إن أغرب ما يجري اليوم، هو اكتشافنا المفاجئ لمسيرة "التطبيع مع العدو الصهيوني"، وكأن شعبنا ليس بشاهد حي على تشعب العلاقات مع هذا "العدو الصهيوني" على كافة المستويات الرسمية والشعبية. ويبدو أن عقال البلد قد فلت ولا يوجد هناك من يرده، فليس من المناسب أو المقبول خلط الأوراق وتوزيع التهم جزافا وبدون مسؤولية، فقط لأن فلانا قد لا يروق لعلان، أو لأن هناك من "حيطه واطي" وغيره محصن من النقد والمعارضة.
في ظل الخلط والتهرب من تحديد العلاقة مع إسرائيل أو "العدو الصهيوني" لا فرق، فإن ما جرى بحق مطعم Casper & Gambini’s Palestine من تشهير وتشويه وإضرار بسمعته، يعتبر تطاولاً وجريمة يجب أن تستنكرها القيادة والأطر الرسمية في م.ت.ف، وأن يحاسب عليها القانون (هذا إن كان هناك قانون)، لما يلي:
كما يشير البيان الصادر عنه، فإن المطعم لم يبادر لدعوة إسرائيليين لتناول وجبة غداء، بل إن من قام بحجز الطاولة وحدد العدد هو مسؤول فلسطيني رسمي يتقلد أعلى المراتب، ولا يتنفس إلا بإذن من الرئيس وربما بعض أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح، وأشك تماما أنه أبلغ المطعم أو سلمه قائمة بالمدعوين وصور جوازات سفرهم للتحقق من شخصيتهم. ولا أشكك بوطنية أي من العاملين في المطعم أو مالكيه، وإنني لعلى ثقة بأن وجود هؤلاء في المطعم قد يكون سبب إحراجا شخصيا للبعض من أسرة المطعم، وقد يكون بعضهم استكثر مسألة تقديم وجبة لهم في العاصمة الإدارية المؤقتة.
ليسأل كل منا نفسه، هل أتى هؤلاء إلى رام الله بالبرشوت غازين مقتحمين، أم بدعوة رسمية فلسطينية، وتجولوا في رام الله في ظل حراسة ومرافقة من الأجهزة السيادية المختلفة؟؟؟. ولذلك، لماذا علينا أن نتوقع أن يقوم أي محل تجاري (المطعم) برفض وجودهم، وهم يأتون تحت عباءة المسؤولين وبحراسة ومرافقة رسمية. وهل توجد يافطة على باب المحل تقول إن فصيلا سياسيا من فصائل م.ت.ف حتى ينصب نفسه معبرا عن تطلعاتنا السياسية، ويتم التنكيل به لخروجه عن "الصف الوطني"؟. وعليه، فالأحرى بمن ساءه المنظر (ولم يرق لي شخصيا) أو الواقعة، فإن اسم وعنوان الداعي ومنصبه ومن أعطاه الغطاء السياسي معروفين للبلد، والأجدى مساءلتهم في حال قام أي منهم بخرق الموقف السياسي الفلسطيني الرسمي وثوابته.
يعتبر التواصل مع بعض فئات المجتمع الإسرائيلي، خاصة التقدميين منهم، من أهم أركان السياسة الفلسطينية في التعاطي مع المجتمع الإسرائيلي أو "العدو الصهيوني"، وقد تبنته الأطر القيادية كافة في م.ت.ف (باستثناء الجبهة الشعبية) وخصوصا حركة فتح، ولا يوجد، بحدود ما أعلم، أي موقف سلبي أو حتى حيادي من التواصل مع المجتمع الإسرائيلي من قبل م.ت.ف (مرجع السياسة الفلسطينية ومحدد إطارها الناظم)، بل داعمة له. فإن كان برنامج التواصل لا يفي بالغرض ويضر بالمصالح الفلسطينية، فمن الأولى أن يرفع المحتجون صوتهم عاليا معارضين ومحتجين على من شرعن ذلك وهو القيادة ممثلة بالرئيس واللجنة التنفيذية واللجنة المركزية لحركة فتح، وليس ضد محل تجاري "لا ناقة له في موضوع التطبيع ولا جمل".
هناك خلط وضبابية في الموقف الرسمي والشعبي الفلسطيني من المرحلة بأكملها، وبالتالي الأولى أن يتم الضغط على النظام السياسي ليحدد موقفه بوضوح من كل ما يجري ويضع أجلا لانتهاء صلاحية اتفاقيات أوسلو، ويرسم البوصلة ويصارح الشعب المغيب بما هو آت. وفي ظل كل ما جرى ويجري من نسف للمشروع الوطني بالتواطؤ الإسرائيلي الأمريكي العربي، فإن الإطار القيادي الفلسطيني مطالب أكثر من أي وقت مضى بتحمل المسؤولية والبت القاطع في مسألة شكل ومحتوى العلاقة مع إسرائيل على كافة المستويات، وعلى رأسها شرعية التواصل المجتمعي ووظيفته في سياق الموقف الفلسطيني من المرحلة بمجملها، والحدود الفاصلة ما بين "التواصل" و"التطبيع" وتناول وجبة فلسطينية في "قلب العدو".
أختم بالقول إن شعبنا بحاجة للتصالح مع الذات وتكريس وقته وجهده وتضحياته لصون فلسطينية المكان وفلسطينية المصير على تراب فلسطين، في ظل دولة ديمقراطية تعددية تلتزم بحقوق الإنسان، وتمارس على قاعدة أنها دولة كل مواطنيها، وتقدس تداول السلطة في مواعيدها، والترفع عن الصغائر والمعارك الجانبية التي نخرج فيها مهزومين في كل مرة، بينما تبتلع "دولة الكيان الصهيوني" مصيره في كل لحظة. نحن اليوم بحاجة لجبهة صلبة وموقف موحد في مواجهة العدوان الأمريكي السافر والحرب التي فرضها ترامب أمريكا علينا، وليس أكل أصنامنا وسبي نسائنا، ووأد أحلامنا وتهجير شبابنا، واختصار قضيتنا في وجبة غداء عابرة.