، والعالم كله، حين صرح في مؤتمره الصحفي، وقال:-

  • لدي قائمة بأسماء 205 جواسيس شيوعيين، يعملون في وزارة الخارجية الأميركية، لصالح موسكو!.

واهتزت أميركا لهذا التصريح الخطير، وتم التحقيق مع آلاف الموظفين، وتم فصل أكثر من 100 موظف من وزارة الخارجية، كما تم طرد جميع الموظفين المشتبه بانتمائهم للحزب الشيوعي الأميركي، أو إلى أي من الأحزاب اليسارية من كل الوزارات. وصار اسم السيناتور مكارتي، هو الأكثر تداولا بين أسماء كل السياسيين الأميركيين في الصحافة والإذاعات ومحطات التلفزة الأميركية وحتى العالمية. وشُكِلت لجنة تحقيق برلمانية "لمناهضة الشيوعية"، ترأسها صاحب الفكرة نفسه، بعد أن تم بعث الحياة باللجنة الأم، "لجنة النشاطات المعادية لأميركا"، التي تأسست عام 1938. وسارت المظاهرات المؤيدة للجنة في العشرات من المدن الأميركية، تطالب بتطهير أجهزة الدولة ووزاراتها المختلفة من الشيوعيين. وحمل المتظاهرون اللافتات التي كتب عليها:- (كل شيوعي، هو عميل لموسكو). ومنع الشيوعيون من الحصول على جوازات السفر، أو الالتحاق بالجيش، أو بأي من المؤسسات العسكرية، وتم إحراق جميع كتب ماركس وانجلز ولينين، وصدر الأمر بحظر نشاطات الحزب الشيوعي في البلاد. وفي تلك الفترة، ولأول مرة، ظهر نجم السياسي الشاب، ريتشارد نيكسون، الذي ظهر على شاشات التلفزة، وهو يعرض شريطا سينمائيا عن جاسوس أميركي تم الكشف عنه أثناء لقائه بعميل روسي.

وتم إطلاق أيادي رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي، سيء الصيت، " ادجار هوفر"، الذي سرعان ما كشف في صيف العام نفسه، عن تفكيك أكبر شبكة تجسس سوفيتية، (الزوجان روزنبرغ/ يوليوس وأثيل)، التي كانت قد نقلت إلى موسكو في السنوات الماضية، أسرار صناعة القنبلة الذرية الأميركية. وازداد غليان وخوف الشارع الأميركي من "الوحش السوفيتي"، حتى خيل للمواطن البسيط، أن الشيوعيين، يحفرون أنفاقا تحت الأرض، تبدأ من موسكو وتنتهي عند كراج سياراتهم. وسرت في أميركا موجة من الخوف والعداء الشديد للشيوعية، سرعان ما انتقلت إلى دول أوروبا الغربية، ودول العالم الثالث التي كانت تسبح في الفلك الأمريكي. 

وهكذا، ارتبطت جميع الفعاليات المعادية للشيوعية، في العالم كله، باسم السيناتور "جوزيف مكارتي"، وصارت تلك الفترة، التي استمرت حتى شهر آذار 1954، تسمى بـ"المكارتية". وامتدت يد المكارتية، إلى كل إدارات الشركات والمؤسسات الكبرى، وإلى إدارات وشخصيات مختلف النقابات والتجمعات العمالية والسياسية، حتى أن مدينة الصناعة السينمائية هوليود، لم تسلم من البطش المكارتي. فقد تم استجواب وتوجيه الاتهامات بالعمالة إلى موسكو، إلى آلاف الشخصيات المختلفة بدءا من البرت آينشتاين، وأبو القنبلة الذرية الأميركية العلامة روبرت اوبنهايمر، والناشط السياسي مارتن لوثر كنج، وإلى أشهر الممثلين العالميين، الذين كان على رأسهم، تشارلي تشابلن، وغاري كوبر!. وجاء رد، نقيب الممثلين الهوليوديين، ورئيس أميركا (لاحقا)، الممثل رونالد ريغان، لأعضاء لجنة التحقيق آنذاك:-

ومن الجدير ذكره، أن كثيرا من الهوليوديين، كانت تحمل في طياتها، معارضة صريحة ضد قانونية عمل اللجنة المكارتية، وتدخلها غير القانوني في الشؤون الشخصية للمواطن الأميركي. ومع أن بعض الأصوات الخافتة كانت تنتقد إجراءات، وعمل اللجنة، إلا أن المكارتية كانت قد بدأت تفرض سيطرتها على الحياة السياسية في البلاد بيد من حديد، حتى أن الكونغرس الأميركي، اضطر ولأول مرة في تاريخه، وخوفا من تهديات المكارتيين، إلى سن قانون للحد من الهجرة إلى الولايات المتحدة، رغم معارضة الرئيس "هاري ترومان"!. ووصل الأمر برئيس اللجنة، أن يوجه أصابع الاتهام بالخيانة، إلى أبطال أميركا العسكريين، كان من أشهرهم، الجنرال جورج مارشال، (وزير خارجية أميركا 1947-1949، ووزير دفاعها 1950-1951، وصاحب "مشروع مارشال" لإعادة بناء أوروبا)، وكذلك الجنرال دين أتشيسون، (وزير الخارجية 1949-1952).

وجن جنون البيت الأبيض من الصلاحيات التي أصبح السيناتور مكارتي، يغتصبها دون خجل. وعند اعتراض الرئيس ترومان على ذلك، رد السيناتور عليه بوقاحة، قائلا:- يا ابن العاهرة!. وفي يناير 1953، ومع وصول الجنرال "ايزنهاور"، حليف المكارتية، إلى البيت الأبيض، أصبحت قوة ونفوذ السيناتور مكارتي، بلا حدود. ومع ازدياد كبت الجماهير، التي صارت تنادي "خفيةً" بحرية الكلمة وصيانة الدستور العظيم، بدا، وكأن الجميع ينتظر، القشة التي ستقصم ظهر البعير.

وفي آذار من العام 1954، تبنا الصحافيان الشهيران، إدوارد مورو، وفريد فريندلي، على شاشة محطة CBS، في برنامجهما الشهير “See It Now”، مواقف لاذعة ضد المكارثية، حتى أنهم استضافوا في شهر نيسان، السيناتور مكارتي نفسه، في بث مباشر، وكانت تلك الحلقة فضيحة كبرى للضيف المتعجرف، خاصة بعدما شاهد وسمع الجمهور بأم عينيه، أن الرجل عمل وما زال يعمل دون أدلة ودون الرجوع إلى القانون، وعرف الجمهور أن الرجل كاذب وغوغائي، خصوصا بعد سؤاله عن حقيقة طرد لجنته، لطيار حربي أميركي من أصل يوغسلافي، من سلاح الجو، بسبب أن والده، الذي لم يكن يتقن اللغة الإنجليزية، كانت تصله صحيفة يوغسلافية، في البريد. واختتم إدوارد مورو، تعليقه في ذاك المساء قائلا:- 

  • إذا كان الشعب من الأرانب، فلتحكمه الذئاب. 

وأثارت تلك الحادثة، موجة عطف مع العائلة اليوغسلافية، واشمئزازا من المكارتية والمكارتيين، مما أجبر أعضاء اللجنة المكارتية، على إعادة الاعتبار إلى الطيار. وبدأ الرأي العام الأميركي يفيق من غفوته، ويرى في ظاهرة المكارتية، تدميرا لثقافته ومبادئه، في الوقت الذي تزايدت فيه المقالات والندوات والتعليقات في كل الولايات ضد السيناتور، الذي بدأ يفقد توازنه السياسي والأدبي أمام عيون الشعب الأميركي. ومع أن العام 1953 كان العصر الذهبي للمكارتية، إلا أن ربيع العام التالي بدا كارثيا لمكارتي وللمكارتية. وأعلن الكونغرس عن تشكيل لجنة قانونية للتحقيق مع السيناتور، التي سرعان ما أدانته بتهم الفساد والتزوير، بأغلبية 77 صوتا مقابل 4 أصوات فقط!. وفي العام 1957، توفي جوزيف مكارتي بعد أن صار مدمنا للمخدرات. 

وسرعان ما طويت تلك الصفحة الداخلية السوداء، من حياة الشعب الأميركي، بما فيها من تفرد وسطو واغتصاب للحرية الشخصية، التي لا يريد أي فرد أميركي تذكرها، أو العودة اليها الآن، ومع ذلك يأتي الرئيس الأميركي، "دونالد ترامب"، اليوم منفردا، ليسطو ويغتصب حرية شعب بأكمله، عبر حل سياسي، ظالم، اسماه "بصفقة قرن ترامبية"، ضاربا بعرض الحائط، دستور بلاده العظيم، والشرعية الدولية، اللتان تتحدثان عن ضرورة احترام كرامة وحقوق كل الشعوب، أم أن (الترامبية) هي صفحة سوداء متجددة، للهنجهية المكارتية، في إدارة السياسة الخارجية؟