ترجمة: سعيد بوخليط
تقديم:
عندما صادفت، منذ عقدين، كتاب الأستاذة الفرنسية روني بوفريس، الصادر حديثا آنذاك. توخيت بداية، إنجاز مقاربة تلخيصية تعريفية للعمل باعتباره عنوانا جديدا على رفوف المكتبات. لكن بين طيات ذلك، تبين لي أن كتاب: العقلانية النقدية عند كارل بوبر ثم السيرة العلمية لصاحبته، ينطويان على قيمة معرفية كبيرة. لذلك، من الأمانة العلمية والتاريخية إن صح هذا التأكيد إعادة كتابته باللغة العربية:
*اشتغلت روني بوفريس؛ من بين أشياء أخرى، على نظريات كارل بوبر. وترجمت له أعمالا من الإنجليزية إلى الفرنسية؛ لا سيما سيرته الذاتية. كما أن بوبر نفـسه، أوكل لها مراجعة الترجمة الفرنسية لعمله الذائع الصيت بؤس التاريخانية.
*اعتبرت روني بوفريس عملها هذا، تقديما عاما لمعجم بوبر المفهومي. ساعية بذلك، إلى جرد ألفبائي للمصطلحات والمفاهيم التي وظفها بوبر، قصد صياغة مشروعه. لقد رصدت وفق تعريفات سريعة لكنها دقيقة وعميقة؛ أهم المفاهيم سواء تلك التي نحتها بوبر، أو توخى في إطارها، على العكس من ذلك، مناقشة أصحابها وإبداء رأيه حولها: العقلانية النقدية/ التحقق/ المعرفة الموضوعية /المحتوى/ النظريات العلمية / تحديد /الديمقراطية / المجتمع المنفتح/ مقولة الأساس/ قابلية التكذيب/ قابلية التزييف والتفنيد/ الرائزية /التاريخانية / العقل و اللغة / اللاوعي/ الاستقراء / الوسائلية /الليبرالية / الماركسية/ الميتافيزيقا / العوالم الثلاث / المجتمع المنغلق /الوضعية/ القابلية / النسبية / الكليانية والطوباوية / التوتاليتارية.
خطاطة مفهومية، تعكس البرنامج النظري والمنهجي الذي خطه بوبر لنفسه. وقد توزع بين: منهجية العلوم؛ فلسفة المعرفة العامة؛ البيولوجيا؛ علم النفس؛ العلوم الاجتماعية؛ تأويلات الفيزياء الحديثة؛ تاريخ الفلسفة؛ فلسفة الأخلاق و السياسة؛ نظرية العلوم الاجتماعية.
أرضية فكرية وعريضة، يتجادل ضمنها مع: أفلاطون وسقراط وهيغل وماركس وفتجنشتاين وهيوم وكانط… إلخ. منحازا أو مختلفا، لكن بمعنى يتجاوز حدي منطق الميتافيزيقا الغربية الثنائي القيمة: صادق أو كاذب، ولا يوجد احتمال ثالث. لأن بوبر يؤكد نصيب الحقيقة من الخطأ. السمة الفكرية التي تهمه؛ أكثر من اليقين والاعتقاد المطلقين.
هكذا ظل بوبر رافضا باستمرار، لكل أنواع الطوباويات والإطارات الشمولية المنغلقة؛ بل والأفكار الرومانسية المنتهية حتما إلى العقيدة الجامدة والدوغماطيقية؛ لأنها تستند بدءا وانتهاء على المرجعية الأحادية.
لم يكن من باب الصدفة إذن، أن يخرج بوبر آخر أعماله تحت عنوان مثير: "أسطورة الإطار، في دفاع عن العلم والعقلانية". يقول بوبر في تأويل لما أشرت إليه: (( وعلى الرغم من أنني معجب بالتقاليد وعلى وعي بأهميتها. فإنني في الوقت ذاته أكاد أكون مناصرا أصوليا للا-أصولية: إنني أستمسك بأن الأصولية هي الأجل المحتوم للمعرفة، ما دام نمو المعرفة يعتمد بالكلية على وجود الاختلاف. وكما نسلم جميعا، الاختلاف في الرأي قد يؤدي إلى النزاع، بل وإلى العنف. وأرى هذا أمرا بالغ السوء حقا، لأنني أستفظع العنف، غير أن الاختلاف في الرأي قد يؤدي أيضا إلى النقاش، وإلى الحجة وإلى النقد المتبادل. وإني أرى هذه الأمور ذات أهمية قصوى، وأزعم أن أوسع خطوة نحو عالم أفضل وأكثر أمنا وسلاما، قد قطعت حين وجدت حروب السيف والرمح لأول مرة من يضطلع بها، وفيما بعد حين حلت محلها في بعض الأحيان حرب الكلمات ))( أسطورة الإطار: في دفاع عن العلم والعقلانية . ترجمة يمنى طريف الخولي. سلسلة عالم المعرفة. أبريل- مايو 2003)
ولكي يتم تسليط الضوء بقوة، على الأفق المتطور لهذا الفكر الإنساني في جوهره، أسرعت بوفريس غير ممتثلة لترتيبها الألفبائي؛ نحو الصفة التي عشق بوبر، أن يسم بها اجتهاداته الفكرية والمنهجية. أقصد تصنيف: العقلانية النقدية.
فما هي إذن أبرز ملامح وتجليات هذه الفلسفة؟ ثم كيف عملت بوفريس على توظيف ذلك حين مقاربتها مشروع بوبر؟ لا شك، أن الإجابة عن بعض هذه الأسئلة تخول من جهة أخرى؛ إثارة انتباه القارئ نحو أهم أطروحات هذا العمل، والتي سنقف على مضامينها عبر سلسلة هذه الحلقات.
إن تفسيرا ملائما حسب بوبر، عندما يجري اختباره ضمن ما يفترض بأنه نطاق إدراكه، وحدث تخيله فقط كي يجيب على قضية خاصة. حينما يعاد النظر في نسق نتيجة اختبار، ربما "يحافظ" مبدئيا داخله على جانب معين نتيجة تعديل ملائم، مثلا ما يتعلق بـ"الشروط الأولية".
هكذا تعارض منهجية بوبر القائمة على الدحض الالتجاء إلى "استراتيجيات محصَّنة"، كالرجوع مثلا إلى تلك الفرضيات الخاصة الملائمة. في حين، تجيز استثمار فرضيات مساعِدة محافِظة شريطة قابليتها للاختبار.
إن الفرق بين فرضيات مساعِدة محافِظة ثم أخرى خاصة وملائمة، ليس دائما واضحا بما يكفي، وقد يصير تخمينا يبدو ظاهريا بأنه فرضية خاصة ملائمة، قابلا للاختبار. لا يجب حسب بوبر الاستكانة إلى خاصية الملاءمة لدى بعض الفرضيات، بل السعي إلى استبعادها.
معيار التحديد البوبري من خلال الدحض (سبقه لذلك باسكال في رسالة وجهها إلى الأب نويل Noël تعود إلى سنة 6471/10/29 ): "نستخلص أحيانا، تجليا عبثيا لنفي [فرضية]، في حين تمثل حقيقية وثابتة؛ إما نستنتج توضيحا عبثيا من تأكيدها، بالتالي النظر إلى الفرضية باعتبارها خاطئة؛ ثم حينما يستعصي علينا استخلاص العبث سواء من خلال نفيها أو تأكيدها، تظل الفرضية ملتبسة؛ بحيث لا يكفي كي نحول فرضية إلى بداهة، أن تتوالى مختلف الظواهر، في حين، إذا تأتى شيء ما يناقض واحدة من الظواهر، فإن ذلك يكفي لتأكيد بطلانها". أقول، يتعارض بشكل مباشر مع معيار التحقق (والذي كان أيضا معيار دلالة، وليس الأمر كذلك مع معيار بوبر) لدى وضعي حلقة فيينا، حيث يتأتى معنى عبارة بالنسبة إليهم جراء منهجيتها على مستوى التحقق وقابليتها لذلك، معيار الفصل بين علم يتزود بالمعنى، و"ميتافيزيقا" تفتقد للقيمة وتشبه "رطانة" مجردة من المعنى.
كتابه "بؤس التاريخانية"؛ لأنه على غير منوال رغبته الخاصة، فقد تُرجم مفهومه اختبار "Test" بـ تحقق "vérification ". هكذا، وبغية تجنب صيغة إنجليزية، طُرح تفسير خاطئ بخصوص الدحض البوبري اللاوضعي واللاتحققي.
تكمن إحدى المهام الأساسية لكل فلسفة للعلوم، في الصراع ضد كل أشكال الدوغماطيقية الظلامية، ثم القصدية المتمثلة في حل الإشكالية الكانطية: كيف بوسعنا الفصل بوضوح الخطابات العلمية عن أخرى شبه علمية؟ هل يمكننا أن نعطي في إطار هذا القصد معيارا لا يحيل على حقيقة النتائج. بل منهجية خالصة، ما دام العلم طبعا، قابلا للخطأ؟ هنا يأخذ نقد الاستقراء كل معانيه: اعتُبر الاستقراء منهجية للعلوم التجريبية مقابل التأملات الميتافيزيقية وكذا الاستنباط الرياضي.
لقد أوضح بوبر، بأن جل الذين يجعلون من المسار الاستقرائي مفتاح المنهجية العلمية، غير قادرين على إعطاء معيار للعلم التجريبي، ويلزم اقتراح شيء ثان.
من المقصود بوجهة مثل هذا المجهود على مستوى تعيين الحدود؟ بالطبع، مجموعة من القضايا شبه - العلمية المنقضية، لا يمكنها الانتعاش، سوى نتيجة غياب حقول منافسة ومثمرة حقا، كالتنجيم والخيمياء؛ والميتافيزيقا كذلك، قدر اعتقادها على الأقل، بأن حقائقها من نفس صنف حقائق الرياضيات أو الفيزياء.
راهنا، تسلمت المشعل أنظمة تأويلية قوية، تتوخى أن تصير علوما: التحليل النفسي، الذي يرى خلف كل سلوك لعبة عدد معين من الرغبات والهواجس، تتنكر بطريقة تتحقق معها دون أن تكون الذات واعية بذلك. أيضا، الماركسية التي تقرأ من جانبها نفس السلوكات عبر شبكة سوسيو- اقتصادية تجد فيها تعبيرا عن صراعات الطبقات وفي الاختلالات الاقتصادية عنصرا محددا.
عرف بوبر بالتأكيد هذه الأنساق التأويلية. بل افتتن بها، لكنه شعر على الفور، بضرورة عدم اختلاطها بالنظريات العلمية التي تدعي سعيها إلى تمثلها. يتسم منظور بوبر للعلم، قبل كل شيء بكونه تطوريا، يتمركز حول مبدأ الدحض. لذلك، رفض منذ البداية الحديث عن علمية، أنساق بدت له غير متطورة ودوغماطيقية. ويعارض أكثر علمية التحليل النفسي، الذي لا يخوله معيار التحقق المتجاوز كما تصورته حلقة فيينا .
يوجد فرق من جهة بين ماركس، وفرويد وألفرد أدلر ثم أينشتاين من جهة أخرى. إنه التمايز الذي اتجه إليه تفكير بوبر منذ شتاء 1919. ليس الاختلاف على مستوى الحقيقة، في نطاق الجدال الحاد بخصوص حقيقة النسبية العامة. من أي صنف هو إذن؟ هناك جواب أولي يتم افتراضه: الماركسية والتحليل النفسي غير قابلين للاختبار. يظهر بالتأكيد هذا الجواب رغم ذلك خاطئا: من جهة، تؤكد تأويلاتهما وقائع كثيرة تبدو في الحال مستساغة جدا. وحدهم الذين جرحتهم عدوانية أحكام هذه التأويلات الأخلاقية، يرفضون رؤية هذه المعقولية.
ومن جهة ثانية، حتى مع عجزنا المستمر عن التحقق من توضيح تنتمي إلى العلم الرسمي. وبقدر وجود أمثلة تؤكدها، فإنه بوسعنا دائما العثور على نظرية أخرى تدرك أيضا نفس الوقائع. ولا يمكن قط لأية نظرية توخي الوصول إلى لحظة من هذا القبيل، دون أن تكون موضوع تساؤل. إذا قارنا التحقق من نظرية علمية مع أخرى ذات تأويل نفسي أو ماركسي، سنلاحظ بأن الثانية تتسم في الآن ذاته بكونها أكثر قابلية للاختبار بل غالبا ما تكون متحقَّقة بشكل يفوق الأولى، فلا يمكن للنظرية الأينشتاينية الإحالة سوى لاثنين أو ثلاثة "تحققات" واضحة.
بالتالي، لا يمكننا أبدا في حقيقة الأمر، التحقق من عبارة علمية بل فقط دحضها: وبناء على وجهة النظر هاته، يظهر فرق جوهري بين العلم الواقعي والأنساق التأويلية التي سعى بوبر إلى فصلها عنه. لأن الثانية وبخلاف الأول، لا يمكن تحديدا دحضها. بل مجرد تأكيدها، واستحالة تكذيبها ما دامت لا تستبعد أيّ واقعة محتملة: إنها غير قابلة للدحض. الوضع الذي يجعلها قريبة من علم التنجيم، الذي يعبر عن تنبؤات فضفاضة جدا لا يمكنها أن تكون خاطئة.
هكذا، تتكيف تأويلات الماركسية والتحليل النفسي بشكل محكم مع كل الحالات، بالتالي لا يمكن تصور براهين قد تلغي مضامينها وتظهرها باطلة: "ما إن تفتحوا عيونكم عليها، حتى ترون أمثلة تؤكدها في كل مكان". بوسعها أيضا تأويل الوقائع الأكثر تناقضا، وتعتبرها تأكيدا لها.
حينما ينقد إنسان طفلا أو يعمل على إغراقه، يؤكد بوبر، سيفهم فرويدي ذلك أيضا على ضوء "أوديب"، في حين يتناول أدليري (ألفرد أدلر) ذلك على ضوء الإحساس بالدونية: تمثل الوقائع السياسية الأكثر تناقضا عند الماركسي إشارات عن أزمة الرأسمالية. إقرار، يضع الذين يتوخون انتقاد هذه التأويلات، داخل وضعية مستحيلة.
علاوة على ذلك، فالاعتراضات التي تطرح بصددها، انطلاقا أساسا من تصورها المختزِل، سيُؤَول بدوره كبرهان إضافي عن حقيقة النظريات التي صدرت ضدها. مادام أنها تظهر من وجهة النظر النفسية، كأشكال حتمية عن "المقاومة"، ومن وجهة النظر السياسية كمجموعة ردود أفعال إيديولوجية محددة اجتماعيا.
باختصار، تلغي الأنساق التأويلية منذ البداية كل معارضة، وتستحوذ على الكلام. إنها غير قابلة للدحض ولا يمكن الطعن فيها. فقط، وبخلاف مايظهر، بأن عدم قابليتها للدحض يمنحها فيما يبدو كل قوتها، ستعكس خاصية من هذا القبيل في حقيقة الأمر ضعفها : توخي أقصى ربح يؤدي في واقع الأمر إلى خسران كل شيء. ذلك، أن نظرية لا تسعى إلى المجازفة بالفشل، لا يمكنها أبدا النجاح.
بنجاحه الجميل جدا، يضع التحليل النفسي إطاره خارج العلم. وبناء على هذه البداهة (التي توخينا شخصيا في موضع آخر مناقشتها وإبرازها)، يقوم معيار التحديد عند بوبر، الذي يؤكد بأن قيمة تأكيد علمي يتأتى أساسا من قدرته على التجلي باعتباره خطأ: إذا لم تكن قادرا على توضيح طبيعة الشروط التي تجعل النظرية قابلة للدحض، فالنظرية ليست علمية.
مع العلم ذاته، تأخذ بالأحرى نظرية قيمة كبيرة، قدر استبعادها لوقائع ممكنة، تُلاحظ دون التباس. يتميز العلم إذن بنوع من الشجاعة وكذا سعيه نحو المجازفة بالمخاطر.
المثال النموذجي الذي تعارض مع موقف المفسرين الماركسيين وكذا المحللين النفسيين، يعود إلى أينشتاين،مقرا بأن يعتمد بخصوص مجمل نظريته المتعلقة بالنسبية العامة على تجربة واحدة، إبان كسوف 29 ماي 1919.
مع التذكير بتأكيد النظرية الأينشتانية، على أن الضوء الذي يصف منحنى داخل حقل جاذبية جسم ضخم، لا يمكن البرهنة عليه - ليس بالتأكيد مطلقا، لكن مقارنة بنظريات أخرى قائمة، حسب المعنى الوحيد الذي يمكننا تخويله لكلمة اختبار- أي أفضلية المجازفة والإقرار بالدحض من خلال اختبار الحزمة الضوئية لنجمة داخل مجال الشمس أثناء كسوف.
لقد مكنت التجربة التي أجراها آرثر إدينغتون من الحسم بين نظرية أينشتاين ونيوتن، بما أنها تجربة رئيسية ستفرض طبعا مراعاة نظرية النسبية العامة التي راهنت بأكملها على تلك التجربة. جاءت نظرية أينشتاين بكيفية لا تتماشى مع بعض النتائج المحتملة للملاحظة (في الواقع، تلك المرتقبة سلفا). مثال كهذا يفرض صورة للعلم، تتحدد كلية بالمجازفة نحو الخطأ: لا ينبغي للعقل توخي الهروب من الخطأ، بل يجدر به أن يثيره.فالعلم، لايمثل فضاء أمان، لكن حتما مجالا للاأمان. على ضوء ذلك، كل نظرية حاولت مسبقا دحض جل ما يخالفها سواء أكان قائما أو محتملا، فقد انطوت في نفس الآن على عقيدة ثم تفسير دوغماطيقي للارتياب، يقترب من الدين أكثر من العلم.
يمكننا معاينة عن كثب الوضع الذي أعطاه بوبر للتحليل النفسي. فبخلاف الماركسية التي كانت في البداية علما، بدا التحليل النفسي منذ الوهلة الأولى غير قابل للدحض. ليس، لأنه غير قابل للتطبيق على بعض الحالات الملموسة: لكن ظهر فعلا بشكل خاص أن كبار المحللين النفسيين، مثلوا نماذج رائعة جسدت نظرياتهم الخاصة. فرويد، الذي كانت له مشاكل أوديبية، مثَّل حالة فرويدية بامتياز؛ أما ألفرد أدلر الذي أحس طويلا بالإقصاء من طرف فرويد، فقد عَكَس بامتياز حالة أدليرية.
لذلك فالنظريات النفسية، تظل مجرد إسقاطات شخصية لمشاكل أصحابها. مع ذلك، اعتبر بوبر بأن قسما كبيرا مما قاله فرويد وأدلر، يمثل أهمية معتبرة، صحيحة في غالب الأحيان، "يمكنه في يوم ما لعب دور بخصوص علم سيكولوجي قابل للاختبار". إذن، ما الذي يؤاخذه بوبر على عمل المحللين النفسانيين؟
يرفض الخاصية التعميمية لأغلب التبريرات النفسانية، ونزوعها كي تصير واقعا لذاتها. المثال الفعلي لهذا البعد قدمه جواب أدلى به ذات يوم أدلر إلى بوبر (الذي اشتغل معه مدة من الزمان). بحيث توجه الأخير بسؤال إلى أب "التحليل النفسي الشخصي" يدور محوره عن سبب لجوئه إلى تشخيص عقدة النقص لدى طفل لم يظهر بهذا الصدد سوى إشارات ضعيفة. "لقد رأيت، يجيب أدلر، ألف حالة من هذا النوع". بالتالي، ستشكل الحال الجديدة، رقم الألف وواحد، يعقب بوبر، موضحا بأن كل تأويل يستند فقط على تطبيقاته السالفة، سينساق خلف، ملاحظة نمو اعتباطيتها، وكذا ثقتها في ذاتها. هكذا، ينزع الوصف السيكولوجي، ضمن نطاق ما إلى الامتزاج بهذيان تأويلي أكثر خطورة يلزم كل شيء إثباته. هذا مايبرر بشكل كبير، ارتياب العقلاني نحو إمكانية تشويه للواقع.
في الواقع، يتمثل الوهم الابستمولوجي الكامن هنا، في الاعتقاد بعلمية التحليل النفسي ما دام يستند على ملاحظات إكلينيكية، لكنه تصور يتجاهل بأن: "الملاحظات الإكلينيكية مثلها مثل كل الملاحظات، تعتبر تأويلات على ضوء نظريات، ولهذا السبب البسيط، تقدم الانطباع بكونها تؤكد النظريات التي على ضوئها أُولت هي كذلك". إذن، مادامت لا توجد عمليا، نظرية تمكننا من الحصول على إثبات تجريبي، تتجه بالتأكيد وظيفة رجل العلم صوب البحث عنها: ثم عليه أن يحدد سلفا، وفق أية شروط تجريبية، ستجعلها قابلة للدحض ليس فقط تلك المبادئ الجزئية،لكن أيضا المسلمات التي تشكل أساس نظريته.
يمكننا التساؤل في حالة التحليل النفسي، إن كانت سلسلة كاملة من المفاهيم، مثل المتعلقة بالازدواجية، لا تجعل منذ البداية دلالة كتلك مستحيلة.
إذن، محكوم على التحليل النفسي أن يطبق دون اختبار نظرياته قط، لذلك سينتهي في نهاية المطاف، كي يتخذ وضع أسطورة. وانطلاقا من أفق مختلف جدا، توصل بوبر في الأخير إلى وجهات نظر بعيدة شيئا ما عن تلك المعبر عنها من طرف ميشيل فوكو أو ليفي شتراوس.
يهمنا موقف بوبر من السؤال الذي نطرحه بخصوص التحليل النفسي، باعتباره "فلسفة خفية" و "سيكولوجيا مشفَّرة".
*المصدر:
Renée Bouveresse :le rationalisme critique de karl popper ;ellipses ;2000.