ما بين "الفاء" في "الفَوْرَة"، و"الثاء" في "الثورةِ"، مسافةُ زمنٍ وقضية، ليس لأن "الفاء" تحلُّ محل "الثاء"، فتنقصُ قيمة الثورةِ إلى أدنى معانيها فقط، بل لأنها تحلُّ مكانها تدريجياً، لتُزهِقَ روحها، ولتُخْرِجَ البلادَ إلى الشارعِ عاريةً لا شيء يقي سوء عورتها أمامَ الجرافةِ والجندي والسلاح والأرض المصادرةِ والشهيد المُنكَّلِ به والأسيرِ المصلوب خلف القضبان.
أمَّا حاملو الرايةِ، فقد ظلُّوا يرددون منذ أن اتبعوا نهج "الفورة"، وفي الغرفِ المغلقةِ، أن كل "ثورةٍ"، لا يتبعها تحرر، تقتضي إدخال الناس، في صمامٍ تفريغي، يظل يُخرجهم نحو حالةٍ أقربُ ما تكون إلى فورةِ ركوة القهوة على النار، تزولُ آثارهُا بمسحهِا بقطعةِ قماشٍ مبللةٍ. وهي قطعةٌ تشبهُ قطعةَ الثياب التي حمت جسد محمد الناعم، أمام أعين الكاميرات، والأعين المفجوعةِ وهي تراقبُ المشهد، فظل جسده المشنوق على يد الدبابةِ متماسكاً بل واقفاً، رغم فتك الدبابة به.
في زمن "الفورة"، يُعادُ إنتاجُ التفاصيلِ الصغيرة والمعاني الكبيرة؛ فيُصبِحُ المناضلُ "الثوري"، مناضلاً "فورياً"، من أبرز صفاته، أنه أكثر أناقةً من "الثوري"، يرتدي ربطةَ العنقِ، ويخطبُ في منصات دولِ العالم، عن الأملِ، عن أشياء جميلة تحيي فيه الأمل، ولا يعودُ ليسألَ سؤالَ الحدود، إذ لا يعودُ سؤالاً معقولاً، لأنه صار سؤال وجود؛ ولا يعودُ سؤال الدفاع بالجسدِ قابلاً للنقاشِ كلُغةِ مقاومةٍ أخيرة، لأنها في زمن "الفورة" تبدو بلا طائلة.
زمنُ "الفورةِ" يُلغي الماضي، ولا يبني عليه، لأن إدارةَ الصراع مع العدو، تتطلب أن يكون "المناضلُ" أقل رمزيةً، أقلَّ بطولةً، أكثر "حذاقةً"، أكثر فخراً بـ "الترتيبات"، بـ "المَرْتَبَات" بـ"المُرَتَّبات"، ثلاثيَّةُ وجودِ الفلسطيني، التي تنبُع من تشكُّلِ البلادِ على شكلِ مسرحٍ، يقومُ فيه الجميعُ بدور "الموظَّفِ الفائر"، الذي يشتكي من ارتفاعِ الأسعار، ويحكي عن ضرورةِ شق طريقٍ جديد، وفي ساعات الملل يلوم الطقس على تعكير صفو مزاجه، ويسألُ في منتصفِ الأسبوع أينَ سنسهرُ ليلةَ الخميس؟
في زمن "الفورة" يقتنعُ الجميعُ، أنه قد قام بالواجب، وأوفى التعزية حقها في "الثائر"، فالفلسطيني الجيد لم يعد الفلسطيني الميت، بل هو الفلسطيني الفائر.
وإنها لـ "فورةٌ ...فورةٌ حتى النصر".