الحدث فكر ونقد
ما الذي تغير في وظيفة الحديد من "مملكة داوود" إلى "دولة اليهود،" وهل الحديدُ هو السلاحُ أم حاملوه والمتَّرسون به في حروب الانتصارات عن بُعد؟ لا يحتاج الفلسطينيون إلى دروس فلسفية كبرى في "السلطة الحيوية" و"الموت البطيء" و"أطر الحرب" و"سياسات الموت والحياة" "والمعمار الجنائي" للإجابة... فكل ما يحتاجونه قراءةٌ خطيَّة بسيطة في تاريخ الفداء المكتوب بالعنف الاستعماري على أجساد الضحايا في ثلاجات العدو، وشواهد قبور الشهداء فيما تبقى من فلسطين، بالحروف أو بالأرقام. لا يحتاج الفلسطينيون إلى قواميس أصدقائهم لمعرفة "قواعد الاشتباك" في المعركة، ولا إلى قواميس أعدائهم لفهم معاني "طهارة السلاح" في الحرب... فكل ما يحتاجونه نحوٌ جديد، ذاكرةٌ نافية لحمق التاريخ، بدائلُ معجميَّة للقواميس العامة، محدودة المداخل، مختصرة التعريفات، وإن لم ترُق لتجَّار الواقعية السياسية ومثقفِيْ البلاغة الناعمة. مثلاً:
"غزة: واحةُ صبَّار."
"الفلسطيني: ضحيَّةٌ برسم الدفن."
"الصهيونيُّ: سائقُ آلة موت. يحدد المواقيت، والأمكنة."
"الحديدُ: سلاحٌ قديم. يتغيَّر سائقُهُ. ضحيَّتهُ ثابتة. أسنانُهُ تسقط بالتقادم."
لكنْ، هل هذا كل ما يمكن قوله في مشهد سحق جرَّافة صهيونية جسدَ الشهيد الغزِّي محمد الناعم، وشنقه، على تخوم خانيونس في 23 شباط 2020؟ هل هذا كل ما يمكن تذكُّره من صور أجساد فخر قرط، وفارس عودة، وراشيل كوري وآلاف الشهداء الذين دفنتهم جرافات العدو، ومثَّلت بهم روبوتاته، ومزقتهم صواريخه، ودفنتهم طائراته، وأغرقتهم سفنه الحربية؟ الإجابة بالقطع "لا"، فثمة إرثٌ من التوحُّش محفور على جسد الفلسطيني لا يسعف في وصفه الشعر، ولا ما يشبهه، إذ يفقد الشعر في الحرب جدواه، أو يرجِّئها قائلوهُ، إن تمتعوا بالموهبة. لكن علينا اليوم، ربما، أن نكفَّ عن تأمُّل مقترح محمود درويش بأن "نلقن الأعداءَ درساً في الزراعة، ونزرع فلفلاً في خوذة الجندي،" إذ لا زال الأعداء "يقطعونَ العمر في دبابةً" لا تجرُّ محراثاً، ولا زالت خوذة الجندي غير مثقوبة لجذور فلفلنا... لكن ربما علينا الالتفات إلى شاعرٍ أحبَّهُ شاعرُنا، الألمانيِّ بريخت، إذ لديه ما هو أكثر جدوى، نصيحة لجنرال العدو-ربِّ الجنود، ولنا:
"دبابتُكَ،
أيها الجنرالُ، آلةُ فعَّالةٌ،
تحرث الغابات، وتسحق مئات الرجالِ،
لكنَّ فيها عيباً واحداً: أنها تحتاجُ سائقاً.
طائرتُكَ، أيها الجنرالُ، جبَّارةٌ، إنها أسرعُ من العاصفة،
وتحملُ من القنابلِ أكثر من فيلٍ، لكنَّ فيها عيباً واحداً: أنها تحتاجُ ميكانيكياً.
إنسانكُ نافعٌ، أيها الجنرالُ، قد يطيرُ، وقد يقتلُ، لكنَّ فيه عيباً واحداً:
أنهُ يفكِّرْ... جريمةُ الكلامْ."
للحديد آلاتُه: جرَّافةٌ، وطائرةٌ، وجيبٌ عسكري... وللحديد عيوبهُ، تقول القصيدة. وعيب آلة الحديد والموت، هو حاجتها إلى "إنسان" يسوقها، لكن إذا تحوَّل الإنسان إلى آلة، فهو بحاجة إلى من يردعه، لا إلى من يصلحه أو يسوقه، ومن يسوق السائق؟ هنا، تستدعي الذاكرة ثلاث آلات عملت في صفوف "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم،" وأكثرها التزاماً بـ "مبدأ طهارة السلاح." وهي، على الترتيب، من السماء إلى الأرض: دان حالوتس-السائق الطائرة، موشي نيسيم-السائق الجرافة، وشلومو أفنيري-السائق الجيب.
السائق-الطائرة، أو واحد منهم، اسمه دان حالوتس. قضى معظم حياته في الجو. شارك في الغارات العدائية في حروب "إسرائيل" على العرب والفلسطينيين، تخطيطاً وتنفيذاً، منذ العام 1973 وحتى العام 2007. والتصق بالصناعات الجويَّة وصيانة الطائرات وتصنيعها من الفانتوم واللافي وحتى الـ ف16 والأباتشي. كان قائداً لسلاح الجو الصهيوني من 2000-2004، ورئيساً لهيئة أركانه 2005-2007. شارك في اغتيال الشيخ أحمد ياسين على كرسيِّه المتحرك، في 22 آذار 2004، بصواريخ "هيل فاير" من طائرة أباتشي؛ واغتيال القائد العسكري صلاح شحادة في 22 تموز 2002، ومعه قرابة خمسة عشر آخرين نصفهم أطفال، بقنبلة تزن طناً ألقيت من طائرة ف 16. ناهيك عن دوره في عمليات تدمير لبنان في عدوان تموز في العام 2006، وبخاصة في تدمير الضاحية الجنوبية. وعلى الرغم من حكمته في إدارة "خطة فك الارتباط والانسحاب من غزة" في العام 2005، وإطلاقه شعار "بحزم وحساسية"، أي عدم المس بالمستوطنين أثناء إخلائهم "لأنهم ليسوا أعداء الدولة ولا الجيش"... إلا إنه كان الأكثر وحشية في تعريفات "طهارة السلاح" ضد غير اليهود، إذ كان يرى أنها تعني "أن يظل السلاح نظيفاً، جاهزاً للاستخدام." وحين تعالت بعض الأصوات التي تقول بارتكابه وضباطه وجنوده جرائم حرب، وبخاصة بعد اغتيال الشهيد صلاح شحادة، صرَّح لصحيفة "هآرتس" في 24 آب 2002 أنه خطب فيمن شاركوا في العملية: "ناموا جيداً في الليل، كما أنام أنا جيداً. لستم من اختار الأهداف في هذه المهمة. ولستم مسؤولين عن محتوى الأهداف. عملكم كان مكتملاً وممتازاً. هذه المشكلة لن تلقى عليكم. قمتم بتطبيق ما أمرتم بفعله، ولم تنحرفوا ملمتراً إلى اليمين أو مليمتراً إلى اليسار." وحين سألته المراسلة عمَّا يحس به الطيَّار حين يلقي قنبلة تزن طناً على حي سكني في غزة، كان ردُّه: "إن كنتِ تريدين معرفة شعوري عندما أقوم بإطلاق قذيفة من الطائرة، فجوابي هو أني أشعر باهتزاز صغير في الطائرة نتيجةً لإطلاق القذيفة. وبعد ثانية ينتهي الاهتزاز. هذا كل شيء. هذا ما أشعر به."
أما السائق-الجرافة، أو واحد منهم، فاسمه موشي نيسيم. لم يكن عسكرياً جيداً، ولا قائداً، ولم يتحوَّل بعدُ للخدمة في "معسكر السلام الإسرائيلي،" بل كان محض "سائق لمركبة متنقلة،" سكِّيراً، عاطلاً عن العمل، مرتشياً أثناء عمله في بلدية الاحتلال. وحسب واحدة من أشهر مقابلات صحيفة "يدعوت أحرنوت" في العقدين المنصرمين، أجريت في 31 أيار 2002، استدعي "نيسيم" للخدمة العسكرية في معركة مخيم جنين في نيسان 2002. وكان من المتحمسين لحزب الليكود و"البلدوزر شارون،" فجاء إلى المعركة بمعنوية عالية. سلَّموه جرَّافة D9 تزن ستين طناً، ولم يسأله أحد عما في حقيبته الشخصية... كانت مليئة بالويسكي والمكسرات. في المقابلة، أعرب "نيسيم" عن غبطته بأن سياقة الجرافة بددت اكتئابه المزمن، وأنهت إحباطه، سيَّما وأن قائد الوحدة لم يمانع في أن يرفع علم "بيتار القدس،" فريق كرة القدم الأكثر عنصرية، على الجرافة، واتصل بأهله ليشاهدوا ما يفعله بـ"عش الدبابير" على الهواء مباشرة. ومثل حالوتس، لم يكن "نيسيم" يشعر بالانفجارات حوله إلا كـ "كاهتزاز في بطن الوحش" الذي يسوقه. عمل لمدة 75 ساعة متواصلة، وتمنى لو أذنوا له بهدم ما تبقى من المخيم. وبعد انتهاء مهمته، بثَّ حكمته العسكرية: "لو أننا نكرر ما فعلناه في جنين، في غزة، لكان الهدوء يسود الآن. اليوم عندما أنظر للوراء أقول لنفسي: يا للخسارة، ليتني فعلت أكثر من ذلك، أقول ذلك انطلاقًا من الشعور بالمسؤولية. لقد كان يتوجّب علينا تدمير مخيم جنين بأكمله".
وأما السائق-الجيب، أو واحد منهم، فاسمه أوري أفنيري. كان "عنصرياً في الحرب، وعنصرياً في السلام" كما كان يحلو القول. ابتدأ حياته العسكرية في منظمة الـ "إرغون" الصهيونية، وشارك في أعمالها الإرهابية، التي لم يكن أقلُّها إلقاء القنابل على التجمعات العربية، إلى حين انضمامه إلى الوحدات النظامية في جيش الاحتلال الصهيوني. ومن أبرز "مآثره" العسكرية دوره القيادي في وحدة "ثعالب شمشون،" ومن أبرز "مآثره" الأدبية كتابة نشيدها العسكري بعد معركة السوافير، وتطهيرها عرقياً في منتصف أيار 1948. يعترف أفنيري أنه شارك في المعركة الشرسة مع وحدات من الجيش المصري التي قطعت طريق النقب، بقيادة ضابط لامع، تبين لاحقاً أنه جمال عبد الناصر، وأنهم حين غادروا مكان المعركة إلى معسكرهم صعدوا في جيباتهم العسكرية على بعض خنادق الجنود المصريين، وأن عجلات الجيبات دعست، حرفياً، أجساد الشهداء. وفي مقطع آخر من وثائقي خاص مع شركائه في "وحدة ثعالب شمشون"، يتذكَّرون وهم يقهقهون كيف أن الأطباء حديثي التخرُّج، من القادمين من أوروبا الشرقية والمنخرطين في الجيش فور وصولهم، كانوا يتدربون في "جثث العرب، لأنها كانت مجَّانية." بعد أن أنهى سائق الجيب أعماله في معسكر الجيش، تفرَّغ لـ"معسكر السلام،" فحتى السلام يُمارَس في المعسكرات في دولة العدو... وأحبَّه بعض قادة الفلسطينيين، لكن نشيد "ثعالب شمشون"، بصوت "شوشانا دماري" الحماسي، لم يغادر الموسيقى الخلفية لأحاديثه الكثيرة عن السلام:
"أربعة، أربعة
في الجيب السريع،
والأغنية تتسلل عبر القلب،
والدرب في طريقهم يرقص ويغني،
إنه الدرب المؤدي للعدو.
ثعالب شمشون
عادت تنتشر في الفضاء،
تحمل اللهب في الليل،
من غزة إلى غات،
المعركة تحتدم ثانية،
كُرمى لحرية إسرائيل.
اسمعوا يا مصريين
لأغنية شمشون،
يعلن نهاية الفلسطيين،
اسمعوا جيداً للمدفع، للقنبلة اليدوية،
لأغنية الموت لجيش الغزاة.
أربعة، أربعة
إلى المعركة الهوجاء،
الرشاش يقصف بهدوء،
نعم، الرشاش الذي يقذف الحمم جديد،
ولكن النار قديمة، قديمة."
آلات ثلاث، إذن، هي، الطائرة-حالوتس والجرافة-نيسيم والجيب-أفنيري. فما الذي تغيَّر في الجرَّافة مجهولة السائق التي سحقت جسد محمد الناعم، وشنقته، يوم أمس على تخوم غزة؟ لا جديد سوى الخطأ الفادح في قصيدة بريخت، فلم يعد "جندي الجنرال يفكِّر،" لأن الصناعات العسكرية في دولة العدو تمكَّنت من القضاء على عيوب آلاتها تماماً، ومنها "الإنسان،" والشعر. وماذا تغيَّر في مهمَّة الحديد من داوود، الذي ألانَ له ربُهُ الحديد، إلى نتنياهو، الذي ألانَ له ربُّه قلوب قيادة أعدائه الفلسطينيين؟ لا شيء سوى طريقة التعدين، واسم السائق، وما سيكتبه التاريخ في كتاب الفداء.