رغم مرور عشرات السنين على ميلاد الكثير من الأغاني الجميلة، إلا أننا حين نستمع إلى بعض منها اليوم، نشعر بنشوة من الطرب، لصدق الكلمات، التي تقف خلف القصص الحقيقية، لولادة تلك الأغاني، التي عاشها المؤلف أو الملحن أو المطرب نفسه، حتى أننا ما زلنا نحفظ، الكثير من المقاطع رغم مرور قرن من الزمان أو أكثر. فقبل 103 سنوات وبينما كان الشاعر محمد يونس القاضي "مؤلف النشيد الوطني (بلادي بلادي بلادي) ومؤلف أغنية (يا عزيز عيني)"، مرض مرضا شديدا أقعده في المستشفى فترة طويلة، زاره خلالها كل الأصدقاء والأقرباء إلا شقيقته، التي كان على خلاف معها استمر سنوات طوال. وفي أحد الأيام، دخلت شقيقته إلى غرفته في المستشفى، دون استئذان، مما جعله ينسى أسباب الخصام ويكتب أغنية (زوروني كل سنة مرة… حرام تنسوني بالمرة.. أنا عملت إيه فيكم… أنا اللي طول عمري أداريكم) التي سرعان ما لحنها وغناها سيد درويش، علما أن شهرة الأغنية هذه ذهبت للسيدة فيروز.
ومع أن أم كلثوم غنت أغنية (غلبت أصالح في روحي) دعما للجيش المصري الذي كان محاصرا في فلسطين، عام 1948، (كان البكباشي أو العقيد، جمال عبد الناصر محاصرة في الفالوجا)، إلا أنه وبعد نجاح ثورة تموز/ يوليو 1952، أصدر أحد صغار الضباط، المسؤول عن هيئة الإذاعة المصرية، قرارا بمنع إذاعة أغاني أم كلثوم بحجة أنها غنت للنظام الملكي السابق، لا بل وتم عزل "الست"، من منصب "نقيب الموسيقيين المصريين" أيضا! وعندما علم عبد الناصر بهذا الأمر بعد أقل من شهر، قام على الفور بإلغائه. وفي أكتوبر من العام نفسه، أحيت أم كلثوم حفلا غنائيا في سينما ريفولي وسط القاهرة، أهدت فيه أغنية "مصر التي في خاطري" إلى جمال عبد الناصر.
أما أغنية "الأطلال" الخالدة (166 بيتا)، فقد كتبها طبيب مصري، على "روشيتات" عيادته، اسمه إبراهيم ناجي، الذي كان يهوى الشعر الغزلي، إضافة إلى براعته وشهرته كطبيب بشري، ليهديها إلى حبيبته الفنانة "زوزو الحكيم"، بعد أن تزوجت من الصحافي الشهير "محمد التابعي"، مؤسس مجلة "آخر ساعة". ومع أن أم كلثوم غنت 32 بيتا فقط من القصيدة، في العام 1966، أي بعد 13 عاما من وفاة مؤلفها؛ إلا أن ذلك التأخير جاء أيضا!، بعد 4 سنوات من خصام بين "ثومة"، والملحن الكبير رياض السنباطي، الذي رفض رفضا باتا طلب "الست"، بتغيير آخر مقطع شعري من الأغنية (لا تقل شئنا فإن الحظ شاء). يذكر أن قاعة الحفل اشتعلت بالتصفيق، عندما رددت "الست"، عدة مرات، ذاك المقطع الأخير. وما إن انتهى الحفل حتى ذهبت أم كلثوم، إلى منزل السنباطي، لتبكي أمامه، أسفا على تأخير الأغنية 4 سنوات.
وجاءت الفرصة لعبد الحليم حافظ، بمناسبة الاحتفال بالبدء ببناء السد العالي يوم 10 كانون 2/يناير 1960، بأن يغني أمام الرئيس جمال عبد الناصر وضيوفه، من ملوك ورؤساء، أغنية يلهب فيها مشاعر المصريين ومشاعر الأمة العربية كلها بعد أن رفضت أميركا وأوروبا والبنك الدولي، منح مصر قرضا، لتمويل مشروعها التاريخي. واتفق عبد الحليم مع صديقه الملحن كمال الطويل، أن يكتب الشاعر أحمد شفيق كامل كلمات الأغنية، (الذي كتب أغنية "وطني الأكبر"، ثم "أنت عمري"، "أمل حياتي"، "الحب كله"، وخلي السلاح صاحي بعد حرب 1973). واتفق الثلاثة أن يلتقيا في منزل الملحن الكبير. وكانت كلمات الأغنية تعبر باللهجة المصرية عن قصة معركة مصر في بناء السد. وأعرب الملحن عن تخوفه من تلحينها، لأن الأذن العربية لم تكن قد سمعت أغنية وطنية بالعامية من قبل، بعكس عبد الحليم الذي ظهر متحمسا لهذا اللون الجديد مؤكدا أنه وحده من سيقف أمام الجمهور وأنه سيتحمل المسؤولية!.
وجاء يوم الحفل، عندما جلس عبد الناصر وإلى جانبه الزعيم السوفيتي خروتشوف. وبدأ عبد الحليم يغني، وبدأت مشاعر 10000 متفرج، إضافة إلى عشرات الملايين من الشعوب العربية الذين جلسوا بالقرب من الراديو، يستمعون إلى أعظم أغنية وطنية، وعبد الحليم يردد ويقول، (راح على البنك اللي بيساعد ويدي... قاله حاسب… قالنا مالكمش عندي.... وكانت الصرخة القوية من الميدان في اسكندريه...)، ويقول عبد الحليم:- حين وصلت إلى هنا، بدأت أرتجف وأنظر إلى "الريّس"، وكيف ستكون ردة فعله عندما سأكمل المقطع وسأقول:- (ضربة كانت من المعلم… خلى الاستعمار يسلم)! وإذ بالجماهير كلها تصرخ وتردد معي ذاك المقطع الذي عدت أُكرره مرة تلو المرة، وأنا أنظر إلى عبد الناصر الذي كانت ضحكته قد وصلت حتى أذنيه، إذ لم يكن أحد، من قبلي أو بعدي، قد قالها (معلم) لعبد الناصر. ومع نهاية الحفل وقف الرئيس يصفق وضيوفه، وكل الرؤساء وأعضاء مجلس الثورة تحية لهذه الأغنية الوطنية.
والحقيقة أن عبد الحليم حافظ، كان أكثر المطربين ممن غنى أغانٍ وطنية، مثل (المسيح، "فدائي"، الله يا بلدنا، بالأحضان، المركبة عدت، إحنا الشعب، البندقية تكلمت، صباح الخير يا سينا، وخلي السلاح صاحي)، ومع ذلك أُطلِقَ عليه لقب "المطرب الحزين" أو "العاطفي". ويروي الشاعر عبد الرحمن الأبنودي أن عبد الحليم، غضب منه مرة، عندما علق قائلا، إن أفلامه، غالبا ما تنتهي بأغنية حزينة. وكان رد عبد الحليم تحديا للأبنودي، بأنه لا يستطيع كتابة أغاني عاطفية أو حزينه، فما كان من الأبنودي إلا وأن وضع رهانا مقابل تحديه لعبد الحليم. وبالفعل دخل الأبنودي ومعه ورقة وقلم إلى غرفة المطبخ، تاركا عبد الحليم وكمال الطويل ومحمد الموجي في صالون منزل المطرب الشهير، القريب من حديقة الأسماك في حي الزمالك. وفي أقل من نصف ساعة خرج الشاعر ومعه كلمات لأغنية حزينة، أسماها "أحضان الحبايب". ومع أن عبد الحليم لم يصدق ذلك، إلا أنه دفع الرهان، ليغنيها في فيلم أبي فوق الشجرة، بعد أن لحنها له محمد الموجي. (شخصيا… ما زلت أذكر، أنه وأثناء عرض الفيلم في سينما العاصي، أن نحيب وبكاء النابلسيات، كان يغطي تماما على صوت عبد الحليم في تلك الأغنية).
أما الأديب والصحافي الشهير "كامل الشناوي"، فقد اتصل هاتفيا ذات ليلة، بمعشوقته وحبيبته، المطربة "نجاة الصغيرة"، ليخبرها بأنه أصبح على علم، بأنها على علاقة مع الكاتب "يوسف السباعي"، وأنه قد شاهدهما معا، ويقال بأن شقيقتها الفنانة سعاد حسني هي من أبلغت الشناوي بعلاقة الحب بين الاثنين. ومع أن نجاة، حاولت إنكار ذلك إلا أن العاشق الولهان، بعث لحبيبته بقصيدة وداعية، جاء فيها (لا لا لا تكذبي.. إني رأيتكما معا… ودعي البكاء فقد كرهت الأدمعا)... ثم ينهي قصيدته ويقول (كوني كما تبغين… لكن لن تكوني.. فأنا صنعتك من هوايا ومن جنوني). وطلبت نجاة، من العاشق المسكين، أن تسأل محمد عبد الوهاب لكي يلحنها لها، وكانت الأغنية من أجمل وأرقى أغاني العتاب. يذكر أن الكاتب "مصطفى أمين" أشار في مقالة له في جريدة "أخبار اليوم" عن علاقة حب بين طرفين أدت إلى ولادة أغنية "عن الكذب"! مما اضطر نجاة الصغيرة، أن ترفع دعوى قضائية ضد "مصطفى أمين"، إلا أنها خسرتها لأن الكاتب لم يذكر الاسم في المقال.
وظل الناس يعتقدون أن أغنية المطربة الدلوعة "شادية"، (قولوا لعين الشمس ما تحماشي)، هي الأغنية التي يرددها الأهل أو العشاق عند الفراق. والحقيقة أن هذه الأغنية هي أول أغنية سياسية- وطنية مصرية، غناها المصريون في ليلة إعدام البطل "إبراهيم الورداني"، يوم 18 أيار 1910، الذي اغتال رئيس وزراء مصر، بطرس غالي. والشهيد إبراهيم الورداني، شاب مسيحي، وطني، درس الصيدلة في سويسرا، وعمل في أوروبا قبل أن يعود إلى مصر لينضم إلى الحزب الوطني الذي ترأسه "مصطفى كامل"، صاحب القول المأثور (لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا). واعتبر "الورداني"، أن قرار رئيس الوزراء "بطرس نيروز غالي"، (الجد الأكبر لبطرس غالي، أمين عام الأمم المتحدة سابقا، ووزير خارجية مصر السابق)، السماح لبريطانيا بتمديد سيطرتها على قنال السويس 40 سنة أخرى هي خيانة للوطن، وعليه يجب اغتياله. وقام "الورداني" بتنفيذ ذلك يوم 20 شباط 1910. وتابع المصريون محاكمة بطلهم الذي رفض "الندم"، بل وقف بكل كبرياء يصرخ ويقول حين نطق بالحكم عليه شنقا حتى الموت، "تحيا مصر.. تحيا مصر" وأطلق المصريون عليه لقب "غزال البر". وأصدر الإنجليز قوانين صارمة بحق كل من يهتف لصالح الوطنيين، وعليه قام المواطنون البسطاء بتأليف وتلحين أغنية وداعية ليلة إعدام البطل، تقول (قولوا لعين الشمس ما تحماشي ... لحسن غزال البر صابح ماشي) وبمرور الوقت نسيت الناس الموال الشعبي مثلما نسوا "إبراهيم الورداني"!. ومن الجدير ذكره، أن أول من غنى، هذا الموال الشعبي، بكلماته الأصلية، كانت الفنانة، "نعيمة شخلع"، أشهر "عالمات" شارع عماد الدين الفني، وذلك قبل أن تغنيه شادية بألحان بليغ حمدي عام 1966.
أما المطربة والفنانة اليهودية الأصل "ليلى مراد"، التي اشهرت إسلامها على يد شيخ الأزهر عام 1946، ويقال بأن رئيس جماعة الإخوان المسلمين الشيخ "حسن البنا"، هو من دعاها إلى الإسلام أثناء تمثيلها فيلم "ليلى بنت الفقراء"، فقد ارتبطت أغنيتها الجميلة "أنا قلبي دليلي"، مع زوجها، السوري الأصل، أنور وجدي، بالمشهد التاريخي وهي تغني له في فيلم "قلبي دليلي" عام 1947، وهي مرتدية أغلى فستان عرفته الشاشة العربية في حينه، حتى قيل بأن ثمنه كان يساوي ثمن فيلا في أرقى مناطق القاهرة.
وكانت أغنية المطربة الشهيرة "فيروز"، "سألوني الناس عنك يا حبيبي.... كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا... بيعزّ عليي غني يا حبيبي... لأول مرة ما منكون سوا"، التي غنتها في مسرحية "المحطة"، عام 1972، والتي جاءت بعد غياب زوجها الفنان عاصي الرحباني عن المسرحية بسبب إصابته بجلطة في الرأس، عندها قام شقيقه الفنان منصور، بإضافة هذه الأغنية إلى المسرحية، بعد أن لحنها ابن عاصي وابن فيروز، الفنان زياد، الذي لم يكن قد بلغ 18 عاما. ومع أن عاصي، قرر أن يلغي الأغنية من المسرحية بعد شفائه؛ إلا أن نجاحها، ونجاح المسرحية جعلاه يتراجع عن ذلك. وفي العام 1986، توفي عاصي الرحباني ووقفت فيروز تغني الأغنية، إلا أنها بكت أمام الجمهور الذي ظل يبكي معها أيضا.
ومع انحطاط عصر رقي الأغنية العربية، الذي عكس انحطاط الكثير من ظواهر المجتمع العربي، ظهرت أغاني السبعينات، مثل "الطشت قال لي" وغيرها من الأغاني الهابطة، التي ومع مرور نصف قرن لم ينته تقليدها حتى اليوم، ومع أن هناك قصة سخيفة لظهور أغنية (السح السح امبو..) "للمغنواتي" أحمد عدوية، الذي يقول إن ابن شقيقته الصغير وقع الأرض مرة وبدأ بالصراخ والعياط والعويل، أثناء انشغال والده بلعب "النرد" مع مطربنا المغنواتي، وكانت الأم تأتي بين الحين والآخر لتقول لابنها (اللي بيعيط):- السح، الدح! ....ثم يرد زوجها مبتسما في وجه ابنه قائلا:- امبووو… امبو! ثم يعيد الزوجان المشهد عدة مرات على إيقاعات عياط "الواد" الذي بدأ يطلب ماء، وهما ما زالا يغنيان:- السح الدح .. امبووو...خدي الواد لأبوه… يا عيني الواد بعيط... الواد عطشان اسقوه ...أو "ارقوه"، وانتشرت الأغنية كالنار في الهشيم في عالمنا العربي بعد أن رقصت عليها الملايين. وهكذا كسب أحمد عدوية جنيهات ودولارات ودراهم ودنانير من هذه الأغنية أكثر مما كسبه سيد درويش وأم كلثوم وليلى مراد وعبد الحليم وشادية وكل مطربي العصر الجميل. ترى كم كسب المطرب الكبير "سعد الصغير" بعد أن غنى أغنيته الخالدة (بحبك يا حمار؟؟؟).
(ملاحظة:- العالم العربي مشغول الآن "لشوشته"، بأغنية تحمل اسم "بنت الجيران" للمغنواتي الصاعد "كماشة" أو شاكوش والله أعلم) … دقي يا مزيكا!