لم نستغرب كفلسطينيين إعلان صفقة القرن التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في شهر يناير الماضي، والتي سبق وقد أعلنت بأشكالها العديدة التي شرع رئيس الحكومة الإسرائيلية ببدء تطبيقها قبل إعلان الصفقة بأشهر، مثل إعلان نيته ضم الأغوار وتطبيق القانون الإسرائيلي على المستوطنات في خضم حملته الانتخابية. وكان لا بد من وضع خطة ممنهجة لرفض هذه الصفقة من قبل القيادة الفلسطينية التي قامت ببعض خطوات الحشد والمناصرة مثل قرار جامعة الدول العربية ومجلس الاتحاد الأفريقي وغيرهما، كما واستكملت هذه الإجراءات الحكومة الفلسطينية بحظر دخول بضائع إسرائيلية إلى الأسواق، مما أدى إلى رد فعل عنيف من قبل الحكومة الإسرائيلية؛ بحيث منعت الأخيره تصدير المنتجات الفلسطينية عبر الأردن، ما جعل بعض الوكالات الصحفية تقول إن ما يجري بين الطرفين يسمى بـ "الحرب التجارية". الخطوات التي قامت بها الحكومة الفلسطينية أخذت الدعم الكامل من قبل القطاع الخاص الفلسطيني الذي لم ينظر إلى مصالحه التجارية والربحية، وآثر المصلحة الوطنية لدعم وثبات الموقف الفلسطيني الرافض لأي صفقة تساوم على حقوق الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات. كما وأن الشعب الفلسطيني المنقسم عاد ليتحد من جديد بكلمة "لا" للصفقة التي أبرمت بين عائلة ترامب ونتنياهو، ومرة أخرى وجدنا أن هناك من "لا يملك يحاول أن يعطي من لا يستحق". فقد نزل الشعب الفلسطيني للشارع ليعبر عن رفضه رغم الظروف الجوية القاسية، وبات يعي أكثر من أي وقت مضى بأنه لا مجال للانقسام وأن توحيد الصف الفلسطيني هو ممر إجباري وطريق وحيد للموقف الواحد الثابت وهو التمسك بالقرارات الأممية التي تضمن للشعب الفلسطيني كافة حقوقه على أرضه التي احتلت عام 1967. وما أعني بالوحدة هنا ليس فقط بين الأحزاب السياسية المختلفة مثل فتح وحماس والجهاد الإسلامي بل وحدة الصف الاجتماعي والاقتصادي والثقافي ممثلا بالقطاع الخاص والمجتمع المدني والحركات الشعبية للاتفاق أيضا على لغة واحدة ضد عدو واحد وتوجيه المقاومة في اتجاه واحد فقط .
من ضمن أشكال المقاومة التي تعمل بشكل دؤوب في المرحلة الأخيرة، هي الحركات الشعبية التي تدعو إلى محاربة التطبيع بأشكاله، والتي يجب دعمها بشكل كامل ويجب العمل على منهجة هذه المبادرات من خلال وضع خطوط عريضة لما يسمى بالتطبيع، وذلك لتجنب الوقوع بالتخوين المباشر وغير المباشر لشخصيات ومؤسسات اقتصادية واجتماعية وسياسية لم تخرج عن الصف الوطني وعن حدود الاتفاقيات المبرمة من قبل السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية. حيث يجب التفكير بما هو الدور الواجب على القطاع الخاص الفلسطيني أن يلعبه في هذا المحور، فهل الاتفاقيات الاقتصادية المبرمة لاغية أم أنها سارية ؟ وبالتالي لا يجوز تخوين من يعمل ضمن إطارها؟ كيف يمكن اعتبار المئتي ألف عامل داخل الخط الأخضر؟ هل يندرج هذا تحت إطار التطبيع؟ ما هو وضع التبادل التجاري مع الكيان الإسرائيلي؟ يعيش حوالي مليون ونصف فلسطيني في فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨والمسماة اليوم بإسرائيل وهم يحملون جنسية هذه الدولة، ولكن انتماء معظم هؤلاء لهويتهم الأصلية ولوطنهم الأم، وبعضهم (القليل جدا) انحرفت بوصلتهم وأصبحوا مرتبكين فكريا وحزبيا وعمليا. وبالمقابل توجد في هذه الدولة قلة ممن لديهم قناعات إنسانية غير صهيونية. والسؤال هو هل يجب علينا أن نطبق نفس أسلوب التعامل تجاه هذه الفئة (من مواطني دولة إسرائيل) كما نتعامل مع الجندي الموجود على أرضنا والمستوطن وحامل الفكر العنصري الصهيوني.
إن صعوبة النموذج الذي نعيشه يحتم علينا اتخاذ مواقف واضحة وعقلانية فيه بعيدا عن المزايدات والغوغاء التي دمرت مجتمعنا مثل التسحيج والانبطاح والعديد من الظواهر الكلامية التي لا ترتقي لمستوى الفعل الإيجابي والتخطيط بعيد المدى.
لقد نشرت الأمم المتحدة قائمة بالشركات العاملة داخل المستوطنات أو المستثمرة في المستوطنات التي يعتبرها القانون الدولي غير قانونية، وهذه كانت خطوة تستند إلى جهد دؤوب من عمل الدبلوماسية الفلسطينية ودعم من المؤسسات الحقوقية الفلسطينية والإقليمية والدولية، وقد قمنا جميعا بتشجيع هذه الخطوة لما تستند إليه من مرجعية دولية تحدد الضوابط، وذلك لأسباب لا يختلف عليها فلسطينيان من ناحية الاستيطان غير الشرعي وغير القانوني، ولكن هل جميع ما يتم نشره عن كل تعامل تجاري مع شركات إسرائيلية أو عقد أي اجتماع يحمل مرجعية وطنية، وهل يمكن أن يكون لدينا نفس الآلية لمعرفة ما هو ممنوع أو مكروه وما الفرق لدينا؟
إن المجتمع الفلسطيني بحاجة إلى مرجعية عامة يستند إليها بالرغم من الاتجاهات السياسية المختلفة. شرعنة المبادرات الشعبية والمجتمع المدني بمرجعيات عامة وخطوط عريضة تدعم مواقف القيادة الفلسطينية في رفض أي صفقة لا تفي الشعب الفلسطيني حريته وحقوقه، ولكن لا بد من منهجة هذه المبادرات لتجنب الوقوع في التفكك الاجتماعي الذي من شأنه أن يسبب الفوضى ويجعل بعضنا عرضة للعار العام وغير المبرر، وكما وأن من شأن هذا أن يترك المجال مفتوحا للدسائس والذم والتشهير التي لا حاجة لها في الوقت الذي نحتاج به أن نكون متعاضدين أكثر من أي وقت مضى.
مما لا شك فيه، أن حالة الانفصام التي نعيشها في هذا الملف هي بسبب دولة الاحتلال التي لم تلتزم بأي من الاتفاقيات التي تعطي الجانب الفلسطيني أبسط الحقوق الوطنية والإنسانية ومن تمادياتها اللامنتهية على جميع الأصعدة الأمنية والاقتصادية والإنسانية والسياسية وقراراتها أحادية الجانب واستخفافها بأصحاب الحق، ما جعلنا كفلسطينيين نفقد الثقة بأي معاهدة قديمة كانت أم جديدة وجعلنا نفكر ونبتكر سبلا جديدة لمقاومة هذا الاحتلال غير العادل. و لكنني أعتقد أنه من الخطير الاستمرار بالاجتهاد الفردي أو الجماعي وإطلاق الأحكام مستعملين المنصات الإعلامية وشبكات التواصل الاجتماعي دون منهجية متفق عليها.
"إن ما يجب أن يعيه الجميع، أن إنهاء الاحتلال وتحصيل الحقوق الفلسطينية السيادية كاملة هي ليست فقط لتحقيق الحريات والكرامة لجميع أفراد الشعب الفلسطيني؛ بل أيضا حاجة اقتصادية وتنموية ملحة، إذ أن القطاع الخاص كما والحكومة يدركون تمام الإدراك أنه لا يمكن تطوير اقتصاد فلسطيني مستدام وحقيقي دون وجود سيادة كاملة على الحدود وسياسة ضريبية ونقدية مستقلة. مما يدعونا أن نعمل سويا في نفس الخندق دون الانجرار إلى منطق التخوين والتفرقة".
ومن هنا، فإنني أناشد وأدعو الحكومة الفلسطينية ومؤسسات القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني، للعمل بشكل جماعي للاتفاق على الخطوط العريضة للمرحلة القادمة وتوخي الحذر من الفوضى الجديدة، آخذين بعين الاعتبار الظروف الاقتصادية المحيطة بالشعب الفلسطيني والعواقب المحتملة على أي خطة يتم الاتفاق عليها، كما وأدعو إلى التوعية الجماهيرية وضبط ومساءلة كل ما هو خارج الصف الفلسطيني.