تتساقط الدول العربية ومعظم الدول الإسلامية دولة بعد أخرى في فخ الاستعمار الأمريكي الصهيوني من جديد. فاستقلال هذه الدول لم يكن في منتصف القرن الماضي استقلالا حقيقيا عن الاستعمار العربي، وإنما كان ترتيبا إمبرياليا يكرس القطرية العربية والإسلامية ويغذي النزاعات البينية والداخلية في هذه الأقطار فاقدة للشرعية الشعبية ليعزز ويثبت وجود الكيان الصهيوني الذي زرعه في قلب الوطن العربي على أرض فلسطين وطرد معظم شعب فلسطين من أرضه وتشتيته في أقطار العرب والعالم.
واليوم تكاد فصول المؤامرة على العرب والمسلمين وأقطارهم الهشة بتساقط الأنظمة العربية واحدا تلو الآخر، كأوراق الخريف دون أن يتبع هذا الخريف ربيعا قريبا يبشر بانبعاث الأمة العربية والإسلامية من تحت الرماد وغفوة أصحاب القبور، تحت جزمة بنيامين نتنياهو وكوشنير صهر ترامب وغرينبلات وفريدمان. هذه المجموعة المتصهينة التي تفرض الرواية الإسرائيلية التوراتية الواهبة على العالم العربي والإسلامي وحتى العالم كله بأنظمته ومنظماته الدولية وهيئاته المختلفة.
ولا نستغرب في يوم قريب، أن يقوم الكيان الصهيوني بادعاء ملكية المدينة المنورة ومدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيبر، طالما تدعي أن القدس أولى القبلتين هي عاصمتها، وأن المسجد الأقصى هو الهيكل المزعوم، فما زال المشروع الصهيوني "حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل"، قائما بل هو اليوم قريب من التحقيق. وإلا كيف نفسر ما جرى في العراق من احتلال أمريكي وتقسيم طائفي ومذهبي وقومي وديني ونهب لثرواته وإضعاف لسلطته المركزية وإحلال المليشيات الطائفية مكان جيش الدولة. وبماذا نفسر ما يجري لسوريا التي بات نصف شعبها مهجرا في المنافي ونصفه الآخر بلا مأوى والدمار حل بمعظم مدنه وبلداته وقراه، والأتراك يحتلون أجزاء من شماله والكيان الإسرائيلي يحتل أجزاء من جنوبه، والأمريكان يتموضعون من شرقه وشماله وينهبون نفطه ويعترفون بضم الجولان لإسرائيل والغارات الإسرائيلية شبه اليومية على مواقعه العسكرية المحيطة بعاصمته دمشق.
وقصة السودان وهي أحدث قصص خريف العرب وتساقط أقطاره في أحضان المشروع الصهيوني، وهي بلا شك لن تكون آخر السقوط العربي الرسمي، ويبشر بنيامين نتنياهو بأن عددا كبيرا من الدول العربية والإسلامية في طريقها إلى إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل، وأن ما يظهر من هذه العلاقات اليوم ليس سوى رأس جبل الجليد في المحيط، ما يضع إسرائيل في مصاف الدول العظمى التي يسعى الآخرون للتحالف معها، فهي دولة قوية ويسعى الآخرون للتحالف مع الأقوياء.
عبد الفتاح البرهان سمع هذا الكلام من بنيامين نتنياهو ورأى فيه خشبة الخلاص لزمرة العسكر التي ركبت موجة الحراك الشعبي السوداني وجلست على كرسي الحكم كبديل لعمر حسن البشير الدكتاتور الذي أفقر السودان وشعب السودان وقسم الوطن إلى دولتين ورشحه لقسمة أخرى، وأدخل السودان في حرب أهلية أكلت الأخضر واليابس. السودان التي هي قارة في مساحتها، فيها من الأنهار والبحار ومئات ملايين الهكتارات من الأراضي الخصبة وملايين رؤوس الماشية يتضور أهلها جوعا وفقرا وشعب السودان من أكثر الشعوب العربية والإسلامية وعيا سياسيا وعلميا وحزبيا، ولكنه ابتلي بحكام على شاكلة جعفر نميري وعمر البشير وعبد الفتاح البرهان العسكري المهزوم، الذي يرى اليوم أن خلاص السودان ليس في الاعتماد على طاقات شعبه الأبي الذي ما خان يوما فلسطين ولا تآمر عليها؛ وإنما في التحالف مع الكيان الصهيوني ولقاء بنيامين نتنياهو وفتح أجواء السودان أمام الطيران الإسرائيلي وأبواب السودان بأرضه ومناجمه ومياهه وشركاته للمستثمرين الصهاينة. ولأن البرهان لا يدرك شيئا من التاريخ أقدم على هذه الخطوة، الخيانة تحت تأثير بعض الصبية من حكام العرب، ولم يعد بذاكرته الضعيفة إلى ما حلّ بجارته مصر بعد أن وقع أنور السادات اتفاقيات كامب ديفيد المشؤومة مع الكيان الإسرائيلي، عندما وعد السادات شعب مصر بالسمن والعسل فإذا بشعب مصر اليوم لا يجد الخبز والبصل وتلاشى دورها الإقليمي الرائد في الأمة العربية والإسلامية وفتح الطريق أمام الأنظمة العربية للتطبيع من تحت الطاولة حتى جاء البرهان ليجلس فوق الطاولة معلنا جهارا نهارا التطبيع والعلاقات الدبلوماسية ولجان التنسيق.
لقد جاء الموقف السوداني (موقف البرهان ومجلسه العسكري) من الصراع الفلسطيني الصهيوني في وقت أحوج ما تكون فيه القضية الفلسطينية إلى دعم الأشقاء العرب لمواجهة مؤامرة القرن التي تسعى الإدارة الأمريكية الحالية المتصهينة بالتنسيق الكامل مع بنيامين نتنياهو، لفرضها علنا على شعب فلسطين تنهي بها ما أقدم عليه البرهان وما قد يقدم عليه آخرون من الحكام العرب في هذا الخريف العربي الحزين.
ولكن الأمل يبقى معقودا على حراك شعبي عربي يخرج المنطقة من الهيمنة الأمريكية الصهيونية، ومن خريف العرب، ويبشر بربيع عربي ليس على غرار ذلك الذي حول الأقطار العربية إلى كانتونات وفدراليات ودول فاشلة وشعوب مهاجرة وقتلى بمئات الآلاف ونهب الثروات ودمار في كل مكان من بلاد العرب الذين باتوا محل تندر واستخفاف من كل شعوب الأرض، إذ كيف يعقل أن مئات ملايين العرب منهم العالم والعامل والمؤمن بحق الشعب العربي في الحرية والديمقراطية والحياة الكريمة، شعب يتموضع في أهم مناطق العالم ولديه من الثروات ما يغنيه إلى الأبد وكيف يصل به الهوان أن يتخلى عن قضاياه المصيرية وحقوقه المشروعة ومعتقداته الدينية وكرامته وشرفه ولا يتصدى لأعدائه الذين يستهدفون وجوده التاريخي والحضاري والإنساني وهم للأسف أعداء لا يعتبر بهم ولكنه الوهن الذي سكن قلوب هذه الأمة.